السبت، 7 أكتوبر 2017

الطاهر مكي .. مُـشرفـًا ...د. كاميليا محمد خضر.







الطاهر مكي .. مُـشرفـًا

د. كاميليا محمد خضر(*)


)إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(، العالم هو من مَنَّ الله عليه بالعلم وحسن الخلق، حتى يكون أمين الله في الأرض على هذا العلم، ويعرف به الطريق إلى الله، وأستاذي الدكتور الطاهر مكي من هؤلاء العلماء، فقد مَنَّ الله عليه بسعة العلم والمعرفة وحُـسن الـُخلق، فعـرفتُ من خلاله كيف يكون العالم المتواضع.
مربع نص: ـَطريق طويل من الجهد والمعرفة سلكته يا أستاذي، وحان وقت حصاد ثمار هذا الجهد، فأنت أهلُ ُ للتقدير والعرفان من تلميذتكم التي عرفت ماذا يعنى البحث العلمي على يديكم، وكيف تكون القراءة الثاقبة والبحث الدقيق. فمنذ أن شغلت وظيفة معيدة بقسم اللغة العربية وآدابها بكلية البنات، جامعة عين شمس، وتوجهت إلى أستاذي; لكي يُـشرف على رسالتي للماجستير، وقد كلفني القسم بالبحث في مجال الأدب الأندلسي، وجهني أستاذي إلى تعلم اللغة الإسبانية، وقال لي: من يدرس في الأدب الأندلسي لابد من أن يتعلم اللغة الإسبانية، وقد تحملت جامعة عين شمس التكاليف المادية التي تطلبتها هذه الدراسة، وقد أكملت دراسة اللغة الإسبانية في المركز الثقافي الإسباني بالقاهرة، حتى حصلت على دبلومة اللغة الإسبانية كلغة أجنبية (DELE) . كل هذا وكان أستاذي يشجعني ويشد من أزرى ويحثني على الاستمرار في الدرب، وصمَّ عن آذاني الأصوات التي أرادت أن تحط من همتي، وكأنه كان يرسم لي مستقبلي في مجال الدراسات المقارنة، فجاءت رسالتي للدكتوراه، تحت إشرافه حول تأثير المقامة العربية في رواية الصعاليك الإسبانية، فأنا أدين بالفضل له في تعلمي للغة الإسبانية، التي تفتح أمامي الآن آفاقـًا واسعة في البحث الأندلسي والأدب المقارن، ولا يزال أستاذي يمدني حتى الآن بالنصيحة والعلم ويرعاني ويشعر نحوى بمسئولية الأستاذ نحو تلميذه .
اللقاء الأول، كان في محرابه بين ترانيم كتبه وألحان مؤلفاته، عـَّرفته بنفسي، وتحدثت عن رغبتي في العمل تحت إشرافه في بحث الماجستير، فكانت المفاجأة، إذ طلب منـِّى قبل أن أعرض عليه ما لدى من أفكار أن أذهب وأقوم بأمرين: الأول، وهو قراءة المصادر الأندلسية والاطلاع عليها ومعرفتها . والثاني، وهو أن أتعلم اللغة الإسبانية، وخرجت من هذا اللقاء أشعر بالحيرة، ورأيت الأمر من الصعوبة بمكان يُـتيح لي التغلب عليه، فعدت إلى أساتذتي بقسم اللغة العربية، بكلية البنات، وعرضت الأمر عليهم، وأعربت عن حيرتي وقلقي من صعوبة المهمة التي طلبها منى أستاذي، فإذا بأساتذتي يقولون لي: عودي إليه وافعلي ما تؤمرين به، نريدك أن تأخذي العلم عن يد هذا الشيخ العالم، وبدأت أبحث عن المصادر الأندلسية وأحاول القراءة، وتقدمت بطلب إلى الجامعة، حتى حصلت على الموافقة لدراسة اللغة الإسبانية في المركز الثقافي الإسباني بالقاهرة، وبدأ المشوار الذي خطه لي أستاذي، وأنا مازلت لا أعلم لم كل هذا .
عدت إليه وكان اللقاء الثاني، وأخبرته بما بدأت فعله، فشجعني ورحب بي، ثم رأيت أبـًا يرعى ابنته، تجاذب معي أطراف الحديث وكأنه شعر بجديتي في البحث، وطرح علىَّ أفكارًا، ودائمـًا كان يقول لي: لا تطلبي منى فكرة بحث، ولكن قولي لي: هيا لنفكر سويًّا . بث في روحي منذ اللحظة الأولى الطمأنينة والثقة بالذات، وشعرت باطمئنان لم أشعر به من قبل وزاد إصراري على متابعة ما قد كلفني به .
سجلت موضوع الماجستير، وكان بعنوان " الفكاهة والسخرية في الشعر الأندلسي في القرن الخامس الهجري " وظللت طـَوالَ العامين بعد التسجيل، لا أفعل سوى أمرين: تعلـُّـم الإسبانية، وقراءة المصادر الأندلسية، ولازلت لا أعرف لماذا أقوم بهذين الأمرين؟! وكأن أستاذي يرى بعين ثاقبة مستقبلي قابعـًا من بعيد ينتظرني، وعندما سألته: لماذا إصراركم على قراءتي للمصادر الأندلسية، ولماذا لا أقصد إلى الشعـر مادة البحث فحسب ؟ كان رده فيه فطنة تنم عن عالم يدرك قيمة العلم الحق والصدق مع الذات، فقال لي: متى تريدين قراءة هذه المصادر ؟!، عندما تحصلين على الدكتوراة وتصبحين مدرسـًا، لا ينبغي أن تدخلي إلى تلميذاتك في قاعة الدرس، وتحدثيهن عن مصادر أنت لم تعرفيها ولم تقرئيها، فهذا هو وقت القراءة والتكوين . نعم يا أستاذي صدقت، فأنا الآن كلما دخلت إلى قاعة الدرس، لأدرِّس النثر الأندلسي، وأحيل الطالبات إلى هذه المصادر وتفاجئني أسئلتـُهن، وأجد لدىَّ الإجابات التي أعدني لها أستاذي من قبل، فأبتسم بداخلي، وأقول صدقت يا أستاذي .
بعد أن أنهيت دراسة اللغة الإسبانية في المركز الثقافي الإسباني، طلب منى أستاذي أن اجتاز امتحان الدبلومة الإسبانية كلغة أجنبية، وهذا الامتحان هو في غاية الصعوبة، فقلت له: ألا يكفيني هذا القدر، فأجابني: إن هذه الشهادة ستتوجين بها جهدك السابق وهي الإثبات الحقيقي لهذا الجهد، فأتمنى أن تحصلي عليها وبدأت أنفذ ما طلبه منى، ودخلت الامتحان لأول مرة وخفقت ولم أجتزه، وعدت إليه أجر أذيال الخيبة، فاستقبلني برحابة وكأنني ملك عاد بانتصاراته ليتوجه قومه بأكاليل الغار، قلت له: لماذا يا أستاذي، فأنا لم أنجح .
قال لي: يكفيك شرف المحاولة، ثم اقترح علـَّى أن أدخل الامتحان مرة أخرى، وبدأ يقص علىَّ من تجاربه في تعلم اللغة الفرنسية والإسبانية والعبرية والإنجليزية ما مدَّني بالقوة، بل كان دائمـًا يقول لي: ستكونين أفضل منى، وأنا أقول له: يا أستاذي هذه مجاملة طيبة منكم فأنا أتمنى أن أسير على خطاكم فحسب، ولكن هذه الكلمات كانت تعطيني الثقة وتضعني أمام المسئولية وجهًا لوجه، وكل مرة كنت أخرج من لقائي معه وأنا أحمل روحـًا جديدة ً، وقلبـًا قويًّا، وعقلا ً ناضجـًا، وفكرًا حاضرًا، وذهنـًا متسعـًا لرحابة العالم .
دخلت الامتحان للمرة الثانية، وهذه المرة اجتزته وحصلت على هذه الشهادة، وكل نجاح كنت أحققه كان يُـشعرني بأنه نجاح له ويشاركني الفرحة ويمدني بمزيد من الطاقة الإيجابية.
انتهيت من الماجستير، وجاءت رغبتي في أن أكمل مع هذا الصرح من العلم رسالتي للدكتوراه، فذهبت إليه محمَّـلة بأفكار بحثيه تدور جميعها في دروب الأدب الأندلسي، فإذا به يُعد لي موضوعـًا مختلفـًا، وكانت هي المفاجأة الثانية . سألني: لماذا تعلمت الإسبانية؟، قلت له: أنتم طلبتم منى ذلك، وقلتم أن من يعمل في حقل الدراسات الأندلسية لابد من أن يتعلم الإسبانية، قال لي: وما بالك بمن يحملك إلى آفاق أبعد ؟، قلت: مثل ماذا؟!، قال: الأدب المقارن، توقفت لألتقط أنفاسي من مفاجأته التي طالما غمرني بها، وتعثرت الكلمات على لساني. قال لي: أريدك أن تستغلى اللغة التي تعلمتها، وأنا لدىَّ موضوع بحثك للدكتوراه وهو: أثر المقامة العربية في رواية الصعاليك الإسبانية . وكعادته يلقى لي بكلمات تدفعني للعمل، وفى الوقت نفسه تعطيني الثقة وتضع على كاهلي عبء المسؤولية، ووضعنا خطة البحث سويـًّا وسجلت الموضوع لدرجة الدكتوراه، وبعدها مضى ثلاثة أشهر، وأنا لا أعرف من أين وكيف تكون البداية ؟!، وعدت إليه أطلب منه أن أغير هذا الموضوع، فقال لي بكل ثقة: أنا قلت أن هذا الموضوع لم ينجزه سوى كاميليا، فلا تخذليني، والمرة القادمة عندما تهاتفينى قولي لي: قد أنجزت فصلا ً أو مبحثـًا وأريد أن أطلعك عليه، وأعربَ عن رغبة حقيقية في أن أتم هذا الموضوع، ولم يتركني، عاش معي في هذا البحث كلمة بكلمة، وفصلا ً فصلا ً، كنت على اتصال دائم به ; لأخبره بما أنجزت، ويقترح علىَّ بعض الكتب التي لا بد أن أرجع إليها سواء بالعربية أو الإسبانية، وكنت كلما وقعت على ملامح للتشابه بين المقامات وروايات الصعاليك الإسبانية في الموضوعات أو الأفكار أو الشخصيات، كنت أهرول إليه وأنا سعيدة وأخبره بهذا الأمر، وكان يقترح علىَّ كيف نوظف هذا التشابه في البحث، وأين يكون موضعه بين ثـنايا الفصول، وقرأ رسالتي كلمة ً كلمة ً، وكنت أشعر- أحيانـًا- بالضجر والملل; من صعوبة الموضوع، ولم أخجل يومـًا من أن أكاشفه بذلك، فهو عودني الصراحة معه، كان يربط – دائمـًا – على قلبي، ويقول لي: عندما تنتهين صدقيني سيخرج عملاً رائعـًا لا مثيل له، وسيفتح أمامك مستقبلا ً باهـرًا في مجال البحث الأندلسي والدراسات المقارنة، ثم يقص على تجربته في كتابه" الأدب المقارن: أصوله وتطوَّره ومناهجه " وكيف أخذ هذا الكتاب من جهده، وطاقته، ووقته قـُرابة الثمانية عشر عامـًا، فقد كتبه بدمه وروحه ليؤرِّخ للأدب المقارن في الآداب العالمية والعالم العربي، وغيره من الكتب التي ترجمها مثل: كتاب " مع شعراء الأندلس والمتنبي "، فقد عانى في توثيق الأبيات الشعرية الواردة في نص إميليو غرسيه غومث من مصادرها العربية، والمشقة التي عرفها وعرف معناها في ترجمته لكتاب " الشعر الأندلسي في عصر الطوائف " لـ هنرى بيريس، وترجمته لـ ( ملحمة السـِّيد ) وغيرها، وكان يقول لي: من يريد أن يصنع مستقبله لا يدَّخر حاضره ولا يـبخل به، اذهبي للعمل، وأعود لعملي بعد أن أتصفح بعض الصفحات والفصول من هذه الكتب التي صنعت الطاهر مكي، وأعود بعدها للعمل بطاقة جديدة متوهجه، وظللت هكذا معه طوال الست سنوات يدفعني، يشجعني، يقرأ لي، يصحح لي، ينصحني، يمهلني، لم يردني يومًا، لم يبخل علىَّ بوقت، ولا جهد، ولا علم، ولا نصيحة . فكانت رسالتي للدكتوراه بمثابة الطفل الذي ولد على يديه وتعهده هو بالرعاية حتى صار شابـًا يافعـًا ناضجـًا يسر الناظرين .
 وتحققت النبوءة يا أستاذي، وجاء يوم الفصل، يوم المناقشة، وشعرت بعزة وقوة لم أشعر بها من قبل استعرتها من أستاذي الطاهر مكي هذا العالم الكبير، والفصيح المفوَّه، العزيز بين قومه، الغالي بين أحبائه والرءوف بين خصومه، الحنون بين محبيه ومريديه، العظيم في تواضعه وسلامه، هذا الرجل الذي يحمل في ملامحه أديم الأرض الطيبة .
سمعت من د. سليمان العطار ود. على البمبى يوم المناقشة كلمات عن بحثى للدكتوراه، حلــقت بي في عالم لطالما كنت أصبو إليه، عالم ٍ من الرحابة وشعرت بمعنى كل كلمة سبق أن قالها لي أستاذي، وأنه كان يقصدها قصدًا، وما كنت أعرف معناها في حينها، فقد كان لي كما كان الخضر لسيدنا موسى – عليه السلام –تنبأ بأشياء لم أعرف ماهيتها حين قالها، وحصلت على درجة الدكتوراه مع التوصية بالطبع والتداول بين الجامعات المصرية، وشعرت في عيون كل من عرف رسالتي وقرأها معنى الانبهار وتقدير العلم .
تجربتي مع أستاذي الطاهر مكي، هي تجربة عمري ستظل كل كلماته ونصائحه محفورة بقلبي وعقلي، وهى نبراس حياتي، وستظل نـُصب عيني، وسيظل هو في وجداني; لأنه لم يتركني، يفكر معي كيف أحافظ على هذا النجاح، وكيف أستمر فيه، ونتشاور في أفكار كثيرة للبحث الأدبي، وهو ما زال يرعاني ويمدني بالعلم والنصيحة والمشورة .
فأنا يا أستاذي غرس يديك، وصنع عقلك، وتكوين وجدانك، فأنا أعد نفسي جزءًا قد انسلخ منكم، وأتمنى أن أظل بأبحاثي كما عهدتني وكما ربيتني، وكما علمتني، وأوصى أن ترقى هذه الشهادة إلى إعداد كتاب يحمل عنوان (الطاهر مكي مشرفـًا) .
الـُّطهر في اسمه وشخصه معروف، والعلم عند بابه مقصود .

****






(*) المدرس بقسم اللغة العربية وآدابها – كلية البنات- جامعة عين شمس.