الاثنين، 12 ديسمبر 2016

الأدب المقارن للأستاذ طاهر مكي.....د. شعبان مرسى





الأدب المقارن للأستاذ طاهر مكي

د. شعبان مرسى(*)

أستاذنا الدكتور طاهر مكي عالم أديب، متنوع الثقافات، متقن للغات عديدة، يظهر كل هذا في كتاباته الوفيرة ومقالاته الكثيرة، ومنها كتابه الرائع عن امرئ القيس وحياته وشعره، وهو يتتبع فيه الأحداث التاريخية التي أحاطت بالملك الضليل ويفسرها تفسيرا مقنعا، ويرسم لنا صورة للشاعر معتمدا على شعره، وما صح من التاريخ المروي عنه، ويورد أقوال العلماء والأدباء ويناقشها، ويثبت ما صح منها، أو ما هو قريب من الحقيقة، ويستخدم مصادر عربية وأجنبية ثرية.
وكتب أستاذنا «دراسة في مصادر الأدب» فعرض أهم مصادره بأسلوب أدبي جميل، وبين مناهجها ومادتها الأدبية، ومدى الثقة فيها، وما تتميز به، وما ينقصها، كما ذكر طبعاتها، وتحقيقاتها وما كان مخطوطا منها.
وألف أستاذنا كتاب "بابلو نيرودا شاعر الحب والجمال" وهو شاعر من أمريكا اللاتينية، وسرد حياته، وذكر أعماله ودواوينه الشعرية، وما تميز به في شعره، والنواحي الإنسانية التي كان يتصف بها هذا الشاعر، كما أورد من شعره شواهد جميلة.
وكذلك كتب أستاذنا عن ابن حزم العالم الفقيه الشاعر الأديب المؤرخ، وعنوان الكتاب "دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة" كما حقق كتاب ابن حزم "طوق الحمامة في الألفة والآلاف"، تحقيقا دقيقا، وقدم له مقدمة علمية مفيدة جدا.
وكتب أستاذنا كتاب "الشعر العربي المعاصر، روائعه ومدخل لقراءته" وهو مختارات من الشعر الحديث تتسم بالجمال الفني، والعمق المعنوي، والمدخل لدراسته مرشد للدارسين، يرشدهم إلى طريق فهمه، وتذوقه على أحسن وجه.
وكتابه "القصة القصيرة، دراسة ومختارات" جمع فيه عددا من القصص القصيرة، واقعية ورمزية ورومانسية وغيرها، ورسم طريقة فهمها ودرسها وما يتعلق باتجاهاتها.
وبجانب هذه المؤلفات ترجم أستاذنا "ملحمة السيد" ودرسها دراسة مقارنة وأبان عما فيها من إشارات، وذكر ما فيها من التواريخ والحروب بين المسلمين والكاثوليك، وأظهر الأثر العربي فيها، ووضح صورة السيد كما جاءت في التاريخ والملحمة، والفروق بينهما.
وترجم كتاب ليفي بروفنسال "الحضارة العربية في إسبانيا" وهو كتاب قيم أنصف المسلمين في الأندلس، ويبين مدى ما أضافوه للحضارة العالمية.
وترجم كتاب غرسية غومث "مع شعراء الأندلس والمتنبى" ترجمة دقيقة أفادت القراء عامة والمتخصصين في الأدب الأندلسي خاصة.
وترجم كتاب "فون شاك وعنوانه" الفن العربي في إسبانيا وصقلية" وهو جزأن : أحدهما خاص بالشعر الأندلسي، والثاني بالفنون الأندلسية الأخرى.
وترجم أستاذنا كتاب "التربية الإسلامية في الأندلس، أصولها المشرقية وتأثيراتها الغربية"، وهو كتاب مهم في التربية، ألفه المستشرق "خوليان ريبيرا"، ذكر فيه طريقة التعليم في الأندلس، والمكتبات التي أنشأها المسلمون في تلك البلاد، ومدى العناية بالأساتذة والطلاب.
وقد حقق أستاذنا كتاب "الأخلاق والسير في مداواة النفوس" لابن حزم تحقيقا علميا دقيقا، وقدم له بمقدمة ثرية.
ولأستاذنا كتاب "دراسات أندلسية" بعضها في الأدب، وبعضها في التاريخ، وبعضها في الفلسفة.
أما كتاب أستاذنا «الأدب المقارن»، أصوله وتطوره ومناهجه "فهو موسوعة حوت قصة الأدب المقارن منذ نشأته حتى الآن، وسأفصل القول عنه فيما يلي :
بدأ أستاذنا كتابه بالأصول الأولى للأدب المقارن وهي الموازنات بين الشعراء، مثلما صنع الآمدي في كتابه "الموازنة بين أبي تمام والبحتري"، ومثلما كتب عبد العزيز الجرجاني في مؤلفه "الوساطة بين المتنبي وخصومه"، وهي كلها داخل أدب واحد هو الأدب العربي.
وعرض أستاذنا للموازنات في الآداب الأوربية. وكذلك ذكر النقائض والمعارضات والسرقات الأدبية والأصالة والتقليد، وأتى بشواهد كثيرة على صحة ما يرى من هذه القضايا المهمة.
وبعد هذه الأصول البعيدة جاء الحديث عن الخطوات الأولى للأدب المقارن، فتتبعها أستاذنا في القرن الثامن عشر في الدول الأوربية المختلفة، وخاصة فرنسا وأمريكا وإيطاليا وانجلترا والاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية والأسيوية والعالم العربي. وركز على ما عمله بنديتو كروتشه في إيطاليا، فقد كان ناقدا فذا وذا أثر بالغ في معاصريه.
وحدد أستاذنا مفهوم الأدب المقارن، وسار مع المصطلح من بدايته، فقال : إن أول من استخدم مصطلح الأدب المقارن هو لابلاس وفرانسوا نويل في كتابهما : "محاضرات في الأدب المقارن"، سنة 1816م، ثم جاء جان جاك أمبير، وآبل فرنسوا فيلمان بعدهما، ورأى أنهما الأبوان الحقيقيان للأدب المقارن. ووضح الدكتور الطاهر العلاقات التي يعنى بها الأدب المقارن، وهي العلاقة السببية وعلاقة الاتصال وعلاقة الشيوع، والتأثير والتأثر.
وركز الأستاذ على مفهوم الأدب عامة، ومفهومه في الأدب المقارن خاصة، وأبان عن غاية الأدب المقارن ومواقف العلماء والأدباء والمفكرين منه. ومن أهم هؤلاء الشكليون الروس والنقاد الجدد في أمريكا، ورد عليهم بحجج بالغة.
ومن أهم الفصول في الكتاب الفصل الخاص بمجالات البحث في الأدب المقارن، وهي الكتب والمجلات، والكتاب والمؤلفون، والتأثير والتأثر، والترجمة والمترجمون، والرحالة ورحلاتهم.
ومن مجالات البحث المقارن الموضوعات والمواقف، وهى مهمة جدا، مثل موضوع البطولة، والحب والموت، والبواعث الدافعة للتعبير عنها، وما يبث فيها من الأقوال المأثورة. وكذلك النماذج الإنسانية العامة، والنماذج الدينية والتاريخية والأسطورية، مثل نموذج الإنسان الطيب، والخبيث والطماع والثرثار والكذاب والخائن .... إلخ.
وفى فصل من فصول هذه الموسوعة حلل أستاذنا موضوع تقسيم الأدب إلى عصور، مثل عصور الأدب العربي، وعصور الآداب الأوربية، ومشكلات هذا التقسيم، وعرض رأي بلاشير في عصور العربي، وختمه بعلاقة العصور بالمقارنات.
ونظرية الأنواع الأدبية فصلها د. الطاهر من حيث فكرتها والصراع حولها بين المؤيدين والمعارضين. وبين الأنواع الشعرية، والأنواع النثرية. أما الأنواع الشعرية فهي : الشعر القصصي والشعر الملحمي والشعر الغنائي والشعر التعليمي والشعر المسرحي. ولم يكن عند العرب مسرح حتى العصر الحديث، فولد المسرح في عهد الخديوي إسماعيل في مصر، ونظم شوقي المسرحيات الشعرية، وعزيز أباظة وغيرهما، وكتب توفيق الحكيم وآخرون المسرحيات النثرية.
وأما الأنواع النثرية فهي : التاريخ والسيرة والسيرة الذاتية والمذكرات واليوميات والرسائل والمناظرات والحوار، والرواية والقصة القصيرة والمقامات. وكان للأدب العربي أثر واضح على الآداب الأوربية، لاسيما الأدب الإسباني، فسيرة عنترة أثرت في نشأة قصص الفروسية عند الغرب، والمقامة أثرت على رواية الصعلكة. وقد حي بن يقظان أثرت على القصص الفلسفي في الآداب الأوربية، مثل قصة روبنسون كروزو.
ومن الأنواع النثرية الفلسفة والمنطق وعلم النفس والنقد بأنواعه : التحليلي والتركيبي والتكاملي والفلسفي عند الأوربيين وعند العرب.
وللمقالة مكانتها السامية بين الأنواع النثرية، خاصة مع شيوع الصحف وانتشار المجلات. وكذلك للخطابة ميزتها، وأهميتها في نشر الأفكار والمعتقدات، شفويا وتحريريا.
وللتأثيرات المتبادلة بين الفنون مكانها في كتاب "الأدب المقارن"، فتحدث المؤلف عن العناية بها في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي فرنسا، وهي أول من فكر في الموضوع. وكذلك التفكير فيها لدى الهولنديين والألمان.
ولم يقف د. الطاهر عند الأدب المقارن، وإنما كتب عن الأدب العام، وتتبع نشأة المصطلح وتطوره ومجالاته، ومناهجه، وذكر أسماء الداعين إليه مثل جوته وغيره.
هذا هو كتاب الأدب المقارن، وهو كما قلت سابقا موسوعة قيمة، تفتح مجالات واسعة للباحثين في الأدب المقارن، وفي غيره، حتى في النقد الأدبي ومناهجه ونقاده، وهو مفيد للقراء عامة.
بارك الله في أستاذنا، وزاده فضلا وعلما..

****




(*) رئيس قسم الدراسات الأدبية - كلية دار العلوم- جامعة القاهرة.

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016

جائزة النيل 2017م



وافق مجلس جامعة جنوب الوادي في جلسته الأخيرة المنعقدة بمقر الجامعة بقنا برئاسة الدكتور عباس منصور رئيس الجامعة على ترشيح الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكى الأستاذ المتفرغ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة لجائزة النيل في الآداب لعام 2017م.

الطاهر مكي يرصد المصادر الأجنبية لأدب مي زيادة ..... كتبه : صلاح حسن رشيد


أخذت مي من جبران خياله، ومن العقاد عقله، ومن طه حسين دأبه، ومن شبلي شميّل ذكاءه، ومن مصطفى عبدالرازق أخلاقه، ومن الحياة رومانسيتها الحالمة» (المازني).
لم تُفاجِئ مي زيادة (1886-1941) الأوساط الفكرية المصرية والعربية، عندما أطلَّت عليها بحضورها الأخّاذ فقط، ولا بجمالها الطّاغي، ولا بثقافتها الموسوعية، ولا بآرائها التجديدية، ولا بتسيُّدها منابر الرجال، واعتلائها منصّات المحاضرة، والدرس، بل، على العكس، كانت مي مجموعة متشابكة من الجمال، والعبقرية، والتفوق في فكرها، بل في شعورها، وذلك هو أعظم النبوغ، وأعلاه. وفي هذه الآونة، تمر 130 عاماً على مولدها، وهذه مناسبة تحضنا على مطارحة فكرها، والاحتفاء بها. فعندما استقرت مي في مصر في عام 1907، كانت صاحبة ثقافة واسعة، ولديها إلمامٌ تام بالآداب الغربية، وكانت آلتها الفكرية، والأدبية قد نمت، وترعرعت، وآتت أكلها. كانت ثقافة مي الرفيعة، تنبع من ثلاثة روافد هي: الفرنسية، والإنكليزية، والإيطالية، وكان لديها إلمام بالأدبين الألماني والإسباني.
تحت عنوان: «المصادر الأجنبية لأدب مي»، يقول الدكتور الطاهر أحمد مكي، في كتابه «في الأدب المقارن دراسات نظرية وتطبيقية»: «ثمة جانب لا يقل أهمية في حياة مي، وأعني به المصادر الأجنبية لأدب مي وثقافتها: ماذا عرفت من لغات، وإلى أي حد أجادتها...».
كان أول لقاء لمي مع اللغات الأجنبية في سن مبكرة جداً، ولا نعرف متى بدأت تتعلم الفرنسية، ولكنها تذكر لنا أنها قرأت للمرة الأولى، وهي في سن العاشرة من عمرها قصة «أبرص بلدة أووستا» باللغة الفرنسية، وهي بقلم إكزافييه دي ميستر، وأُعجِبت بها. وفي مدرسة راهبات عينطورة في لبنان التي أمضت أربع سنوات فيها، ثم انتقلت إلى مدرسة الراهبات اللعازريات في بيروت، وأمضت فيها عاماً، عادت بعدها إلى الناصرة في فلسطين، حيث يقيم أبواها. كانت لغة التعليم في مدارس الإرساليات الكاثوليكية هي الفرنـسيـة، وإلى جـوارها يدرسون شيئاً من اللاتينية، ثم الإيطالية، أو الإسبانية.
كان ديوانها الأول (زهرات حلم) باللغة الفرنسية، وصدر في القاهرة عام 1911. ويتجلى تأثر مي واضحاً باثنين من كبار شعراء الرومانسية الفرنسية، أولهما: لامارتين، وكان ذا طبيعة مثالية، رقيقة ونبيلة والآخر: ألفردو موسيه، وكان متقد الذكاء، خيالياً ساحراً.
إلا أنها تأثرت أيضاً بإثنين من أعلام الرومانسية الإنكليزية، هما: اللورد بايرون، وشيلي، وتأثرها بهما كان من طريق الترجمة إلى الفرنسية. بعد هذا الديوان، لم تعد مي تكتب بالفرنسية إلا بعض المقالات والتعليقات بين حين وآخر، وإنما اتخذت من العربية أداتها. لكن مي بعد أن تركت الفرنسية لغة أداء، لم تتخلَّ عنها لغة تثقيف، فنجدها معجبة بالقاص الفرنسي بيير لوتي (1850-1923) وتأثرت مي في كتابة الرسائل بمدام دي سفينييه (1626-1696).
كما قرأت كتاب (التأملات) لفيكتور هوغو. وعرفت مي المستشرق الفرنسي كليمان وار (1854-1926) وكتابه «تاريخ الأدب العربي» الذي صدرت طبعته الأولى في باريس عام 1902، ولمّا يترجم إلى العربية بعد، وقد اتكأ عليه أحمد حسن الزيات في كتاب له حمل العنوان نفسه. كان الرافد الثاني في ثقافة مي هو اللغة الإنكليزية، وبدأت دراستها بعد وصولها إلى مصر. ونلتقي بها متمكنة في هذه اللغة، تكتب بها المقالات في جريدة «الإجيبشيان ميل» اليومية بتوقيع «خالد رأفت»، وفيها دخلت في مناقشة حامية وطويلة شغلت عدة مقالات بين أخذ ورد حول المجمع اللغوي، والحاجة إليه، ومهمته، واللغة العربية ورقيها، لزمت فيها جانب اللغة العربية في مواجهة سبيرو بك، وكان إنكليزياً من دعاة العامية في مصر.
أما المصدر الأخير، فهو الأدب الإيطالي، ويرجِّح الطاهر مكي أنها كانت تعرف الإيطالية بقدر كافٍ، لأن من يدرس اللاتينية، ويجيد الفرنسية، لا يحتاج إلى كبير عناء، لكي يقرأ الإيطالية، ويتمثل أدبها، فهي تقص علينا في مقال لها بعنوان «تكلموا لغتكم» أنها دخلت مكتبة صغيرة في القاهرة، لبيع الكتب الإيطالية، لتشتري منها بعض أعمال جبرائيل دانزنتزيو، فإذا بصاحب المكتبة يقدم لها مؤلفاته بالفرنسية، فردَّتها، وطلبت منه مؤلفاته الإيطالية الأصلية، لا المنقولة، فسألها عمَّ إذا كانت تريدها لنفسها أم لغيرها؟ فأجابته: بل أريدها لنفسي. فسألها: إذاً تعرفين الإيطالية؟ فردَّت عليه: نعم. كما تعرف مي شاعراً إيطالياً آخر، كان معاصراً لجبرائيل، هو كاردوتشي (1836-1907). فقد تعمَّقت في أدبه، ووصفته في دقة، بأنه صاحب موهبة شعرية ونقدية. وكانت مي، في ما يذكر توفيق الحكيم في كتابه «وثائق من كواليس الأدباء» أول من اكتشف في رسالة بليغة وجهتها إليه في 11/7/1934 لمناسبة صدور مسرحيته «أهل الكهف»، الصلة الفنية والفكرية التي تربطه بالكاتب المسرحي بيرانديللو (1867-1936) وهو من أخصب الكُتّاب الإيطاليين إنتاجاً، وحاز جائزة نوبل للآداب عام 1934، وظل يُعَدُ لفترة غير قصيرة مُجَدِدَ المسرح الغربي كله.
أما عن اللغة الألمانية، فقد تعلمتها مي في القاهرة في شتاء عام 1910 على يد سيدة بروسية، وربما شدَّها إلى الألمانية، أنها حفلت على امتداد القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر بجمهرة من خيرة المستشرقين. وليس من قبيل المصادفة، أن الرواية الوحيدة التي اختارت أن تترجمها من الأدب الألماني إلى العربية هي «الحب الضائع» للمستشرق مكس موللر (1823-1900). فقد صادفت الرواية في أعماقها مزاجاً رومانسياً، وبدأت تتمرس بالألمانية من طريق الترجمة، ومع أن مفرداتها كانت محدودة، فقد كانت تكتفي بأن تحيط بالمعنى العام، وبعد الترجمة، رأته ليس حباً ألمانياً فحسب، وإنما خلاصة بسمات الإنسان وعبراته، فسمَّته حين نشرته عام 1912 «دموع وابتسامات». لكنها بعد أن تمكنت من الألمانية، أعادت ترجمته متقيدة بالأصل معنى وتعبيراً، وصدرت طبعته الثانية في عام 1921.
يرى الطاهر مكي أن علاقة مي باللغة الإسبانية، كانت متواضعة، فقليلاً ما نقع في أعمالها على اسم لكاتب، أو شاعر إسباني، باستثناء استبيان منويل دي فيغاس. ونجدها تقارن في دراستها عن عائشة التيمورية بينها، وبين مارية تيريسا دي أبلة (1515- 1582) وكانت شاعرة عظيمة، وتقية متصوفة. ومن الغريب، أننا لا نلمح أي صدى للأدب الروسي في كتابتها، ولو من طريق قراءته في لغات أخرى، على رغم أنها كتبت عن المساواة، والاشتراكية، والبلشفية، ربما لأن ما كان رائجاً منه على أيامها هو القصة والرواية، واتسما بالواقعية، وكانت هي مندفعة نحو الرومانسية، والطبيعة، وتغرق في الذات.
المصدر: موقع الحياة

الأحد، 30 أكتوبر 2016

الاتجاه التكاملي في فكر الدكتور الطاهر مكّي.........د. يوسف نوفل





الاتجاه التكاملي في فكر الدكتور الطاهر مكّي

د. يوسف نوفل(*)

لا ينفصل عطاء الدكتور الطاهر مكّي عن عوامل تكوينه، ومناخ نشأته وميلاد مواهبه، وروافد تغذيته وتثقيفه، وهو ما يمكن الوقوف على تفاصيله، بسهولة ويسر، لمنْ يلمّ بتفاصيل سيرته، وخطوات مسيرته، وتقلّب وجهه في آفاق المعرفة والعلوم، والتجارب، والمواقف، وحلّـه وترحاله، وبعثاته وأسفاره، ولغته المحلية، بين ما اكتسب من لغات، وأطلّ من نوافذ، ونظر من كوى، وارتقى من منارات.
تفاعل ذلك كله تفاعلا خلاّقا، في تدرّج منطقي، ينضج على مهل ماضيا من حلقة صغرى، إلى أخرى كبرى، إلى ثالثة أكبر، بدءا من أضيق دائرة معرفية إلى أوسعها وأرحبها، متدرجا، وناهلا من أصالة الصعيد إلى تنوع القاهرة في مرحلة من أزهى مراحلها الحضارية والثقافية، بأعلامها، وأنشطتها، وهو يسعى بين نواديها، ومنتدياتها، ومحافلها، ومؤسساتها وكياناتها، ومهرجاناتها وحفلاتها، ملتقيا بالأعلام والعلامات، والقامات والهامات، ممن يضيق المقام عن حصرهم وحصر عطائهم، ممّا هو مسجّل في تاريخ الأدب والثقافة في مصر قبيل منتصف القرن الماضي، وبعده، ثم ليكمل مسيرة عطائه في مرحلة لاحقة. لا متلقيا، وآخذا وتأهلا، كما كان شأنه في مرحلة التكوّن والتكوين. بل معْطيا، ورائدا، ومسْهما، ومعلـّما في مجالات تعددتْ بقدر تعدد غذاء روحه العلمي والأدبي، وتنوعت بقدر تنوع الروافد والمنابع، وتكاثرتْ وتعاظمتْ حسب تعاظم دور المؤثرين فيه من الأجيال السابقة له، وحسب تفاعل دور المتلقين عنه من تلامذته وأتباعه ومريديه، والمعجبين ـ بل المفتونين ـ به وبعلْمه وبثقافته وموسوعيته وغزارة مكنونه، وفوق ذلك كله دماثة إنسانيته، ورحابة صدره، وفائض علمه، وفيض حنانه، وإشراقات حبه الصوفي لأبنائه وروّاد ناديه، ممن تنوعت أعمارهم بين سني الشيخوخة والهرم، ومرحلة الكهولة، ووسطية العمر، وشباب العلم، وطلاب الجامعات، وهو بين تعدد الطبقات، والسمات، والانتماءات، والمعتقدات، والقامات، والأعمار، واحد في عواطفه ومواقفه والتفاتاته تجاههم جميعا، وكأنه الحاكم العادل الذي يساوي بين رعيته، وما هو هنا إلا الأب للجميع يساوي بينهم حبا وعطاء واهتماما برغم ما بين الجميع من تباين.
هذا التنوع الخلاّق في تكوينه ـ من ناحية ـ ، وفي علاقاته ـ من ناحية ثانية ـ وفي إبداعه وعطائه ـ من ناحية ثالثة ـ يجعلك تراه جامعا في جعبته بين التنوع، وضاربا بأسهمه، أيضا، بما في ذلك عضويته بمجمع اللغة العربية، في تنوع واضح فريد؛
إذْ تعددتْ وتنوعتْ مؤلفاته وترجماته تعددا وتنوعا يرسم الصورة التكاملية لعطائه العلمي والثقافي والحضاري في وجوهه المتنوعة بين:
دراسة الأعلام، سابرا الأفهام:
منتقلا بين: امرؤ القيس، حياته وشعره، ودراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة، وغيرهما.
ودراسة الأدب المقارن في عالميته وإنسانيته: تنظيرا وتطبيقا:
بين: ملحمة السيد، دراسة مقارنة لأقدم ملحمة إسبانية، مع ترجمة النص إلى العربية، والأدب المقارن: أصوله وتطوره ومناهجه، وفي الأدب المقارن: دراسات نظرية وتطبيقية، ومقدمة في الأدب الإسلامي المقارن.
والشعر العربي المعاصر: روائعه ومدخل لقراءته
ومصادر الأدب :
دراسة في مصادر الأدب.
والقصة:
القصة القصيرة، دراسات ومختارات
الأدبية: وغزارة الدراسات
بين كتاب ابن حزم، دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة ، والأدب الأندلسي من منظور إسباني، ومقال دراسة عن الحرب الأهلية الإسبانية في موسوعة أحداث القرن العشرين، ومقال حينما كانت إسبانيا تتكلم العربي وتدين بالإسلام، مجلة الكتب وجهات نظر، والعالم الإسلامي في مطلع القرن التاسع عشر كما رآه الرحّالة الإسباني دومينجو باديا (علي بك العباسي).
والتأثير العربي، وهو ما يعزز منظور الأدب المقارن:
أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوربي الوسيط.
وتحقيق التراث العربي:
طوق الحمامة في الألفة والآلاف لابن حزم، والأخلاق والسير في مداواة النفوس
والإبداع الأدبي:
السلطان يستفتي شعبه، وحكايات أخرى، وبابليونيرودا: شاعر الحب والنضال.
والترجمة عن الفرنسية:
الشعر الأندلسي في عصر الطوائف لهنري بير يس، والحضارة العربية في إسبانيا لليفي بروفنسال، وهذه المرأة لي، رواية لجورج سيمتون مع مقدمة عن حياته وفنه، والرواية البوليسية بعامة.
والترجمة عن الإسبانية:
مع شعراء الأندلس والمتنبي للمستشرق إميليو غرسيه غوميث، والفن العربي في إسبانيا وصقلية للمستشرق فون شاك، والتربية الإسلامية في الأندلس، أصولها الشرقية، وتأثيراتها الغربية للمستشرق خوليان ريبيرا، والشعر العربي في إسبانيا وصقلية لفون شاك.
والترجمة عن الإنجليزية:
مناهج النقد الأدبي لإنريكي أندرسون، والرمزية، دراسة تقويمية "بالاشتراك" لآنا بلكاين.
والسيرة الذاتية:
رحلتي في الحياة بين كتـّاب القرية ودواوين الشعراء
هكذا نجد أنفسنا أمام ظاهرة ثقافية فريدة تجمع بين قديم وحديث، شرقي وغربي، محليّ وعالميّ، إسلامي وعربي وأوروبيّ، وقد اجتمع هذا المزيج الفريد في بوتقة خلقتْه خلقا جديدا فن تنوع خلاّق.
هذا المزيج الذي تحدثنا عنه قد يعود بنا إلى سابق عهده بمنبر عريق في مجلة الرسالة، التي أصدرها أحمد حسن الزيات، وصدر العدد الأول منها في 15 من يناير 1933، والهلال التي صدرت سنة 1892، ومنبر عريق في صحيفة الأهرام، وغيرها مما صدر من مجلات وصحف منذ الربع الثاني من القرن الفائت، بقضاياها، وكتابها، ودورها في الحياة الثقافية، مما يطول حصره بالكتابة والإسهام في حواراتها، وإثراء الكتابة فيها ، ومن ذلك:
رئاسته تحرير مجلة أدب ونقد التي صدر عددها الأول في يناير 1984وقد كان لذلك كله تأثير واضح فيه، فمن خلال تلك المنابر أعجب وتأثر بكتابها: الزيات، والعريان، وشاكر، والرافعي، وطه حسين، والعقاد، وهيكل، وأمثالهم.
وفي النشأة الأولى في قريته كان لشاعر الربابة تأثير فيه، وفي خياله، كما حدثنا، وكما حدثنا من قبله طه حسين.
وفي القاهرة كان تردده على الندوات، والمهرجانات واللقاءات الثقافية،ومنها ندوة الجامعة الأمريكية، وفيها رآى طه حسين، ورآى غيره من المفكرين،
وكان التأثير الأكبر لدار العلوم بأساتذتها، وأعلامها، ومناهجها، وعلومها،
وأول من أثر فيه تقارنيا إبراهيم سلامة، ثم محمد غنيمي هلال، وفي إسبانيا أستاذته، ومنهم: إميليو غرسيه غومث.
وكان حقا علينا، نحن معاصريه، أن نكتب عنه للأجيال القادمة، وإنْ قصّرْنا، فبحسبنا ما صنع غيرنا، ومما كتب عنه:
حسام الخطيب في آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا، وعلي شلش في الأدب المقارن بين التجربتين الأمريكية والعربية، ورسالة الدكتوراه لتلميذتي الدكتورة يمنى رجب، وهي رسالة لنيل درجة الدكتوراه عنه وعن عطائه التقارني، بكلية البنات، جامعة عين شمس.، حيث كان لي شرف الإشراف عليها.
****



(*) أستاذ الأدب والنقد - كلية البنات – جامعة عين شمس.

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

الطاهر مكي.. الوجه الآخر !





الطاهر مكي.. الوجه الآخر !

د. حلمي محمد القاعود(*)

- 1 –
لا أذكر في أية سنة من الستينيات في القرن الماضي عرفت أستاذي الدكتور الطاهر أحمد مكي (1924 -.. ). ولكني رأيته لأول مرة بعيدا عن المحاضرات ومدرجات الدراسة في حديقة دار العلوم بالمنيرة ( المبتديان )، وحوله مجموعة من الطلاب والطالبات، وكان يتكلم في الشأن العام بجرأة غير معهودة في عصر كان شعاره " الحيطة لها ودان !". كان يتكلم عن الحرية وحق المواطن في التعبير عن رأيه وأشياء أخرى تصب في هذا السياق لا أذكر عباراتها بدقة. كنت في ذلك الحين أكتب بعض المقالات والموضوعات وأنشرها في بيروت، وأحاول بطريقة ما أن أعبر عن أشواق الإنسان المصري الذي سحقته الثورة " المباركة "، وأذلته أمام العدو النازي اليهودي في فلسطين، وجاء لقاء الطاهر مكي في حديقة دار العلوم ليعطيني مددا غير مسبوق في الجرأة عند الحديث عن قضايا الأمة المكلومة.
لم يكن الرجل مثل الآخرين الذين ينكفئون على موادهم وكتبهم العلمية لا يخرجون عنها ولو بكلمة، ويحترسون في كل لفظ يفوهون به، أو يضعون بينهم وبين طلابهم متاريس من الفوقية والجهامة كي لا يقترب منهم أحد، وربما عوّضوا ذلك باستعراض مفتعل في مناقشات الماجستير والدكتوراه يقهر الطالب ويؤذيه. كان الرجل قريبا من كل طلابه، بسيطا في ملبسه وكلامه الذي مازالت تسيطر عليه آثار من اللهجة الصعيدية المحبّبة، ويجيب على كل سؤال يوجه إليه من أي سائل، ويبدو في كل الأحوال ابن الناس الذي يمشي على الأرض دون مرح أو خيلاء.
اقتربت منه كثيرا في المناقشات العلمية والسفر الطويل إلي بعضها في أسيوط والمنيا، وتداولت معه كثيرا من القضايا والحكايا والأسرار ،واستمتعت بروحه الإنسانية البسيطة ،وتشربت منه حب المعرفة والرحلة، ولا أظنني مللت سماعه، ولا سئمت لقاءه، ولولا ظروفي الصحية التي أقعدتني عن الحركة إلآ لضرورة ملحّة ما انقطعت عن التواصل معه والنهل من معينه العذب.
وحين طلب مني الكتابة عنه لتكريمة كانت سعادتي كبيرة لأقدم إليه بعض السطور عرفانا بفضله، وحبا لشخصه، واعتذارا عن تقصير السلطة في تقديره، مع أنها تقدر من أهم أقل منه قامة وقيمة وما أكثرهم، فنحن طلابه وتلاميذه نعرف قيمته الحقيقية ونقدره حق قدره أفضل من أية سلطة لا تلتفت إلا إلى نوعية معينة وفصائل خاصة.
أقدم الوجه الآخر لأستاذ الجامعة الذي لا يكتفي بأضابيره وبحوثه، أو الأستاذ الذي يقود أمته للنجاة من قيود الرق، وسطوة الطغاة، والمثقفين الذين يخدمونهم ويضللون الشعوب ويدلسون عليها.
يمكن لغيري أن يقدم جهد الرجل في المجال العلمي باستفاضة باحثا في الأندلسيات أو محققا لكتب التراث أو مترجما لبعض الأعمال الأجنبية المهمة، أو استاذًا في مجال التخصص مع طلابه في مرحلة الليسانس أو الدراسات العليا وهو مجال تفوق فيه وأثبت أستاذية يدين بالفضل من خلالها عدد كبير من ألوف الطلاب والباحثين في مشارق الوطن العربي ومغاربه، فضلا عن بلاد إسلامية عديدة.
يمكن القول إن الوجه الآخر للطاهر مكي في هذا المجال هو التضحية بتكوين أسرة لينجب أبناء أعزاء يعرفهم العالم العربي والإسلامي. وهو مواجهة الأوضاع الفاسدة في التعليم والثقافة والسياسة والمجتمع. وهو التنبيه إلى الأخطار التي تحدق بالأمة والوطن والناس.
في مجال البحث هناك أبناؤه:
امرؤ القيس: حياته وشعره (1968).
دراسة في مصادر الأدب (8 196 ).
بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال (1974).
دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة (1976).
القصة القصيرة: دراسة ومختارات (1977).
مع شعراء الأندلس والمتنبي (1978).
الشعر العربي المعاصر: روائعه ومدخل لقراءته (0 198 ).
دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة (1980).
الفن العربي في إسبانيا وصقلية ( 1980).
الشعر الأندلسي في مصر(1990).
الأدب الأندلسي من منظور إسباني (1991).
الشعر العربي في إسبانيا وصقلية ( 1991).
مناهج النقد الأدبي (1991).
الشعر العربي المعاصر: روائعه ومدخل لقراءته (1996).
في الأدب المقارن : دراسات نظرية وتطبيقية (1988).
الأدب المقارن: أصوله وتطوره ومناهجه ( 1989).
مقدمة في الأدب الإسلامي المقارن (2002).
أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوروبي الوسيط (2005).
وفي مجال التحقيق هناك ابناه بالتبني :
طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي (1977).
"الأخلاق والسير في مداواة النفوس" لابن حزم الأندلسي ( 1985).
وفي ميدان الترجمة هناك أبناء روحيون :
ملحمة السّيد (1970)
الحضارة العربية في إسبانيا ـ ليفي بروفنسال - عن الفرنسية (1980).
الشعر الأندلسي في عصر الطوائف - عن الفرنسية( 1990).
التربية الإسلامية في الأندلس: أصولها المشرقية وتأثيراتها الغربية ـ خوليان ريبيرا (1980).
الوجه الآخر للطاهر مكي هو دوره العملي في الدفاع عن الحرية والكرامة الإنسانية وحق الوطن في الاستقلال والانضمام إلى قافلة بناة الحضارة والمنتجين للثقافة الأصيلة.

- 2 -
ما أردت أن أشير إليه هنا هو دوره الثقافي في توجيه النخبة إلى مواجهة الواقع المتردي للأمة العربية، ومقاومة عوامل التحلل والاندثار والفساد، وخاصة الفساد السياسي والثقافي الذي تسرب في خلايا الأمة بتقديم الفكر الزائف والأدب الرخيص والفن الهابط.
لقد بدأ دوره في الشأن العام مذ كان طالبا صغيرا في ربعه الريفي بكيمان المطاعنة التي كانت تابعة يومئذ لمديرية قنا، وصارت الآن تابعة لمحافظة الأقصر، بقراءة الصحف اليومية لأهل قريته وإن لم يفهم معظم ما يقرأ، ولكنه يؤدي دورا مهما يعني الناس ويشغلهم، ويسعون إلى فهم أبعاده، ثم مشاركته وهو طالب في المعهد الدينى بقنا في النشاط المعادي لدولة الاحتلال الانجليزي بالخروج في المظاهرات والهتاف ضد المحتل المتوحش، وتتاح له الفرصة في قريته ليقابل شخصية من أهم شخصيات زمانه وهو الإمام الشهيد - بإذن الله - حسن البنا فيصاحبه ويتعرف عليه وهو في مقتبل حياته، ويعجب بمنهجه وسلوكه ودقته ونظامه، وحين ينتقل إلى القاهرة للدراسة في المعهد الديني الثانوي يزداد معرفة به، وهو ما أهله ليكتب عنه أجمل مقال يترجم له في مجلة " الدوحة " القطرية، وسنعرض له بعد قليل إن شاء الله، ثم يتابع نشاطه في الانخراط ضمن المظاهرات الرافضة للاحتلال والاستبداد، وتشغله الدراسة والتخرج في دار العلوم والانبعاث إلى الخارج ( إسبانيا خاصة ) ويعود ليؤدي دوره معلما في الجامعة، ولكنه ليس أي معلم، إنه رائد في توجيه الشباب نحو المعاني الكبيرة والمثل العليا وبناء الأوطان على أسس الحرية والديمقراطية والعدل.
كانت مشاركاته في الحياة العامة خارج أسوار الجامعة سعيا لتحقيق هذه المثل وتلك المعاني لدرجة أنه انضم لحزب التجمع الذي يضم خليطا من اليسار واليمين والقوميين، ولكنه غادره قبل أن تصل به الحال ( أي الحزب ) إلى تحكم القيادة الشيوعية فيه وهروب آلاف المنتسبين إليه حين اكتشفوا ولاءه الحميم للنظام المستبد الفاشي نظير مكاسب تافهة مثل تعيين بعض قياداته في مجلس الشورى أو مجلس الشعب.
كانت رغبة أستاذي الطاهر مكي في الإصلاح والتغيير وبناء نظام ديمقراطي حقيقي من وراء هذه التجربة الحزبية التي لم تستمر، فقد جرّب أن يترشح لمجلس الشعب، ولكنه اكتشف طبيعة النظام الذي لم يكن مخلصا في حديثه عن الديمقراطية، وكان محترفا في تزوير الانتخابات وتمرير من يريدهم من النواب المصفقين والهتيفة حتى لو لم يحصلوا إلا على أصواتهم وأصوات المحيطين بهم دون أن يحصلوا على الأغلبية.
شارك الدكتور الطاهر في نشاط الحزب الثقافي وكانت هذه نقطة إيجابية إلى حد ما، وتولى تأسيس مجلة الحزب الأدبية واسمها " أدب ونقد "، وأخذت المجلة تمضي قدما في ظل تسامحه ورحابة صدره، وإيمانه بتعدد الآراء والاتجاهات، ولكن القوم - وكانوا يتولون إدارة التحرير والتنفيذ - غلب عليهم طبعهم الإقصائي، فحوّلوها إلى مجلة ذات اتجاه واحد، وانغلقت على دائرة معينة، وما كان من الرجل إلا أن ترك الجمل بما حمل، وأعتقد أن هذا كان آخر عهده بحزب التجمع الذي انهار بعدئذ انهيارا غير مسبوق !
واكتفى الرجل بعدئذ بكتاباته في بعض المجلات والصحف، يعبر عن أرائه في الشأن العام والشأن الثقافي، ويطرح أمنياته لتحسين الأوضاع هنا وهناك، وكانت السن المتقدمة تفرض نوعا من تقليل النشاط خارج الجامعة ليتركز حول التدريس ومناقشة بحوث الماجستير والدكتوراه والمشاركة في بعض اللجان الثقافية النوعية، فضلا عن المشاركة – بحكم العضوية - في نشاط المجمع اللغوي بالقاهرة.
ولا حظت أن آراءه التي تظهر في أحاديثه الصحفية ومقالاته التي ينشرها في العقدين الأخيرين تواجه ما يجري في الحقل الثقافي بوضوح قاطع، مما ترك أثرا أو رد فعل تمثل في تجاهله وعدم مشاركته في الأنشطة الثقافية الرسمية، وعدم منحه الجائزة الكبرى التي كانت تسمى جائزة مبارك وصارت تسمى جائزة النيل بينما حصل عليها من أهم أقل منه قامة وقيمة، صحيح أنه نال جائزة الدولة التقديرية، ولكن حين ينال الجائزة من هم أقل منه بكثير ؛ فمعنى ذلك أن الأمور مقلوبة، وليست سوية على صراط مستقيم. الرجل في كل الأحوال لا يعبأ بمثل هذه الأمور، فقد نذر نفسه للعلم، ويرى فيه لذة لا تعادلها لذة أخرى.
- 3 -
لا تتناقض مواقفه في القضايا العامة والثقافية مع سلوكه العام، ولا يبتعد عما يمليه الضمير الحي الذي يعرف مصالح وطنه وقومه، ويفقه طبيعة الفطرة والإنسانية في الصورة النقية، ويرفض الفساد والظلم والقهر، ويقف إلى جانب الطهارة والعدل والكرامة. وفي الوقت نفسه يتابع ما يجري على الساحتين المحلية والعالمية متابعة دقيقة، ليعرف أبعاد ما يحدث ونتائجه، ولذا تأتي آراؤه واقعية واضحة.
في العام الماضي صدر قانون يتيح لليهود العودة إلى إسبانيا بعد قرون من طردهم منها ولا يتيح للعرب والمسلمين الفرصة نفسها. وبـحكم أنه عاش في إسبانيا فترة طويلة في شبابه، وتابع تطورات الحياة فيها بعدئذ وعلاقته المستمرة عن طريق السفر لحضور المؤتمرات أو المناسبات، والاطلاع المستمر على أحداثها وأمورها كان جوابه العميق التالي مع بعض الإيجاز. يقول :
" من معجزات فرانكو أنه كان يرى أن سوءات العالم ثلاث: الصهيونية، والشيوعية، والماسونية. وكان يعتقد أن الصهيونية هي التي صنعت الشيوعية وصنعت الماسونية، لتصل إلى أهدافها، وتحقق مرادها. وبرغم كل الهجوم الأوروبي عليه، ورغم حملات حصاره، فإنه لم يسمح لهذه المؤسسات الثلاث أن يكون لها نفوذ في إسبانيا. لأنه كان يرى أن الصهيونية دعوة مخربة، وهي التي غذّت العالم بكل الأفكار التخريبية.
 وقال د. مكي : إن اليهود لهم طريقتهم في التسرب إلى الشعوب، وعندما علموا أن الإسبان يهتمون بثقافتهم، ويعتزون بها إلى أقصى مدى، أرادوا أن يتقربوا من الإسبان، فعيّنوا سفيرهم في البرتغال المشهود له بالثقافة سفيرا لهم في إسبانيا، ودخل قلوب الإسبان ليس بوصفه سفيرا، ولكن بوصفه مثقفا، فاستطاع أن يجمع الإسبان حوله.
استطاع السفير الإسرائيلي أن يحصل على موافقة رئيس الأكاديمية الإسبانية بزيارة الأسر اليهودية في إسرائيل التي كانت تتكلم الإسبانية القديمة وطردت.
بعد أن عاد رئيس الأكاديمية الإسبانية إلى وطنه إسبانيا كانت أول كلمة يقولها “إن من الغباء ألاّ تعترف إسبانيا بإسرائيل وهي مركز من مراكز نشر الثقافة الإسبانية في الشرق الأوسط”. وأردف أن من الأسباب التي أثارت حفيظة اليهود ظهور حركة في إسبانيا تدعو للاهتمام بالتراث الإسلامي، بدأت في أوائل القرن الماضي، وبدأت بشكل سهل، واستطاعت الحركة أن تنصف قليلا الحضارة العربية. وعلى إثرها صار الإسبان يدرسون الفترة العربية على أنها ليست استعمارا، و بدأوا يدرسون " الحكم الثاني " رجلا عظيما، و"عبد الرحمن الناصر" أعظم خليفة، و" مسجد قرطبة " أعظم مساجد العالم.
كل هذا أزعج اليهود وهم لا ينتظرون حتى تفاجئهم الأحداث، فبدأوا من خلال الكنيسة لتحقيق ما يريدون، مستغلين أن إسبانيا توجد بها حرية للدخول والخروج في ظل القانون الإسباني. وانتقد الدكتور مكي ركون العرب وكسلهم تجاه ما يحاك ضدهم من اليهود الذين لا يكادون يهمدون في سبيل توطيد مصالحهم ونفوذهم في العالم كله، برغم أن النصارى في إسبانيا يكرهون اليهود أكثر مما يكرهون المسلمين.
في ذلك الوقت كان لمصر معهد تنفق عليه، كان يرأسه رجل لا يؤمن إلاّ بنفسه، حتى إن إسبانيا شكت من أنه جمّد العلاقات الثقافية بين مصر وإسبانيا، وحال بين التواصل الثقافي بين إسبانيا ومصر. ( رأي اليوم 4/3/2014).
وفي حواره السابق يشخص أزمة الثقافة في مصر، بأزمة مثقفيها الذين جاء ثلاثة أرباعهم من القري حفاة، وبعد أن فتح الله عليهم وذاقوا طعم الترف، نسوا كل المبادئ التي كانوا يؤمنون بها، ويضيف: ما زلت مؤمنا أن من يتولون مسئولية الثقافة هم كارثة هذا الوطن، مشيرا إلى أن ظاهرة "عبده مشتاق" انتشرت انتشارا كبيرا في أوساط المثقفين، لذلك فهو يحس بشيء من الأمل عندما أقرأ أن فلانا اعتذر عن عدم قبول أحد المناصب.
وانتقد الدكتور مكي غالبية المثقفين الذين هم جاهزون ومستعدون في سبيل الوصول لغايتهم أن يرضوا بكل شيء، ويوافقواعلى كل شيء، ويدوسوا على كل شيء.
ويضرب مثلا على تراجع حركة النشر الثقافي بمؤسسة دار المعارف التي تركها سيد أبو النجا رئيس مجلس الإدارة في السنة التي أنشئت فيها مجلة أكتوبر، وكان بها من الرصيد نحو سبعة ملايين جنيه استرليني. وجاءوا بأنيس منصور الذي عيّنه السادات رئيسا لتحرير " أكتوبر "، فتراجعت دار المعارف وانهارت، وتوقفت كل السلاسل الناجحة مثل : تراث الاسلام، ذخائر العرب، المكتبة الأدبية وغيرها.
 أما مؤسسات النشر التابعة لوزارة الثقافة فهي لا تنشر إلا للصحافيين رهبة منهم، وسعيا لكسب رضاهم. وكانت النتيجة أن انهارت الهيئات الثقافية الحكومية، وبدا أنها غير جادة في نشر الثقافة. وأصبحت تطبع الأعمال الكاملة لمؤلفين لا تقرأ كتبهم.
وقال بأسى : توجد عندي وثائق بين مقاطعة كاتالونيا الإسبانية والدول العربية والإسلامية في القرن الرابع عشر، ولا أجد من ينشرها.
وردا على سؤال: كيف ترى تعثر ثورات الربيع العربي؟ أجاب د. الطاهر:
برغم أن خصوم الثورات العربية كثر وأقوياء، وعندهم خبرة في إفساد الثورات الطيبة،وبرغم كل المتاعب والبلاء، فإنني متفائل، ولكن الثمن قد يكون غاليا.
وفي حديث إلى صحيفة الجريدة الكويتية 5/8/ 2013 ،حدد الثقافة بأنها موقف ومن لا موقف له فهو ليس مثقفاً بل تاجر كلام. اليوم لم تعد ثمة مبادئ أو غايات محددة، وإنما ثمة من يبيع ويشتري ويستفيد، وتجده يرقص على كل الأنغام ويأكل على كل الموائد. إجمالا اختفى المثقف الحقيقي في مصر منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، والذين بقوا في الساحة إما اعتزلوا إذا كانوا من القدامى أو رحلوا، فيما تنقص الشباب خبرة وتجربة وقدوة.
وأجاب عن رأيه في قصيدة النثر بأنها مصطلح ينقض بعضه بعضاً، فالقصيدة لا تنسجم، قطعاً، مع النثر.
ويدلي برايه في أحوال الترجمة في الوقت الراهن فيرى أنها توقفت مع الجيل الماضي، مع محمد عبد الهادي أبو ريدة والدكتور محمد عوض وهما مترجمان عظيمان. ويشير إلى إحدى المؤسسات التي يفترض أنها أنشئت للترجمة خصيصاً حيث العجب العجاب، كأن يُنشر كتاب نشر في مكتبة الأسرة أو آخر مترجم منذ عشر سنوات أعاد مترجم آخر ترجمته، وأحياناً نجد المراجع يتقاضى أضعاف ما يتقاضاه المترجم.
ويجيب على سؤال لمجلة ( الوعي الإسلامي، العدد 570 – ديسمبر / يناير 2013 ) عن واقع الأدب العربي في الوقت الحالي بأننا نعيش على أدب أزمان خلت، حين كان العرب عربًا، أمَّا ما يملأ الساحة الآن فضجيج فارغ، وطبل أجوف، وسراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.. وعلى المستوى النقدي فطغيان الهزيل على الإبداع الجيد لا يفرز إلاَّ نقدًا مشوهًا.
ويرى ألا أحد هناك يحترم وقته وجهده يريد أن يهدر قواه فيما لا يفيد، أما السطحيون والتافهون فيكوّنون عصبة بالغة الخطر عظيمة الشر، وعلى من يتصدى لهم أن يعاني وأن يمضي وقته يدفع عداوتهم، هذا إلى جانب عدم وجود مجلة أدبية متخصصة ومحايدة وموضوعية تنشر لك ما تريده، حتى وإنْ أنفقت عليها الحكومة، ثم هي على أية حال محدودة التوزيع.. فما أهمية أن نكتب في مجلة يقتصر توزيعها على كتابها ومن يتوقعون أن ينشروا فيها مقالتهم؟!

- 4 -
كنت أود الاستطراد لبيان كثير من مواقف الرجل في القضايا العامة والثقافية، ولكن استعجال المطبعة لأنتهي من الموضوع يجعلني أكتفي بهذا القدر، وهو عظيم بالنسبة لرجل عظيم في زمن عز فيه المثقف العضوي الذي تحدث عنه الشيوعي الإيطالي جرامشي، أو المثقف الملتزم الذي صوره ونادي به الوجودي الفرنسي سارتر، أو المثقف المسلم ذو الضمير الحي كما دعا إليه القرآن الكريم.
لقد انتمى الرجل العظيم إلى دينه وقومه ووطنه، وكان مثلا في الشجاعة الأدبية ومواجهة الحقيقة المرة في بلاده بالتعبير الصريح عنها غير هيّاب ولا وجل.
لقد تحدث في مؤتمر للتواصل الثقافي مع إسبانيا ودول أمريكا اللاتينية، انعقد باتحاد كُتاب مصر منذ فترة عن ثمن الحرية للمثقفين والأدباء فأشار إلى ماجرى في أميركا اللاتيبنية وقال :
" إن ما حدث في الدول اللاتينية من أعمال قتل ونهب، هو أرخص ثمن للحرية الأدبية، وإن وضع أمريكا اللاتينية كان أسوأ من وضعنا الحالي بكثير، كانتشار الفساد المالي والإداري وجرائم القتل والنهب والسلب.
إن أمريكا اللاتينية من أكثر البلاد ديمقراطية الآن، ويؤمنون بالحرية الفرنسية، ويقدسونها، ما أدى إلى وجود عدد كبير من الشعراء والأدباء، وذلك لعدم وجود قيود عليهم، فكل منهم يستطيع أن يقول ما يؤمن به.
والدول اللاتينية تحترم الثقافة كثيرًا، فمعظم السفراء من المثقفين والأدباء، والثقافة عندهم أهم من الثروة، فدولة البرازيل التي كانت تقتل الأطفال الفقراء لتنظيف المدينة، هي الآن بلد ديمقراطي من الدرجة الأولى ".
لقد ظل عدة سنوات أستاذًا زائرًا بجامعة بوجوتا الكولومبية، وعايش آداب أميركا اللاتينية، وتعرف إلى الأدب المكتوب بالإسبانية في دولها، ورأى كيف دافع أدباء ومثقفو " جمهوريات الموز " كما كان تسمى هذه الدول احتقارا لحكامها الطغاة، عن الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، ودفعوا من أجل ذلك ثمنا باهظا حتى غدت معظم بلادهم اليوم في مصاف الدول الديمقراطية الحرة، وبعضها حقق تقدما اقتصاديا ملموسا.
 هذا الوعي بقيمة الحرية آمن به الدكتور مكي إيمانا كاملا في الوقت الذي تحول فيه كثير من المثقفين المصريين والعرب إلى مجرد بهلوانات وأراجوزات وصبيان عوالم يمسحون أحذية الديكتاتوريات والاستبداد، بل تحول بعضهم إلى مستوى لا يليق بشخص يحمل أمانة القلم لدرجة أن أعلن وزير أسبق بفخر مخادع أنه أدخل معظم المثقفين الحظيرة !
أما الدكتور مكي فقد ظل وفيا للعلم والمعرفة ثابتا على رأيه لا يرهب ولا يرغب، وكان في تواضعه ومروءته وشهامته مثالا للعالم الجليل والمثقف العظيم، الذي يحبه المنصفون، ويحسده الظالمون، ويجمع على قيمته أهل العلم والفضل، وهو ما جعله يستحق عن جدارة جائزة التميز من جامعة القاهرة (2009).
بارك الله في عمره وعلمه، مثالا للمعلم العالم العامل.
12/4/2015م
****



(*) أستاذ الأدب والنقد - كلية الآداب  –  جامعة  طنطا.