الطاهر مكي ... المبدأ والأصالة
د. محمد عبد العظيم سعود(*)
كان ذلك فى مطلع ربيع عام 1983م حين عرفت أستاذنا
الدكتور طاهر أحمد مكى فى دار شيخنا محمود محمد شاكر، طيب الله ثراه، وأوسع له من
رحمته، وهو من عرفته أول ما عرفته من سفره الهائل (أباطيل وأسمار).
تتزاحم الصور فى مخيلتى، فما أدرى بأيتها ابتدئ، وبأيها
أثنى : أيحملنى أن أول أرض مس جلده ترابها كانت أرض دشنا، فتهتاجني ذكرياتي بقنا، القريبة
منها، بمدرستها الإعدادية حين سلخت من صباي سنتين دراسيتين فيها ؛ وحماستى لفريق
كرة القدم بالمدرسة الثانوية، وكان أبى رحمة الله عليه، ناظرها؟ وها هو حليف دار
الخيالة يتأوب لى، وما برحت أتذكر أفلاماً كانت بها، وكأنى بى فى انتظار الجرائد
اليومية والكتب الدورية التى يحملها إلينا القطار فى نحو السابعة مساءً من كل يوم،
وبها أنباء الدورى العام؟ وقبل كل هذا وفوق كل هذا أحلامى بالجيزة يصلنى إليها
النهر الخالد؟!
أم أن أستاذيته للأدب العربى وعملقته تعود بها القهقرى، كأنها
آلة الزمان، التى ابتكرها الروانى الإنجليزى هـ.ج ويلز، فتتمثل لى صور أساتيذى فى
مدرسة دمنهور الثانوية : دسوقى زايد، السيد فايد، على الزينى، غفر الله لهم
جميعاً؟!
وما فتئت أتأمل كيف اجتمع هؤلاء الأفذاذ، نادروا المثال
فى مدرسة ليست من كبريات المدارس القاهرية، فعاشوا مغمورين، وقضوا مطمورين، فطوتهم
يد النسيان، ولفهم صقيع المنون! وكيف عشت معهم وبهم فى نقائض الفرزدق وجرير
والأخطل، وكيف كنت أحلم أن أبيت بوادى القرى، إنى إذاً لسعيد!
وها هى روائع ابن الرومى والمتنبى وابن زيدون وابن خفاجة
والبوصيرى فى بردته البديعة أشدو بها فى دارنا بدمنهور! وها نحن فى قاعة الدرس
نتطرق إلى العقاد ومي، وطه حسين والشعر الجاهلى، وإيليا أبى ماضى وسلمان، ونكبة
البرامكة، ورزية يوم الخميس! كانت مدرسة، وكانوا أساتذة!
وبعيدًا عن هذه المؤثرات العاطفية والرومانسية، وبكل
الموضوعية فأنت تلقاء شخصية متعددة الجوانب، كل جانب منها يدعوك إلى الإعجاب والتقدير
والاحترام. أول ما تلحظه فى شخصه أنه ليس على استعداد لأن يقول – فضلاً عن أن يكتب
– كلمة واحدة لا يؤمن بها. ابدأ معه أى حديث، وأطرح عليه أى سؤال شئت، تسمع منه
إجابة «لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً». وهو فى تفكيره وتعبيره صورة للأصالة العربية
الإسلامية.
وهو واسع الإطلاع، منقب متدسس، ظاهره على ذلك إتقانه
ثلاث لغات سوى لغته العربية الرصينة، حتى أنه ترجم عن الفرنسية ثلاثة كتب : الشعر
الأندلسى فى عصر الطوائف، لهنرى بيرس، والحضارة العربية فى إسبانيا، لليفى
بروفنسال، وهذه المرأة لى، وهى رواية لجورج سيمنون مع مقدمة عن حياته وفنه
والرواية البوليسية بعامة، وترجم عن الإسبانية خمسة كتب، مع شعراء الأندلس
والمتنبى، للمستشرق إميليو غرسيه غومث (وقد ظهرت طبعته السابعة!)، والفن العربى فى
إسبانيا وصقلية، للمستشرق فون شاك، والتربية الإسلامية فى الأندلس، أصولها الشرقية،
وتأثيراتها الغربية، للمستشرق خوليان ريبيرا، والشعر العربى فى إسبانيا وصقلية، الجزء
الأول، لفون شاك، مناهج النقد الأدبى، لإنريكى أندرسون، وقد طبع أربع مرات.
أما عن الإنجليزية فقد ترجم عنها : الرمزية، دراسة
تقويمية لآنا بلكاين (وهو ترجمة مشتركة)، والثقافة واللغة والتعليم فى مصر الحديثة،
للدكتور لويز آرمين، وينشر فصولاً فى صحيفة دار العلوم.
أما عن نتاجه العلمى فقد ألف أربعة عشر كتاباً منها :
امرؤ القيس، حياته وشعره وقد طبع حتى الآن تسع مرات! ودراسة فى مصادر الأدب وطبع
منه ثمانى طبعات، الشعر العربي المعاصر : روائعه ومدخل لقراءته وقد ظهرت طبعته
الثامنة، القصة القصيرة وطبع للمرة الثامنة.
وقد أولى ابن حزم وكتابه طوق الحمامة فى الألفة والآلاف،
فكتب دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة، وقد طبع أربع مرات، كما أخرج
"تحقيق طوق الحمامة لابن حزم" وطبع للمرة الثامنة.
وحقق كذلك "الأخلاق والسير فى مداوات النفوس"
و "تحفة الأنفس وشعار سكان الأندلس" لابن هزيل.
أبدع أستاذنا كتابين : "السلطان يستفتى شعبه، وحكايات
أخرى"، و"بابلو نيرودا : شاعر الحب والنضال".
أما عن أبحاثه العلمية فقد قدم ستة أبحاث منها مادة
"امرؤ القيس" فى
Dictionary of Literary
Biography, Volume 311: Arabic Literary Culture.
وقد نشرت أبحاثه في الكتب وجهات نظر، والأهرام (فى كتاب)،
دار المستقبل العربى، مجلة "المجلة"، الفكر العربى فى بيروت.
أما عن مقالاته فهى عديدة موزعة على شتى المجلات فى
العالم العربى : الهلال، الملحق الأدبى للأهرام، المجلة، الرسالة، آفاق عربية، الدوحة،
الثقافة العربية، الفيصل، الفكر العربى، البحث العلمى، العربى، وغيرها...
أما عن نشاطاته الثقافية فمتعددة لعل أبرزها عضويته
بمجمع اللغة العربية، ورئاسته لجماعة دار العلوم التى تأسست عام 1934م، رئاسة
تحرير صحيفة دار العلوم، وهى مجلة فصلية محكمة تصدرها جماعة دار العلوم بالقاهرة
منذ إنشائها، وهو عضو المجلس القومى للثقافة والفنون والآداب والإعلام، وعضو مجلس
إدارة دار الكتب والوثائق القومية، زد على هذا عضويته بلجنة الأدب واللغة بالمجالس
القومية.
وكان أمراً طبيعياً أن يكون عضو لجنة منح جوائز التفوق
بالمجلس الأعلى للثقافة، وفى لجان منح الجوائز العربية : العويس فى الإمارات، البابطين
فى الكويت، جوائز التقدم العلمى التى تمنحها حكومة الكويت.
وقد كان من نشاطه الثقافى أن شارك فى أكثر من ثلاثين
مؤتمراً حول التربية والقضايا النقدية والأدبية فى عمان، والرياض، وسوريا، والأردن،
والجزائر، والمغرب، وإسبانيا.
وما كان كل هذا ليشغله عن واجباته الأكاديمية فقد كان
أمين لجنة ترقيات الأساتذة من سنة 1983 إلى سنة 1990. ثم إنه أشرف على أكثر من 40
رسالة دكتوراه فى جامعات متعددة، وعلى أكثر من 45 رسالة ماجستير، وكان عضو لجنة
مناقشة أكثر من مئة رسالة ماجستير ودكتوراه.
ولكل هؤلاء فقد منح مجموعة من الجوائز والأوسمة، فكان أن
نال وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1990، ثم جائزة الدولة التقديرية
لعام 1992، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى مرة أخرى عام 1992، ودروع تكريم
من جامعات ومحافظات المنيا وجنوب الوادى. ثم كانت جائزة التميز من جامعة القاهرة، وهى
أعلى جائزة تمنحها الجامعة عام 2009م.
كانت هذه صورة مجملة عن أستاذنا الطاهر أحمد مكى.
وأود أن أتوقف قليلاً عند نقطتين وردتا في كتابه الفريد
«الشعر العربي المعاصر: روائعه ومدخل لقراءته» بقدر ما يسمح المقام.
ينقسم الكتاب إلى جزءين. أما جزؤه الأول فقد عرض فيه
المدارس والمذاهب الأدبية والنقدية، العربية والعالمية، يحدثك فيه بتركيز شديد، لكنه
واضح، عن العصور الأدبية أما جزؤه الثانى فيورد فيه روائع من الشعر العربى المعاصر
تلمح فيه إعجاباً وتقديراً لشعراء الأحياء والتجديد : البارودى، وشوقى، وحافظ، ومطران،
والجارم.
كما تراه يكن تقديراً كبيراً للعقاد كشاعر، فهو حين
يتكلم عن الأصالة الحقيقية فى الفن يقدم تمثيلاً لا حصراً : شوقى، والعقاد، والسياب،
ونزار قبانى. ويتجلى ذلك كذلك حين يختار ست قصائد للعقاد فى نماذج روائعه هى :
الشتاء فى أسوان، الرجاء، أحلام الموتى، أكذبينى، عم صباحاً عم مساءً، غيرة طفلة.
لكن هذا التقدير لا يمنعه من أن يدفع تحامل العقاد على شوقى، فيقول : "ويمكن
أن نتصور عدداً من الحالات كان النقد المعاصر فيها ظالماً وجائرًا. لقد هاجم طه
حسين الكاتب مصطفى لطفى المنفلوطى، واحتاج إلى نصف قرن من الزمان لكى يعتذر عن
النقد العنيف والسخيف الذى وجهه إليه، وهاجم عباس العقاد أمير الشعراء أحمد شوقى، وحالت
كبرياءه المعهودة أن يعود إلى فضيلة الحق، ونشعر الآن بالخجل ونحن نقرأ هذا النقد
الطافح بالأخطاء، والتحامل والسباب الشخصى".
هذه واحدة، أما الأخرى فتتعلق بموقفه من الشعر الحر، وتلك
المسماة بقصيدة النثر! يؤرخ الدكتور مكى لألوان من التمرد على الشعر فى القديم
والحديث، انتهت كلها إلى لا شئ، وبقى الشعر محافظاً على قوافيه وأبحره، باستثناء
الموشحات الأندلسية. ويعرض لما قام به نجيب حداد (1867 – 1899)، الذى أنشأ جريدة
"لسان العرب"، وعرب بعض الروايات الفرنسية، وأبدع شعراً لا بأس به، ملأ
به ديواناً، وقدم دراسة عن "اللغة والعصر"، وفيها يوازن بين الشعر
العربى والشعر الغربى، لفظاً ومعنى ووزناً وقافية، وصعوبتها فى العربى وسهولتها فى
الغربى. وعلى الرغم من هذا فقد تمرد الغربيون على شعرهم، فكان عندهم الشعر المرسل
والشعر الحر. كما حاول بعض شعراء المهجر وفى مقدمتهم أمين الريحانى وجبران خليل
جبران، وكذلك جميل صدقى الزهادى محاكاة المنفلوطى فى نثره الجميل المتسم بالقوة
والفخامة والجزالة حتى وإن كان يعالج قضايا اجتماعية أو سياسية، مدعين أنها قصائد،
لكنها محاولة وصفها الأب شيخو بأنها "أقرب إلى الهذيان والسخف منها إلى
الكلام المعقول". وتركت هذه المحاولة صداها، لكن مع الجدية والتزام بقواعد
الفصحى عند بعض الشعراء، منهم عبد الرحمن شكرى، وأحمد زكى أبو شادى، كما كانت هناك
محاولات قام بها محمد فريد أبو حديد، ومحمد عوض محمد، وخليل شيبوب، ومحمود حسن
إسماعيل، لكنها لم تلق ترحيباً فانتهت إلى لا شيء.
يقول : "بدأت محاولات التجديد بالدعوة إلى التخلص
من رتابة القافية، دون تركها تماماً، وتنويع التفعيلات دون التخلص من الإيقاع، شئ
قريب جداً مما حدث مع حركة التجديد التى تمت على يد الأندلسيين وأخذت اسم الموشحات،
ولكن التحرر من قيود الفن لم يتوقف، وطريق الانحدار سهل، فتخلص الشعراء
والصغار منهم بخاصة من القافية والوزن، وبالجملة من كل شئ، لينتهوا إلى لا شئ
أيضاً".
ويعرض لموقف الشاعرة العراقية نازك الملائكة، وهى أول من
دعا إلى الشعر الحر، نظرية بعد الحرب العالمية الثانية، ومارسته تطبيقاً، وكان ذلك
فى مقدمة ديوانها "شظايا ورماد" الصادر عام 1949م، وحثت فيه إلى جانب
التحرر من رتابة القافية ومن وحدة النغم، على شعر مبهم، يلعب فيه الإيحاء دوراً
"لأن الإبهام جزء أساسى من حياة النفس البشرية، لا مفر لنا من مواجهته إن نحن
أردنا فناً يصف النفس ويلمس حياتها".
يقول : "وربما كان تحقيق هذه الفكرة هو الجانب
الإيجابى الذى حققه أصحاب الشعر الحر، أعنى الكبار منهم : صلاح عبد الصبور، نازك
الملائكة، وأمل دنقل، وملك عبد العزيز، وبدر شاكر السباب، وعبد الوهاب البياتى، وفاروق
شوشة، وربما آخرون".
ويقول : "ما من إنسان على قدر من الثقافة مهما كان
محدوداً، ومن رحابة الفكر مهما كانت ضيقة يمكن أن يفرض على الشعر العربى أن يقف عن
منابعه الأولى، وأن يدير ظهره للدنيا، لا يتطور معها ولا يتجدد وفقاً لأحداثها، شريطة
أن يجئ التجديد داخل أوزان جديدة وموسيقا بينة المعالم، نابعة من أحاسيس الناس الذين
يقال الشعر لهم وينشر فى لغتهم".
ويشرح لنا كيف أن الشعراء الشبان قد سيقوا إلى الشعر
الحر سوقاً، وقالوه كرهاً، فبينا كانت مجلتا "الآداب" و"شعر"
تعيران صفحاتهما لكل من يخط حرفاً، مادام لا يطلب مقابلاً، فامتلأت صفحاتهما بشعر
ساقط غث لأناس مجاهيل، كان الدكتور لويس عوض يصنع ذلك من خلال موقعه المستشار
الثقافى للأهرام، أيام محمد حسنين هيكل، ومن خلال علاقته الوثيقة بالدكتور ثروت
عكاشة وزير الثقافة آنذاك. وبدأ يمارس تأثيراً قوياً فى الحياة الثقافية بروح
متعصبة، فحال دون أى شاعر عمودى وبين أن يجد طريقاً إلى وسائل النشر والإعلام. فى
الإذاعة أو الصحافة، أو الوسائل الأخرى التى لها صلة بالجماهير، وأفسح المجال
واسعاً عريضاً لكل من يكتب الشعر الحر. وإذا اضطر مجاملة أو تحت ضغوط سياسية، لا
قبل له بدفعها. أن ينشر قصيدة عمودية لشاعر عمودى، نشرها موزعة الجمل، مرحباً
بأنها من الشعر الحر، كما فعل مع كامل الشناوى. وفى هذا المناخ اضطر شاعر يبشر
بمستقبل واعد هو محمد الفيتورى، إلى أن يجارى الركب فيعيد ترتيب فقرات قصائده
العمودية عندما نشرها فى ديوان، موحياً بأنها من الشعر الحر!
وفى هذا الجو الإرهابى تحول شبان واعدون، لما يزالوا
شادين فى عالم الشعر إلى شعراء يكتبون، كما يقول أدونيس إمام الشعر الحر نفسهّ! :
"الواقع أن فى النتاج الشعرى الجديد اختلاطًا وفوضى، وغروراً تافهاً، وشبه
أمية. وبين الشعراء الجدد من يجهل حتى أبسط ما يتطلب الشعر من إدراك لأسرار اللغة
والسيطرة عليها، ومن لا يعرف من الشعر غير ترتيب التفاعيل فى سياق ما، ومع ذلك
يملأ كل منهم الجرائد والمجلات بتفوقه وأسبقيته على غيره، وبمزاعمه أنه نبى الشعر
الجديد ورائده، بل إننا مع القائلين بأن الشعر الجديد ملئ بالحواة
والمهرجين".
كما تراجعت نازك الملائكة عن دعواها بعد ثلاثة عشر عاماً
من دعوتها الأولى، فكتبت تقول فى كتابها "قضايا الشعر المعاصر" الصادر
سنة 1962م : "ومؤدى القول فى الشعر الحر أنه ينبغى ألا يطغى على شعرنا
المعاصر كل الطغيان. لأن أوزانه لا تصلح للموضوعات كلها، بسبب القيود التى تفرضها
عليه وحدة التفعيلة، وانعدام الوقفات، وقابلية التدفق الموسيقى، ولسنا ندعو إلى
نكس الحركة، وإنما يجب أن نحذر من الاستسلام المطلق لها".
وما كادت تنقضى أعوام خمسة بعد هذا القول، حتى كتبت تقول
فى مقدمة ديوانها "شجرة القمر" : "وإنى لعلى يقين من أن تيار الشعر
الحر سيتوقف فى يوم غير بعيد، وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية، بعد أن خاضوا
فى الخروج عليها، والاستهانة بها.
وليس معنى هذا أن الشعر الحر سيموت، وإنما سيبقى قائماً
يستعمله الشاعر لبعض أغراضه ومقاصده، دون أن يتعصب له، ويترك الأوزان العربية
الجميلة".
ويلفتنا الدكتور مكى إلى ظاهرة خطيرة، ألا وهى أن عدداً
كبيراً من دعاة الشعر الحر والمتحمسين له، الثائرين على الأوزان والقوافى، بل وعلى
التاريخ جملة، ينتمون إلى الأقليات فى العالم العربى، دينية أو مذهبية أو عرقية.
إنهم يحاولون تجاوز الحاضر بنسيان الماضى، والبحث فى غياهب الغد عن
"أديولوجيات" جديدة، لا يمثلون فى نطاقها هذه الأقلية التى تعانى عبئاً
نفسياً ثقيلاً، وتقاسى ضغوطاً اجتماعية قاهرة، فى عالم ما برح متخلفاً، تلعب رواسب
الماضي فيه أدواراً فعالة فى تكييف علاقات الناس، وتحديد مواقفهم.
ويذكر الأستاذ أن افتقاد الشعر الحر للموسيقا جعله غير
صالح للغناء، فكانت أغانى المطربين من غير الشعر العمودى تساقط واحدة تلو الأخرى، نقيض
الحال مع قصائد شوقى، وأطلال ناجى، وجندول على محمود طه، وكرنك أحمد فتحى، وغيرها،
التى شدا بها عبد الوهاب وأم كلثوم.
ويقول : "إن الجانب الأعظم من الشعر الحر بقى فى
منتصف الطريق بين الشاعر والجمهور، يعلوه غبار النسيان فى اللحظة التى ولد فيها.
وأرجو ألا يخدع قائلوه بأن بعضاً منه يترجم، فإن صغار المستشرقين يؤثرونه على غيره
لأنه سهل الترجمة، لا يلاقون فى نقله إلى لغاتهم رهقاً ولا عنتاً، وأحياناً لدوافع
سياسية ترتبط بالشاعر، ولا صلة لها بالشعر نفسه".
لكنه لا ينكر أن كانت قلة من قائلية مجيدة، تسلحت له
بثقافة واسعة، فكان انطلاقهم عن معرفة، وقد أثروا الأدب العربى بجنس جديد له
ملامحه الخاصة، لكنه لا يدخل عالمنا الشعرى من أى باب.
ويقول أنه قد يكون ظالماً لهم وللحقيقة، متأثراً بذوقه
وحسب، عندئذ سينتصف لهم التاريخ منادين غيره، إذا ثبتت أنغامهم تلقاء عواصف الزمان
وقواصفه، وهو ما يشك فيهّ!
وهكذا مضت حركة الشعر الحر على حالها غير مأسوف عليها، لم
تترك وراءها شعراً يخلد، ولا يظن أن إبداعها سوف يشغل مساحة فى الأدب العربى، ثم
ابتلينا بتلك الدعية "قصيدة النثر".
يقول الاستاذ إنه مع انتشار الغزو الثقافى الأمريكى
متخفياً وراء رايات العولمة، والحداثة، وثقافة السلام، وشعارات أخرى، وكلها تهدف
إلى طمس الهوية العربية، ذاعت قصيدة النثر فى أوائل التسعينات، متمركزة بداية فى
سوريا، ولبنان، وفلسطين، والعراق، ثم زحفت إلى مصر والجزيرة العربية، والمغرب
العربى، وظاهرها على انتشارها والترويج لها مجلة "شعر" فى بيروت، وكانت
تصدرها المخابرات المركزية الأمريكية، ومجلة "مواقف" التى يصدرها أدونيس،
ولا يعرف لها مصادر تمويل أو جريدة "النهار" اللبنانية، ويصدرها غسان
توينى.
ويقول الدكتور مكى إن الذى أضعف قصيدة النثر، كما أضعف
من قبل الشعر الحر عدة أمور منها :
إن حدود الشعر العربى واضحة وثابتة، وعريقة، أطنابها
وجذورها ضارية فى أعماق التاريخ، والاجتراء عليها يجعل المجترئ عليها مثله كمثل
ناطح صخرة يوماً ليوهنها، فما وهنها وأوهى قرنه الوعل، لكن كتابها ونقادها بدلاً
من أن ينظروا إليها جنساً مستقلاً جديداً، ويرسموا لها الحدود والقواعد التى تميز
بها عن غيرها من الأجناس، أجهدوا أنفسهم، كتاباً ونقاداً، فى إثبات أنها شعر
والبرهنة على ذلك الزعم، بل على أنه شعر يطاول شعرنا العربى، بل ويحل محله، غافلين
عن أن هذا الشعر الذى ينافسونه طاول الفناء ألفاً ونصف ألف من الأعوام.
هذه واحدة، وأخرى، أنهم كما يقول الشاعر الفلسطينى سميح
القاسم : "ثمة جهلة لا يتقنون علم العروض العربى، ولا يعرفون أسرار اللغة
العربية. ومع ذلك فهم يريدون أن يكونوا شعراء ..... والقول بأن قصيدة النثر مهيمنة
ومسيطرة مناف للواقع، فهى لم تحصل على الشرعية الكاملة، ومازالت تواجه علامات سؤال
كثيرة حول مصيرها.
وثالثة، أن بعضهم عجز عن أن يجد له مكاناً بين دعاة
الشعر الحر جهلاً بآلياته، أو لانعدام الموهبة، فتوجه نحو قصيدة النثر.
ورابعة، أنها تفتقد الوزن الموسيقى ولا تأبه له أو تحرص
عليه، وإن كان بعضها قد يأخذ القافية فى الاعتبار.
وبعد، فتحية صادقة لقامة سامقة، ودعاء لها بمديد عمر
ودوام عطاء.
****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك