الاثنين، 31 يوليو 2017

الدكتور الطاهر مكي>>>الناقد الذي ظلّ نقّياً في زمن موبوء >>>أحمد الزغبي







الدكتور الطاهر مكي
- الناقد الذي ظلّ نقّياً في زمن موبوء-

أحمد الزغبي(*)  

ينتمي الطاهر مكّيِ إلى جيل النقاد الكبار الذين احترموا عقلية القارئ، وقدّروا قيمة الأدب والإبداع، فجاءت أبحاثهم ودراساتهم جادة وعميقة ومتأنية. وأسهم الطاهر مكّيِ في رسم معالم النقد الأدبي في المشهد الثقافي العربي سواء كان في دراسته للأدب القديم أو الحديث، أو في إطلالاته على الأدب الغربي والآداب المقارنة.
وتنوّعت  وقفات الطاهر مكّيِ الأدبية والنقدية في دراساته، وامتدت إلى أسبانيا والتراث العربي والإعلام في الغرب والحداثيين شرقًا وغربًا، بدءًا بامرئ القيس ثم الأدب الأندلس والآداب المقارنة ومرورًا ببابلو نيرودا والشعر العربي المعاصر والقصة القصيرة الحديثة.... حيث أثرت هذه الدراسات معالم الحياة الأدبية الفكرية العربية، وقدّمت نموذجًا جادًا للنقد الأدبي المستنير، وللبحث العلمي المتأني العميق، بعيدًا عن الاستعجال والسطحية والإدعاءات التي نراها في كثير من نقد هذه الأيام.
ولمكانة الطاهر مكّيِ الفكرية والأدبية فقد اخترت دراساته في الأدب المقارن وترجماته أيضًا في هذا الحقل لتدريسها لطلبة الجامعة في أكثر من جامعة عربية، وذلك لعلمه الغزير وفكره المتزن ورؤيته الفلسفية في تبادل الثقافات والمعارف قديمًا وحديثًا، هذا التبادل المتواصل الذي يرتقي  بالفكر الإنساني الذي يصنع حضارة متكاملة ومتواصلة، لا حضارات متصارعة ومتصادمة كما نراها اليوم.
وسيظل الطاهر مكّيِ رمزًا وقدوة عند من نهلوا العلم على يديه أو عند قرّائه في أرجاء هذا الوطن الكبير، وسيظل دافعًا لكل ناقد جاد أصيل أو مبدع متمكن بحثّه ليمضي بإبداعه أو نقده أو بحثه بشكل مستنير وراق ومسؤول حتى تتوالد الأجيال الكبيرة وتتجدد، لكي نقول سيكوت لدينا أمثال طه حسين وشكري عياد وعز الدين إسماعيل وسهير القلماوي والطاهر مكّي وغيرهم من العلامات الحاضرة في مسيرة الفكر العربي والأدب العربي والانتماء العربي.

****





(*) الأردن - جامعة الأمارات.

الجمعة، 7 يوليو 2017

غُرْفة يدٍ من سيرته... عبد الرحيم إبراهيم عامر المطعني .


في السابع من إبريل عام 1924م، في أسرة عريقة النسب، ولد الطاهر أحمد مكي بقرية الغريرة التابعة لمركز إسنا بمحافظة قنا – آنذاك - وهى واحدة من قرى المطاعنة الأربع : الغريرة ـ كيمان المطاعنة – طفنيس – أصفون، وتضم كل قرية من هذه القرى عددا من النجوع والعزب- تقع هذه القرى جنوب مركز أرمنت وشمال مركز إسنا بمسافة قدرها خمس وعشرين كيلومترا، يحدها شرقا نهر النيل وغربا محافظة الوادي الجديد. ويقطن هذه القرى عائلات المطاعنة وهم عرب، ذو أرومة، يحبون العلم ويجلون حامله، وينزلون أهله منازلهم، كما تشتهر بعدد من شعراء فنىّ الزجل و الواو برعوا في الفنين فأجادوا وأتقنوا.
وفن الواو لمن لا يعرفه هو" فن قنائي (نسبة إلى محافظة قنا) وسمي بهذا الاسم لأن الراوي كان يبدأ الرواية بقوله "وقال الشاعر" وتكثر واوات العطف هذه فأصبحت لازمة لابد أن تقال، وصارت سمة مميزة لهذا القول ومن ثمّ سمي بها، ومن نماذجه:
لا تذل نفسك لإنسان
 في باطنه ليك سوادي
صده وخليك منصان
عنه ولو كان يعادي
 قررت أسرة الطفل لما رأت نبوغه وميله للقراءة أن يمضى في طريق العلم كما يمضى لداته من أقاربه وذويه. وكعادة القرى في الصعيد في إرسال أطفالها إلى الكتَّاب أرسلته، وقد كان (الكتَّاب) يومها الرافد الوحيد لمن أراد محو أميته، فبدأ دراسته في كتاب القرية فحفظ القرآن الكريم وهو في التاسعة من عمره، فساعد ذلك علي تمكنه من اللغة العربية بتحصيله ثروة لغوية ضخمة، تجعله قادرا علي النطق الصحيح لحروف الكلمات. وتمكنه من التعبير الصحيح.
ولد هذا الطفل وفى عينه ميله وهواه، فقد كان تواقا إلى القراءة شغوفا إلى المعرفة وعن نفسه يقول: " كانت القرية التي أعيش فيها لا تتمتع بقدر كبير من الثقافة والمثقفين لدرجة أن هناك ثلاثة فقط في القرية يجيدون القراءة والكتابة وهم( عمي- جاويش النقطة- والعمدة) وكان حبي للقراءة حبا جارفا أزال كل المعوقات في حياتي فقد كنت أذهب إلي بيت عمي لقراءة الصحف التي كان الثلاثة المثقفون يشترونها مقابل اشتراك شهري قدره 120قرشا" وبعد أن أجاد القراءة وتعلم الحساب التحق بالمدرسة الإلزامية فأتم التعليم بها.
وللمكان أثره على الإنسان، فإن كانت الطبيعة الجنوبية صلبة جافة، فهي حاضنة الإبداع، تثقل الإنسان صلابة، وتمنحه حسا إبداعيا، وقد كان للمكان ومفرداته من عادات وتقاليد فى الاحتفالات بالموالد وضيافة أهل العلم وذوى المكانة وكبراء العائلات فى البلدان الأخرى - أثره فى تكوين شخصية الفتى .
فقد كان للاحتفال بالمولد النبوي أثره فى تكوين شخصيته حين يستمع للمنشدين أصحاب الطرق الصوفية، حيث تحتفل كل عائلة بالمولد الشريف، وتقدم ما فى وسعها ؛ فيجتمع الناس متراصين على الأرائك، يستمعون لمدح النبي، ثم ينتقل المداحون من ديوان إلى ديوان، يمكثون في الواحد منها ثلاثة أيام أو أكثر، ينشدون أشعارا فصيحة وعامية في مدح خير البرية. وكذلك يفعلون مع موالد الأولياء والصالحين، فقد كان يقام في ليلة النصف من شهر شعبان من كل عام في "المطاعنة" مولد الشيخ" الأمير غانم" يأتي إليه الناس من كل مكان، فيستمعون إلى مواويل شاعر الربابة أو "المداح" وهو رجل يطوف بالمنازل نهارا يلتمس شيئا من الرزق مقابل مدح أصحاب البيت أو إنشاد بعض القصائد الدينية والصوفية، أو كليهما، وكان الناس يلتفون حول هذا الرجل ليلا ليروي لهم السيرة الهلالية مصحوبة بأنغام الربابة والدف فكان الفتى يعجب بهذا الرجل ويستمع مع المستمعين إليه ويتأثر بما يقول."لقد كنت أترقب هذا الشاعر حين يهبط القرية، أو القرى المجاورة، وفي أي ديوان - دار للمناسبات- من دواوين عائلات المطاعنة، ولم أتكاسل مرة في الذهاب إليه أبدا".
ولم يكن يترك محفلا ولا مناسبة عامة لها صلة بما يقرأ إلا وسعى إليها، وكان تواقا لمعرفة المزيد دائما فعندما سمع بمقدم الشيخ حسن البنا إلى بلاده سارع إلى حضور حفل الاستقبال، يقول فى ذلك :"وفى تلك الأيام سمعت أن حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين حل ضيفًا على ديوان عائلتي في كيمان المطاعنة، على بعد 3 كيلو متر من محل إقامتي، وفيها كان يسكن والدي أيضًا، فشددت رحيلي إليها، مأخوذًا برؤية شخصية قادمة من القاهرة، يظهر اسمها في الصحف بين حين وآخر، ويكتب المقال الافتتاحي في مجلة "النذير"، وكانت تقع في يدي أحيانًا يجلبها عمى حين يذهب إلى السوق في المدينة، كان ذلك في أواخر شهر أغسطس من عام 1938م"
 بعد ذلك آثر والده أن يكمل تعليمه فألحقه بالتعليم الأزهري، ولم يكن أمام طالب العلم في هذه القرى إلا أن يسافر مسافة قدرها 500كيلو مترًًا، حيث المعهد الأزهري في أسيوط . ويشاء الله سبحانه أن يتم إنشاء معهد ديني – في ذلك الوقت - بمحافظة قنا، فتقترب المسافة ويسهل السفر على طلاب العلم .وهناك وجد الفتى ضالته، فروى بعضا من عطشه في المعرفة، وذاق بعضا من طعمها وعرف بعض دروبها، فوضع قدمه على أولى خطوات الطريق وأمسك طرف حبل المعرفة أو كاد .
وفى ذلك يقول: " لقد التقيت بألوان جديدة من المعارف، أحببتها كلها علي تفاوت في هذا الميل، وتأتي علي رأسها الرياضيات من حساب وهندسة وشيء من أوليات الجبر ثم الأدب أو المحفوظات كما كانوا يسمونها في تلك الأيام، إلي جانب كتب المطالعة والتاريخ وكانت حافلة بالموضوعات الجادة والمتنوعة والجذابة " وتعمقت صلة الفتى بالصحافة وتعلق بها عندما ذهب إلي مدينة قنا طالبا في المعهد الديني، وفي ذلك يقول:
"هنا سوف تتعمق وتتسع كل بدايات القرية، ولم تعد قراءاتي وقفا علي الأهرام والرسالة بل شملت الصحف والمجلات جميعها، فقد سكنت الشارع الرئيسي في المدينة، واتفقت مع فتي من باعتها أن يحمل إليّ الصحف التي تصل في المساء ويأخذها في الصباح، وأن يجيئني بالصحف التي تصل في الصباح ويستردها في المساء، مهما كان عنوانها أو حجمها أو اتجاهها، مقابل ثلاثين قرشا شهريا، وهكذا لم تكن هناك صحيفة تصل مصر أو تصدر فيها إلا وتأتيني، بعضها أمرُّ عليه عجلا، وبعضها أتوقف عنده طويلا، وقليل منها أبقي عليه وأدفع ثمنه. وكنت أحمل بعضها معي أقرؤه في ساعات الدراسة المملة، الشيخ يقرأ أو يشرح، والمجلة أمامي مخبأة ألتهم سطورها".
وفي عام 1944م أنهي دراسته الابتدائية، وكان عليه أن يذهب إلى القاهرة للدراسة، ولكن شيخ معهد القاهرة لا يقبل ولا يحب أهل الصعيد لأسباب يعلمها الله، ولكن الله غالب على أمره، إذ يأتي القرار بتغير الشيخ؛ ليحل آخر مكانه فيقبل التحاقهم بالمعهد. وفي القاهرة، بنت المعز، تنفتح شهيته للمعرفة بكل ضروبها، فيحضر الندوات ويراسل الدوريات وتزداد معارفه وصحبته، فيكتب إلى مجلة الرسالة وصاحبها الزيات.
 وبطبيعة فاحصة ناقدة منذ الصغر، ملمة بما حولها، فلم يكن طالبا عاديا، لكنه كان يقلب الأمور على وجوهها، فيبصر الأشياء من حوله بعين ناقدة، ليحللها فيرجعها إلى أصولها، وهذا الملمح سيظهر في جميع مؤلفاته فيما بعد، وهذا مثال واضح على ذلك يذكره: في صبيحة اليوم التالي ليوم مقتل حسن البنا في 12/2/1949 كنت أقف فى نافذة البيت الذي أسكنه في ميدان السيدة عائشة، وبه يمر الطريق إلى مقابر الإمام الشافعي، فرأيت سيارة الموتى، تطوقها قوات ضخمة من الشرطة مدججة بالسلاح، وتتبعها عربات مصفحة تنطلق بسرعة، لا أحد أمامها غير العسكريين، ولا معها ولا وراءها، ولم يخالجني أدنى شك في أنها تحمل جثمان الشهيد.
ويساعده حبه للكتابة على اجتياز اختبار الالتحاق بكلية دار العلوم عام 1948م، فيحصل الأستاذ الطاهر أحمد مكي علي الليسانس الممتازة، مع مرتبة الشرف الثانية في اللغة العربية وآدابها والدراسات الإسلامية، بعدها التحق بوزارة التربية والتعليم وعين مدرسا بها، كما حصل على دبلوم الدراسات العليا للمعلمين بتقدير جيد جدا 1956م، ولم تكتف النفس الطموحة التواقة إلى المعرفة بما حصلته من شهادات، وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام، كما يقول المتنبي، فيتطلع الأستاذ إلى السفر إلى أوروبا، بعد عزم لا يلين وإصرار في البحث الدءوب عن فرصة للسفر، وحانت الفرصة وكادت أن تضيع لولا ذكاء الأستاذ في التعامل مع الفرص، ذهب الأستاذ إلي إسبانيا عام 1957م بناء علي منحة مقدمة من وزارة الخارجية الإسبانية لدراسة الأدب الإسباني، بقي هناك ست سنوات، إلا أنه آثر معهما أن يعد رسالة دكتوراه في الأدب الأندلسي وفي أثناء عمله بإسبانيا مر به الأستاذ سلامة حماد وكان وكيلا لوزارة العلاقات الثقافية فطلب منه أن يراسله بعدما ينتهي من الدكتوراه، وحين حصل على درجة دكتوراه الدولة عام 1961م، بدرجة ممتاز في جامعة مدريد، راسل الأستاذ سلامة حماد كما طلب منه، وهكذا وجد نفسه معينا كأستاذ للحضارة الغربية بجامعة كولومبيا الوطنية حتى عام 1964.
وفي العام نفسه عاد من إسبانيا، ليعين مدرسا بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة ثم عين أستاذا مساعدا بقسم الدراسات الأدبية حتى عام 1974م وأخيرا اختير أستاذا بالقسم نفسه حتى عام 1976م، ورئيسا لقسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم حتى عام 1984م، ثم وكيلا للدراسات العليا والبحوث حتى عام 1989م، وفى 30/4/1995م اختير رئيسا لجماعة دار العلوم، وعين رئيسا لتحرير جريدتها، وهى مجلة فصلية محكمة، تصدرها جماعة دار العلوم، كما انتخب د. الطاهر مكي عضوا بمجمع اللغة العربية، واختير عضوا بالمجلس القومي للثقافة والفنون والآداب والإعلام عضو مجلس إدارة الكتب والوثائق القومية، وعضوا للجنة الأدب واللغة بالمجالس القومية، وأيضا كان عضوا بلجنة منح جوائز التفوق بالمجلس الأعلى للثقافة، وأخيرا عضوا في لجان منح الجوائز العربية منها على سبيل المثال لا الحصر: العويس في الإمارات، والبابطين في الكويت، وجوائز التقدم العلمي التي تمنحها حكومة الكويت.
وأيضا رئيسا لتحرير مجلة "أدب ونقد " من عام1982م إلي عام 1987م، وفي الفترة من عام 1983م إلي عام 1990عين أمينا للجنة ترقيات الأساتذة، وقد أشرف علي عشرات من رسالة الدكتوراه والماجستير في جامعات مختلفة، وكان عضوا في لجنة مناقشة أكثر من مئة رسالة دكتوراه وماجستير.وقد شارك في أكثر من ثلاثين مؤتمرا حول التربية والقضايا النقدية والأدبية، في عمان والأردن، سوريا، والرياض المغرب والجزائر، وإسبانيا.
والدكتور الطاهر أحمد مكي صاحب المبدأ الواحد فهو وقّّاف مع الحق يساند تلاميذه ويقف بجوارهم، فقد وقف في وجه الأمن عندما اعترض على تعين أحد المتفوقين بالكلية بسبب انتمائه إلى فصيل ديني فأصر على تعينه، وقد كان. وقد وصفه الدكتور عبد الصبور شاهين رحمه الله قائلا: "إن الطاهر مكي عالم كبير زاهد، يعمل في صمت، بعيدا عن الضجيج " وكان شجاعًا لا يخشى في الحق لومة لائم فقد صرح حين اكتشف سطو الدكتور محمد مندور في كتابه "نماذج بشرية" على كتاب (النماذج العالمية في الأدب الفرنسي والعالمي) للكاتب الفرنسي جان كالفيه، ولم يكتم قولة الحق مجاملا كما يفعل الكثيرون.
فى حياته لمْ ينافق مسئولا قط، ولمْ يتقرب من السلطة أبدًا، بلْ نأى بنفسه عن مواضع الشبهات، ومطامع الدنيا وتفرَّغ للإبداع والبحث العلمي، لذلك استعانت به الجامعات لوضع مناهجها في الأدب والنقد، والإشراف على الدراسات العليا. ومنذ أكثر من ربع قرن؛ كتب مقالا مدويًّا في مجلة "الهلال" طالب فيه بضرورة فصل "دار الكتب المصرية" عن "هيئة الكتاب" وفعلاً استجابت الدولة لطلبه، وتمَّ الفصل بينهما، وبسبب ذلك عاداه "رئيس الهيئة"، الذي كان يشغل رئيس الهيئتيْن في وقتٍ واحد ـ عداوةً شديدة !
لم يتأخر لحظة في الوقوف بجانب أصحاب الحقوق، فقد وقف بجانب ترشح من يستحق في مجمع اللغة الغربية، وكان ممن نادوا بترشح الكاتب الصحف المصري الكبير" وديع فلسطين" لعضوية المجمع بالقاهرة، وإن كان لم يفز بها ـ مع أنه عضو مجمع اللغة فى عمان ودمشق- فقال قولته في حواره بجريدة القاهرة في عددها الصادر يوم الثلاثاء بتاريخ 7/4/2015 " إذا لم أفز بالنصاب القانوني في المجمع؛ لأصبح عضوا فقد فزت بالثقة الغالية للطاهر مكي" .
لم يسع الدكتور لجائزة يوما ولا للسفر إلى الخارج جلبا للمال، فقد كان يؤثر بلاده، لا يجد نفسه إلا فيها ولا تركن نفسه إلا لطيب هوائها، ترّاك أمكنة إذا لم يرضها، فقد ترك جماعة الأخوان بعد إعجابه بهم، لما بدا له من أمرهم شيء لا يروقه، وكذلك فعل مع حزب التجمع. وهو عزيز النفس، لا يشكو ولا يندب حظه، يتمتع بحب الآخرين فيكنون له كل الاحترام والمودة، فعندما فاز الأديب بهاء طاهر، بجائزة النيل للآداب- وكان الدكتور مرشحا لها- قال على الفور: "إنَّ أستاذي الطاهر مكي كان أحقّ مني بالجائزة "
وهو المتفائل دائما، لم يقابل تلميذا من تلامذته إلا بطلاقة نفس، وبشاشة وجه، يحب المجتهدين منهم، ينادى الواحد منهم بـ "يا ولدى" صادق مع نفسه ومع غيره، يعمل على حث تلاميذه على الجد والاجتهاد، مبشرا إياهم دائما ببلوغ الهدف، وقطف الثمار ويقول لهم محفزا همهم: «ليس صحيحًا أن العلم والثقافة لا يدران على صاحبهما شيئًا وإن كان ذلك يتأخر».
وتراه مثالا للوفاء، فدائما ما يذهب إلى بلدته مسقط رأسه، ليبرّ أهله، ولأن للكُتّاب أثر كبير في تحفيظ القران الكريم والحفاظ على اللغة العربية، وكان له أثره في حياته العلمية، فقد عمل على إنشاء واحد في قريته، بعد أن رأى اندثاره، بل تكفل بدفع راتب شهري لشيخه. ومن ذلك أيضًا ؛ أنه ظلَّ وفيًّا لقصة حب عاشها في شبابه الباكر حينما كان في إسبانيا، وقد أشار إليها من طرف خفيٍّ في الإهداء الذي افتتح به كتابه (دراسة في مصادر الأدب) إذْ يقول : "إلى راهبة .. إلى قلب كبير، وعقل ذكي وَسِعني ذات يوم حين ضاقت بي الدنيا."
ولم يكن الدكتور بمنأى عن القضايا الوطنية الآنية، فها هو يدلى بدلوه فى الحملة الظالمة والساذجة على النحو العربي وعلى «سيبويه» قائلا: "لو أننا عملنا بكلامه - يقصد شريف الشوباشى- فإننا سنلغى تراث 17 قرنًا من الزمان، شعرًا وأدبًا وقصصًا، منها ثلاثة في الجاهلية و14 قرنًا فى الإسلام، وسخر من دعوته لإلغاء «المثنى» الذي لا يوجد له نظير فى بعض اللغات الأخرى قائلا: وماذا نصنع بقوله تعالى «فَقُولَا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا» فهل نغير القرآن أيضًا أم ماذا؟!.. إن بعض الذين يأتون من الغرب عامة، ومن باريس خاصة، يتحاملون على أمتهم ويمقتون لغتها ويسخرون من دينها ويودون أن لو استطاعوا أن يستيقظوا فجأة فلا يرون أثرًا لهذا الدين أو اللغة العربية أو تاريخ هذه الأمة". وكذلك كان رأيه فى قضية. المتطاولين على الإسلام" يقول على الأزهر ألا يعير المتطاولين على الدين أي اهتمام، مشيرا إلى أن هؤلاء المتطاولين يريدون أن يشتهروا، والأفضل إهمالهم.وإن الدين أكبر من كل تافه، مؤكدا أن الإبداع الهائل الذي أنجزه الإسلام على مدى قرون عديدة في مجال الفكر، وفي كل المجالات الأدبية شاهد على أن التضييق على الفكر لم يكن من مبادئ الإسلام على الإطلاق، موضحا أن الإسلام لم يعرف نظام «الانديكس» تحريم كتب معينة على المسيحيين سنويا. ( رأى اليوم، عدد 16/4/2015).
والدكتور الطاهر مكي أديب موهوب بحق، له أسلوبه المتميز فعندما يكتب في موضوع ما يظل كتابه عمدة فى هذا الموضوع، ومثال ذلك كتابه (القصة القصيرة) وكتابه (الشِّعر العربي روائعه ومدخل لقراءته) لا يزالان رائدين في مجالهما، وكما يعدّ كتابه (الأدب المقارن: أصوله وتطوره ومناهجه) من الكتب الرائدة في مجال الأدب المقارن وكذلك كتابه (مقدمة في الأدب الإسلامي) يعد أول دراسة ميدانية في دراسة آداب الشعوب الإسلامية.
ولم يترك مجالا إلا وكتب فيه، تأليفا وتحقيقا وجمعا، وترجمة ومن ذلك:
- أولا التأليف
1- امرؤ القيس حياته وشعره
2- دراسة في مصادر الأدب
3- دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة
4- الشعر العربي المعاصر: روائعه ومداخل لقراءته
5- القصة القصيرة دراسة ومختارات
6- دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة.
7- الأدب المقارن:أصوله وتطوره ومناهجه
8- في الأدب المقارن دراسات نظرية وتطبيقية
9- مقدمة في الأدب الإسلامي المقارن
10- أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوربي الوسيط
11- من روائع القصة القصيرة: مع مقدمة عن الرواية والقصة القصيرة
 12 - في الشعر الجاهلي قضايا ومواقف
 ثانيا- التحقيق:
1- تحقيق طوق الحمامة في الألفة والآلاف لابن حزم الأندلسي
2- الأخلاق والسير في مداواة النفوس
3- تحفة الأنفس وشعار سكان الأندلس لابن هذيل
ثانيا- الإبداع:
4- السلطان يستفتي شعبه وحكايات أخري
 5- بابلو نيروا: شاعر الحب والنضال
ثالثا- الكتب المترجمة:
عن الفرنسية:
1- الشعر الأندلسي في عصر الطوائف هنري بيريس
2- الحضارة العربية في إسبانيا ليفي بروفنسال
3- هذه المرأة لي: رواية لجورج سيمنون مع مقدمة عن حياته وفنه والرواية البوليسية بعامة كتاب الهلال 1989م
عن الإسبانية:
1- مع شعراء الأندلس والمتنبي إميليو غرسيه غومث.
2- الفن العربي في إسبانيا وصقلية فون شاك.
3- الشعر العربي في إسبانيا وصقلية فون شاك.
4- التربية الإسلامية في الأندلس أصولها المشرقية وتأثيراتها الغربية خوليان ريبيرا.
5- مناهج النقد الأدبي إنريك أندرسون.
6- ملحمة السيد.
 عن الإنجليزية
1- الرمزية أنا بلكيان.
2- الثقافة واللغة والتعليم في مصر الحديثة لويلز أرمين ينشر فصولا في صحيفة دار العلوم.
رابعا- الأبحاث:
1- العالم الإسلامي في مطلع القرن التاسع عشر كما رآه رحالة إسباني دومينجو باديا =(علي بك العباس) نشر علي أجزاء في الفكر العربي بيروت مجلة "المجلة" والكتب وجهات نظر في مصر
2- المثقفون والهزيمة في كتاب أصدرته جريدة الأهرام 1998م بعنوان "حرب يونيه 1967م بعد 30 سنة" وشارك في تحريره نخبة من المفكرين المصريين.
3- دراسة عن الحرب الأهلية الإسبانية (ج4 ص71 :165) في موسوعة أحداث القرن العشرين دار المستقبل العربي القاهرة 2000م
4- حينما كانت الأندلس تتكلم العربية وتدين بالإسلام الكتب وجهات نظر العدد 60 يناير 2004م
5- مخطوطة عربية واثنا عشر عالما أوربيا الكتب وجهات نظر العدد 32، 3 سبتمبر 2001م
خامسا - المقالات
 كثيرة وموزعة علي شتي المجلات في العالم العربي:الهلال، الملحق الأدبي للأهرام، المجلة، الرسالة، آفاق عربية الدوحة، العربي، الثقافة العربية، والفيصل، والفكر العربي، والبحث العلمي... وغير ذلك
إن هذا العطاء الضخم الذي أعطاه للأمة التي ظل يدافع عنها في كل كتاباته بأسانيد عربية وغربية قد توج بتكريم الدولة له بوسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي عام 1990م، وجائزة الدولة التقديرية لعام 1992م، وأيضا وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي عام 1992م، كما كرم في محافل جامعات عدة وحصل على دروع تكريم من جامعات ومحافظات مختلفة: المنيا وجنوب الوادي … وغيرها. ."يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ". أطال الله بقاء الأستاذ الدكتور العالم الجليل ورزقه الصحة والعافية.

****