أ د الطاهر مكي إنجاز وقيمة

على الفيس بوك  صفحة لمحبي الأستاذ الدكتور الطاهر مكي


الدكتور الطاهر أحمد مكي في رسالة ماجستير 
نوقشت في كلية الآداب في قنا رسالة ماجستير بعنوان : (الدكتور الطاهر أحمد مكي مبدعًا وناقدًا) ونالت الدرجة بتقدير ممتاز.
الرسالة مقدمة من الآنسة منى عبد العظيم محمد، وكانت بإشراف أ. د. محمد أبو الفضل بدران أستاذ الأدب والنقد وعميد الكلية الأسبق ، ومشرفا مشاركا أ. د. السيد محمد على أستاذ الأدب بالكلية، وكانت لجنة المناقشة مكونة منهما ومن أ. د. غريب سيد أستاذ الأدب بآداب قنا ، أ. د. رفاعي يوسف الأستاذ بآداب أسوان.
أثنت اللجنة على جهود الباحثة ومستوى الرسالة وقررت منحها درجة ماجستير في الأدب والنقد بتقدير ممتاز.
ومحبو أ. د. مكي يتقدمون لها بخالص التهنئة ، وعقبال الدكتوراه إن شاء الله.
المصدر:  https://www.facebook.com/dr.altahermekki






عميد دراسات الأدب الأندلسي د. الطاهر مكي: خصوم الثورة أغنياء
المصدر: الأهرام اليومى (محمود القيعي)



إذا كان لكل إنسان نصيب من اسمه، فالدكتور الطاهر أحمد مكي له من اسمه أوفى نصيب. يعرف ذلك كل من عرفه أو اقترب منه أو حاوره. 
له كلمة أثيرة تجرى على لسانه دائما وهي يا ولدي يقولها بلسانه بصدق، فتستقر في أعماق قلبك بسهولة. 
د. الطاهر مكي (مواليد 1924) مثقف وأستاذ أكاديمي ومترجم وناقد وأديب، وله شغف بالسياسة عاش سنوات في اسبانيا ادرك خلالها أهم السمات التي تميز نظرة الأسبان للواقع وابرزها قضية حسين سالم. ناقشناه في النقد، وحاورناه في الترجمة، واستمعنا إليه في السياسة، وأفاض في الحديث عن وزارة الثقافة، فهو يري انها في عهد النظام السابق حادت عن دورها وتحولت إلى شباك لصرف الرشاوي، صابا جام غضبه على المثقفين الذين يأكلون على كل الموائد، ويرقصون على كل الأنغام، وإلى تفاصيل الحوار الذي لا يخلو من إثارة. 
- ما بين فخار الماضي وآلام الذكرى. كيف ترى الأندلس الآن؟
أراها مثالا رائعا مجسما، يجب على العرب أن يتذكروه، وأن يدرسوا كيف كنا، وكيف انتهينا؟كانت الأندلس في عصرها قمة الحضارة، قمة القوة، وكان الأسطول الأندلسي هو المسيطر على غربي البحر الأبيض المتوسط، وكان عبدالرحمن الناصر مرعبا لكل القوى الأوروبية، وكانت قرطبة العاصمة يضرب بها المثل، ويدللون على ذلك بأن هناك قصيدة لراهبة ألمانية في دير منعزل تتخذ من قرطبة في جمالها وروعتها مثلا يحتذى. 
هذه الحضارة كلها اندثرت، لم يبق منها شيء، علينا أن نكون علميين، وأن يعرف كل منا لماذا بلغت هذه الحضارة قمة الروعة؟ ولماذا انهارت واندثرت، ولم يبق منها شيء؟ علميا، إذا تكررت الأسباب، تؤدي إلى النتائج نفسها، علينا أن ندرس أسباب التقدم، لنعيده، وندرس أسباب الانحدار لنتجاوزه، وبغير ذلك، سيظل الإنسان متخوفا من المستقبل. ومأساة الاندلس درس بليغ لمن أراد أن يعتبر. 
- وما أبرز الدروس المستفادة - سياسيا وثقافيا - من مأساة الأندلس؟
أبرز الدروس المستفادة والتي نحاول دائما أن نبرزها في دراساتنا، وفي تذكيرنا للناس، هو أن الاستعانة بالأجنبي لا فائدة منها، ولا طائل من ورائها. 
الأمم ليست جمعيات خيرية، الأمم كلها صاحبة مصالح. 
الذي حدث في الأندلس أن الخلفة والشقاق غير العقلاني أضعف الدولة، وأقول غير العقلاني لأن من طبيعة العقل البشري أن يرى الأشياء من أكثر من زاوية، وأن يبحث عن المخرج الأفضل، وأن يتلاقى عند مصلحة المجموع، لكن الذي حدث في الأندلس أن كل دويلة، وكل فرد، وكل جماعة سياسية كانت تبحث عن مصلحتها الذاتية، فإذا عجزت عن تحقيقها، استعانت بالعدو، وهكذا انتهى الحال بالأندلس، حيث ظل العدو يضرب الدويلات الإسلامية بعضها ببعض، فأتي عليها جميعا، وانتهى منها. 
- أنستطيع أن نقول: ما أشبه الليلة بالبارحة؟
للأسف نفس الظاهرة تتكرر الآن، نحن نستعين على بعضنا البعض بأعدائنا وبخصومنا، ونلجأ إليهم، ونتصور أن الحل عندهم، ويظهرون لنا أنهم معنا، ولكن ذلك كله وهم، ومن هنا، فعلينا أن نتعامل مع غيرنا معاملة الند للند، وألا نتركه يتدخل في شئوننا، وما لم تتم الوحدة والتعاون، سوف ينطبق علينا المثل العربي القديم إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
هناك أيضا أشياء كثيرة كان ظاهرها القانون والدستور والديمقراطية، ولكن باطنها كان أشياء أخرى، سببت فسادا وإفسادا للبلد، وأدخلتها في متاهات لا تنتهي أربكت الدولة. 
مصر ليست ملكا للإخوان، مصر للمصريين، ولكن الإخوان نجحوا في كسب ثقة الناس، فلنعطهم الفرصة، لأننا عندما نختلف، يكون الطريق هو صندوق الانتخابات، لا نملك إلا هذا. 
التونسيون سبقونا في احترام نتائج الصندوق، وأذكر أن زعيمة الحزب الشيوعي هناك عندما فاز حزب النهضة، قبلت وقالت إنها تحني رأسها للصندوق وللشعب التونسي. 
ودعني أتساءل: ما هذا التطاول على رئيس الدولة بالحق والباطل؟
- مبارك سحقنا سحقا ولم يستطع إنسان أن يقول له انت فرعون 
وما نراه الآن ليس من الأدب السياسي في شيء على الإطلاق، وأنا لست إخوانيا، ولا أحب مرسي، ولكنه رئيس الجمهورية، ليس معنى ذلك ألا أعارضه وأقدسه، ولكن المطلوب أن نعارضه وننقده ولكن بأدب الحوار. 
ولننظر إلى واقعنا قبل 50 سنة، وسنجد أنه لم يكن لدينا واقع سيئ كما هو الآن. 
الآن هم يزرعون لنا حربا عربية عربية في كل شبر من الأرض العربية، ويستعدون لإشعال هذه الفتن، ويتظاهرون بأنهم مع العدل والحق والحرية، وهم ليسوا على شيء من ذلك إطلاقا. 
عشت في إسبانيا سنوات عديدة، وتعرفت على المجتمع الاسباني عن قرب، كيف تقرأ قضية حسين سالم وكيف يمكن التعامل مع قضية الأموال المنهوبة؟
علينا أن نرى الأمور من وجهة النظر القانونية، أولا هذه البلاد في أعماقها ليست معنا، وتتظاهر بأنها دولة قانون، وهم يعرفون من أسرارنا ومن السرقات التي تمت في بلادنا أكثر مما نعرف، وعندهم من الوثائق ما لو استخدموها، لأعطتهم الحق في القبض على هؤلاء، ولكن ببساطة شديدة هم يستفيدون من هذه الأموال، فلماذا يغلقون بابا يأتي لهم بالخير؟ ولذلك يجب أن نكون منطقيين وواقعيين، وأن نتعامل مع هؤلاء الناس بالوثيقة وبهدوء، وهم لن يعطونا شيئا بسهولة، لأن مآل هذه الأمول ستكون للبلاد التي هي فيها، هو لن يأخذها، ولن ييسروا له الخروج بها، ولو أحسوا أنه سوف ينزح بها إلى بلد آخر، ساعتها هم الذين سيتصدون له، لكن هم يرهبونه، ويتلقون طلباتنا، ويقولون نحن نفحصها، وذلك ليس تطمينا لنا، ولا خدمة لنا، وإنما إرهابا لهؤلاء لكي يستكينوا ويتركوا الأموال لهم. 
- نعرف أن هناك الآلاف من الكلمات العربية دخلت إلى اللغة الإسبانية، فأي المجالات كانت الكلمات العربية أكثر حضورا؟
كل الألفاظ المتصلة بالحضارة دخلت إلى الإسبانية، القاضي، القائد، الدليل، المحافظ، صاحب الشرطة. إلخ. 
لكن الكلمة الوحيدة التي دخلت الاسبانية واستدعت اهتمامي هي كلمة هدية حيث كانت الهدايا شائعة في العصور الوسطى في الأندلس بين حكام الدول وسفرائهم ووزرائهم، وليس الأفراد. وانتقلت الكلمة إلى اللغة الإسبانية، ولكن مع تعديل بسيط في ذلك الوقت، حيث كان حرف الهاء يكتب فاء، فكانت تنطق فدية وفي إحدى المرت رجعت إلى المعجم، لأراجع ما معنى كلمة فدية فوجدت في المعجم أنها كلمة من أصل عربي، ومعناها سبورنو أي رشوة. إذن هناك ألفاظ كثيرة جدا تمثل حضارة، وألفاظ تمثل لونا من العلاقات الاجتماعية، وهي أكثر مما نتصور. 
- بمناسبة الحديث عن الفساد والرشاوى، كيف ترى بيت أبي الطيب عن مصر: نامت نواطير مصر عن ثعالبها. فقد بشمن وما تفنى العناقيد؟
المتنبي كان شاعر الحكمة، والشعر ليس فقط خيالا، ولكنه يصور الواقع الذي حوله، والمتنبي عندما جاء مصر، لم تكن مصر في القمة، وإنما كان يحكمها عبدخصي كافور الاخشيدي والمتنبي في هذا البيت الخالد كان يعبر عن الواقع، وهو يمثل حالنا أيام النظام البائد تمام التمثيل. 
- المثقف والسلطة. علاقة شرعية أم محرمة؟
المثقف لا يكون مثقفا حقيقيا إلا إذا كان في مواجهة السلطة، المثقف الذي يكون مع السلطة هو تاجر كلام، مهنته أن يبيع للشعب كلاما جميلا، لأن الثقافة موقف، وموقف المثقف ليس مع السلطة، وإنما في مواجهتها، وأن يكون رقيبا عليها، ليدافع عن حقوق شعبه بحكم ما أعطاه الله له من معرفة وقدرة على البيان، فإذا لم يستطع أن يقوم بهذه الوظيفة، فعليه أن يتنحى، ويترك المجال لغيره. 
أما هؤلاء الذين يأكلون على كل الموائد، ويرقصون على كل الأنغام، ويرتدون كل الأزياء، فهم ليسوا من الثقافة في شيء، وأعتقد أن أمرهم انكشف الآن، وبرغم ظهورهم على القنوات الفضائية المشبوهة، فإنهم لم يعد لهم قيمة. 
- يرى البعض أن وجود وزارتين للثقافة والإعلام علامة من علامات النظام التسلطي؟
أتفق، وقد طالبت بذلك طوال حياتي، لا أعرف دولة متحضرة فيها وزارة للإعلام، أو للثقافة. 
- ولكن فرنسا بها وزارة ثقافة؟
ديجول كان مغرما بالكاتب الكبير اندريه مالو وعينه وزير دولة للثقافة، بلا إدارة، بلا مسئوليات، وبلا سلطة تنفيذية، وكانت مهامه توجيه رئيس الجمهورية لفهم كيف تكون الثقافة. 
ولكن زارة الثقافة عندنا تحولت علي مدى العقود السابقة إلى وزارة شباك لصرف الرشاوى وليس أكثر من هذا، ووزعت الوزارة من الرشاوى الشيء الكثير. فعندما جاءت ثورة يوليو، واكتشفت ما يسمى بالمصاريف السرية في وزارة الداخلية، أسكتت الأنفس. 
- أعتقد لو أن الوزارة الآن تتبعت الأموال التي صرفت عن طريق المثقفين وللمثقفين، وإذا ما كانوا يستحقونها أم لا؟ فستجد عجبا، وستضع كل إنسان في مكانه. 
والثقافة في عهد وزارة الثقافة انحدرت عندنا انحدارا كبيرا، وأذكر أن الهدف من إنشاء وزارة للثقافة كان القصد منها السيطرة على حركة طبع الكتب ونشرها وأرزاق الأدباء، إذا كنت مع الدولة، تنشر لك، وأبواب الرزق مفتحة، لست مع الدولة سوف تموت جوعا. 
- وما البديل لوزارة الثقافة؟
نسأل أنفسنا: لماذا ازدهرت الثقافة قبل وزارة الثقافة؟ لنبحث ماذا كان يقرأ التلاميذ في الثانوي في ذلك الوقت، وماذا يقرأون الآن؟ التلاميذ في الأربعينيات والخمسينيات كانوا يقرأون من التراث الحيوان للجاحظ، ملخص الأغاني للأصفهاني، ملخص الكامل للمبرد، كتاب المكافأة كاملا لابن الداية الآن التلاميذ لا يقرأون شيئا إطلاقا. ويقرر عليهم كتب مؤلفة تأليفا خصوصيا، كتبها بعض المؤلفين المهيمنين على وزارة التربية والتعليم. 
- وزارة الثقافة تصدر مجلات 13 مجلة لا يقرأها أحد!
كم ننفق على هذه المجلات؟! أحمد حسن الزيات كان يصدر الرسالة أسبوعيا بمفرده، ولم يكن معه سوى كاتب حسابات، وموظف لإرسال المجلة للمشتركين. الآن نرى مجلات وزارة الثقافة وبها رئيس مجلس الإدارة ونائب رئيس مجلس الإدارة، ورئيس التحرير، ونائب رئيس التحرير، ومدير التحرير ونائب مدير التحرير، والمدير الفني، ونائب المدير الفني، إلخ. وهي لا توزع ولا تقرأ وليس لها صدى على الإطلاق، وتكلفنا الكثير!.
أعتقد أن كل هذه الاشياء لم تكن بحاجة إلى وقت لكي توقف. 
كل الناس يعرفون أن مجلة القاهرة أصدرها وزير الثقافة لتدافع عنه، هل وزير الثقافة الآن بحاجة إلى جريدة لتدافع عنه؟! والثقافة لكي تبدع لابد أن تترك للمنافسة الشريفة فقط. 
- عملت بالترجمة وقتا طويلا، هل فقدت مصر ريادتها في الترجمة؟
مع الاسف الشديد، وأذكر أمرين شهدت مصر بلغت فيهما الروعة: تحقيق التراث، والترجمة. 
وأذكر ونحن طلبة في مدريد، ان طالبا من لبنان - رحمه الله اسمه منير ناجي، كان يعد رسالة عن ابن هانئ الأندلسي، وكتب الرسالة وأقرها الأستاذ، وهو غارسيا غومس، وسأله: على أي طبعة لديوان ابن هانئ اعتمدت؟ فذكر له طبعة تصدر في بيروت، ومع أن الإسبان بينهم وبين لبنان صلة بحكم الكاثوليكية، لكن غومس قال له: أعوذ بالله بالعربي! وتساءل: هل هذه الدار يعتمد على طبعتها؟ وقال: عندما يطبع الكتاب محققا في القاهرة، فإن طبعة القاهرة هي التي تكون الأصل، قال: وهل حقق الديوان في القاهرة؟ قال: نعم، حققه (زاهد على) في دار المعارف، فقال له: ولكن هذا الكتاب غير موجود في إسبانيا، فقال له: لا تجمع إلى سوءة الجهل سوءة الكذب، هذا الكتاب موجود عندنا في المكتبة، ونادى سكرتيرته، وطلب منها إحضار الكتاب، فأحضرته. 
مدرسة تحقيق التراث عندنا ماتت، كان آخر العظماء فيها المرحوم محمود الطناحي. 
فيما يتصل بالترجمة أذكر انني كنت في طنجة، وكانت ميناء دوليا، وكانت بها مكتبة كبيرة تبيع الكتب العربية، وجاء رجل وسأل عن كتاب مترجم، فأعطى له كتابين فقال له: أنا أريد الترجمة المصرية، ورفض أن يأخذ الترجمة الأخرى. 
كان التراجمة المصريون هم أعظم التراجمة د. محمد عوض مثلا، عندما نقرأ ترجمته لكتاب النقد الادبي، فكأننا نقرأ كتابا باللغة العربية. 
الآن ليس عندنا مترجمون، إذا كان المترجم يعرف اللغة الأجنبية، لا يعرف العربية. 
- وكيف تقيم أداء المركز القومي للترجمة الآن؟
المركز القومي للترجمة كان أكذوبة كبرى، وكل ما قيل فيه كذب في كذب، بعض الكتب توجد لدى قديمة، يوجد كتاب عن الحوار بين الأديان، كتب سنة 1880، كيف نترجم كتابا كتب منذ ذلك الزمن السحيق؟ لا يعرض للكتب العربية التي تناولت ذلك الموضوع، لأن دار الكتب لدينا أنشئت سنة 1872، فلم تتكون فكرة للمؤلف عن الكتب العربية. أيضا هم يزعمون انهم يترجمون من اللغة الأولى، وكان هذا كذبا صريحا، وكان هذا طريقا للرشاوى الكبيرة، لدرجة أن هناك كتابا ترجمه مترجم جيد أظنه د. نعيم عطية، فأعطيت له مكافأة عشرة آلاف جنيه، ولكن المراجع أخذ خمسين ألفا!.
وتوجد كتب ترجمتها هيئة الكتاب في نفس السنة، لأنه كان مخططا إعطاء هذا عشرة آلاف - وذاك عشرين، وذاك ثلاثين. 
لذلك كان مشروع الترجمة الأول أعظم منه وأروع، واكثر إشاعة للثقافة. 
- هل أعمانا الافتتان بدريدا وبارت وفوكو وغيرهم عن عظمائنا ابن جني، الجرجاني والقرطاجني وابن سلام وغيرهم؟
يقول الشاعر القديم: يقضى على الإنسان في أيام محنته. أن يرى حسنا ما ليس بالحسن
انتشرت حملة استمرت خمسين سنة، تصف كل من يقوم على القديم بأنه ظلامي، ومتخلف، بعض الناس لكي يبرهن على أنه ليس ظلاميا ولا متخلفا، ولا رجعيا، يلوك لسانه ببعض الاسماء الأجنبية، وهو لا يعرف شيئا، وملأوا لنا سوق النقد بمصطلحات الله أعلم بها، غير مفهومة، ولا أحد يعرف من أين جاءوا بها؟ ولا أكتمك أنني حزنت عندما علمت أن قسم البلاغة في دار العلوم لا يدرس عبدالقاهر الجرجاني، لانه في زماننا كانت توجد محاضرة مخصصة اسمها نصوص من عبدالقاهر الجرجاني 
- فعندما يتخرج الطالب من دار العلوم، ولا يعرف من هو عبدالقاهر الجرجاني، فقل على البلاغة والنقد الأدبي السلام، وعندما يتخرج طالب من دار العلوم ولا يحفظ روائع شعر شوقي، فماذا تنتظر منه؟
اما هذه الكتب المترجمة، فتعجب عندما تقرأها، لا تفهمها، لأن الذي ترجمها لايفهم النص الأجنبي، وهي قواعد انتزعت من نصوص اجنبية، كيف تطبقها على لغة عربية عريقة. 
نحن بحاجة إلى نقد أدبي عربي يستفيد إلى أبعد حد من مستحدثات العلم، بشرط أنه هو الذي يتوصل إليها ويضعها في خدمة اللغة، ولا يضع اللغة في خدمة هذه القواعد. 
- الجوائز الأدبية كيف تراها وأنت مرشح لجائزة كبرى الآن؟
هذه الجائزة انا مرشح لها منذ نحو 15 عاما، وتقريبا منذ أن أنشئت وأنا مرشح لها. 
- هل تبرئ الجوائز في مصر من الهوى؟
أعطيك مثالين: في سنة 1992 رشحت لجائزة الدولة التقديرية، ولم أحضر اجتماع القسم الذي رشحني، وتم ترشيحي من جامعة القاهرة، وأرسل الترشيح للمجلس الاعلى للثقافة، وحصلت على 31 صوتا من 39 صوتا، وحصل عاطف صدقي على 30 صوتا، وحصل فتحي سرور على 28 صوتا، وحصل على لطفي على 26 صوتا في الاقتراع الثالث، وخرج د. الأنصاري - رحمه الله - من الاجتماع قبل انتهائه واتصل بي مهنئا، ومع ذلك لم أحصل عليها. 
وكنت كل سنة أرشح للجائزة، لدرجة أن بهاء طاهر - مساه الله بالخير - وليس بيننا صلات - عندما حصل على الجائزة، قال أنا في الواقع كنت أرجوها إما للطاهر مكي أو لكمال بشر. 
وانا لا أهتم بالجوائز ولا أعطيها أى أهمية، لسبب بسيط أن الذين يحكمون عليك باستحقاقك الجائزة من عدمه هم أقل شأنا علميا. 
- كتابك السلطان يستفتي شعبه. أى معنى سياسي وثقافي يكمن وراءه؟
في الحقيقة أن القصة التي تحمل هذا العنوان - وهي قصة شعبية مغربية - كان مقصودا بها أن بعض الناس يصلون إلى رئاسة الدولة وهم خلو من أي فلسفة، ويتصنعون العلم والمعرفة، وهم ليسوا علماء، وليسوا على شيء من معرفة، ويتظاهرون بالديمقراطية وهم في أعماقهم مستبدون، والقصة الوحيدة ذات الطابع السياسي هي هذه القصة، أما باقي الكتاب فهو قصص شعبية. 
- الحرية في مجتمعنا العربي. أزمة حكم أم أزمة مجتمع؟
أزمة مجتمع، لأنها لو كانت أزمة حكم فقط، لطالب الإنسان بالحرية لنفسه ولغيره، ولوقف عند حدوده، لكن الناس الآن في وطننا، يطلبون الحرية لأنفسهم فقط، ويعنون بالديمقراطية أنفسهم، ويتحدثون باسم الجماعة، وليس لديهم جماعة، ويتحدثون باسم الأغلبية، وهم لا يمثلون إلا أنفسهم، إذن الحرية عندنا أزمة مجتمع. 
نحن على امتداد الأعوام الطويلة التي مرت، غاب في فلسفتنا، وفي دراساتنا المعنى الديمقراطي، وأخذنا العناوين فقط، ولسوء الحظ أن الذين كانوا يتداولونها كانوا في الحقيقة خواء من المعرفة، وفي الوقت نفسه كانوا غير جادين، وغير راغبين لا في الديمقراطية، ولا يفهمون الحرية بمعناها السياسي ومعناها الإيجابي الذي يوصل إلى خير الناس جميعا. 
- ونحن نحتفل بعامين على ثورة يناير كيف تقيم هذه الثورة؟
أولا هذه الثورة كانت لابد أن تأتي، وأجمل ما فيها، أنه رغم القبضة الخانقة، استطاع هؤلاء الشبان أن يعيدوا إلى مصر وجهها الأساسي المعروف القومي الوطني، ولكن مع الأسف الشديد أن ثقافة هؤلاء ثقافة نت لم يستطيعوا أن يتجمعوا عند قواعد متفق عليها، ومعروف ان خصوم الثورة كثر، وأغنياء، واخذوا ينفقون ببذخ لإفسادها، فترفقت بنا السبل، وأطعنا وقتا طويلا في اشياء لا تفيد، وهناك أشياء يقصد بها الشر والباطل، وألبست ثوب الحق، ونحن لا نستطيع التعرض لشئون القضاء، ولكنني أذكر مثلا عندما فصل مفيد شهاب نحو 700 استاذ من الجامعة بلغوا السبعين، وأرسلوا لنا خطابات تفيد رفع أسمائنا من كشوفات الجامعة، ولا صلة لكم بها، رفعنا قضية في المحكمة الدستورية، وطالبنا فيها بإلغاء هذا القانون بالنسبة لنا، لأن القانون القديم مطبق علينا، وخرجنا إلى المعاش منذ زمن، وكان معنا عمالقة الفقه الدستوري، فظلت هذه القضية متداولة 4 سنوات، وبعد هذه السنوات الأربع حكم لنا في هذه القضية البسيطة، أما ان تحل مجلس الشعب في جلسة واحدة، وبقرار نافذ!
هناك أيضا أشياء كثيرة كان ظاهرها القانون والدستور والديمقراطية، ولكن باطنها كان أشياء أخرى. 
لابد أن تنقى الثورة، وأن تعطى فرصة للذين نجحوا في الانتخابات أن يخرجوا ما عندهم، ولكنني في نفس الوقت أتوجه برجاء للدولة نفسها، بعض الوزراء كسالى، هناك قرارات لا تستحق أن تؤجل، فمثلا في الجامعات، هناك لجان تسمى لجان ترقيات الأساتذة، منذ مجيء الثورة، ونحن نريد تغييرها، ولا تزال كما هي، ولا يزال 4 أو 5 هم من يتحكم في الترقيات. 
بعض الأشياء في البلد تحتاج إلى حسم، لاسيما الأمور التي تتصل بمصالح الجمهور، ولابد من تذكير الناس بأننا في سفينة واحدة، إذا غرقت، غرقنا جميعا، وإذا نجت، نجونا كلنا. 
- أخيرا ما جديد د. الطاهر؟
من عادتي ألا أعمل في شيء واحد، الآن أنا بصدد نشر رسائل متبادلة ومعاهدات تجارية وسياسية بين مملكة في كتالونيا في إسبانيا، وبين المماليك هنا، وبينهم وبين الحكومة في تونس، والجزائر والمغرب. 
وأهمية هذه الرسائل أنها تلقى ضوءا على علاقاتنا مع إسبانيا، والإسبان أنفسهم نشروها بالإسبانية بالرغم أنها بالعربية، وتعتبر هذه الأشياء جزءا من التاريخ، وتعلمنا هذه الوثائق أن الاقتصاد يلعب الدور الأكبر في علاقات الدول. 
ولدي مخطوطة جيدة أوشكت على الانتهاء منها عن نظم الحرب في الإسلام كان قد وضعها رجل أندلسي في القرن الرابع عشر الميلادي، والعجيب ان الفرنسيين لكي يعرفوا كيف يحاربوننا، ترجموا هذه المخطوطة إلى الفرنسية. 
وانتهيت من كتاب عن صورة صلاح الدين الأيوبي في الأدب الأوروبي الوسيط واكتشفت أن الأوروبيين يحترمونه احتراما شديدا، لدرجة أنهم نصروه، زاعمين انه اعتنق المسيحية، ودفن لديهم، ويشتمل الكتاب على حكايات عن إنسانيته وبطولته في الأدب الإيطالي والفرنسي، والاسباني والانجليزي.

-----------------------------------------------------------------------------------

النظام السابق حوّل الثقافة إلى تسلية

المصدر: جريدة أسرار الأسبوع.

لطاهر مكي: النظام السابق حوّل الثقافة إلى تسلية الدكتور الطاهر مكي، أستاذ الدراسات الأدبية في كلية دار العلوم جامعة القاهرة، صاحب مدرسة نقدية لا تميل إلى الحداثة ولا تتعصب للتراث وإسهامه النقدي والمعرفي . لم يُقْرأ كما ينبغي ولكنه يعول على التاريخ أن ينصفه، أثرى المكتبة العربية بالعديد من الكتب ما بين تأليف وتحقيق وترجمة، منها: “امرؤ القيس .
. حياته وشعره”، “ملحمة السيد”، “دراسة في مصادر الأدب”، “الأدب المقارن . . أصوله ومناهجه وتصوره”، “الفن العربي في إسبانيا وصقلية”، “الشعر العربي في إسبانيا وصقلية”، “بابلو نيرودا . . شاعر الحب والنضال” . كما حقق مجموعة من الكتب المهمة منها: “طوق الحمامة في الألفة والإلاف لابن حزم”، “فن الشعر لأبي البقاء الرندي” وغيرهما . . هنا حوار معه .

كيف تقرأ ثورة 25 يناير؟

- هذه الثورة نتيجة حتمية لما كان يجري في مصر خلال الثلاثين عاماً الماضية والذين يعرفون طبيعة الشعب المصري واطلعوا على تاريخه جيداً كانوا يتوقعونها وكنت أتوقعها بشكل شخصي، هي ثورة وليدة تطور أجهزة الاتصال من غير لقاء بين المشاركين وليس لها زعيم محدد، من هنا فهي حصيلة اتجاهات متعددة، فالثورة استطاعت أن تزيح نظاماً مستبداً ولكن حتى الآن من الصعب أن تحقق نتائجها المرجوة قبل عامين أو ثلاثة .

لماذا؟

- لأن هناك عدداً كبيراً من الانتهازيين ومحترفي السياسية اندسوا بين صفوفها وبدأوا يرفعون رايات الثورة لأمرين: لحماية أنفسهم أولاً، ولعلهم يجدون لهم مكاناً ونصيباً في مغانمها ثانياً .

ما المطلوب لكي تحقق الثورة أهدافها؟

- لا بد من وضع خطة للقضاء على بقايا فلول النظام القديم من جميع مؤسسات الدولة سواء كانوا أشخاصاً أو سياسات، والمضي قدماً نحو بناء المستقبل، وهذا البناء يقوم على دعامتين الأولى النهج العلمي، والثانية سيادة القانون .

هناك مخاوف من أن تتحول مصر إلى جمهورية من جمهوريات الموز؟

- من الصعب أن يحدث ذلك والذين يرددون هذه المقولات لا يعرفون جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية، ولقد عشت هناك عامين وأعرف طبيعة الحياة، حيث البلدان هناك تملكها فئات محددة تملك كل شيء، فإذا ما وقع انقلاب عسكري ضدهم استعانوا بالمخابرات العسكرية الأمريكية التي تقدم المرتزقة والمأجورين لغزو بلادهم، والشعب لا يعنيه الأمر، سواء الذين صنعوا الانقلاب أو الذين خسروا الحكم، ولا الذين جاءوا ليزيحوا المغتصبين عن مناصبهم، لأن الشعب لا يملك شيئاً، إنه صراع بين الإقطاع والشركات بعضها بعضاً .

ونحن في مصر ليس لدينا إقطاع ولا شركات يمكنها أن تجند الجيوش، وليس على حدودنا أيضاً بلدان ضعيفة يمكنها استجلاب مرتزقة على غير إرادتها ويزحفون منها للاستيلاء على الدولة المجاورة، وفي مصر هناك رغبة في إعادة البناء، ولكن الناس يتعجلون قطف الثمار، وهذا ليس من مصلحتهم ولا مصلحة الثورة .

ما تعليقك على أن النقد العربي في عصوره القديمة لم يحقق شيئاً إلا بتواصله مع التفكير الإغريقي واليوناني قديماً ومع المنجز الثقافي الغربي حديثاً؟

- النقد هو صدى للأدب نفسه ولا يمكن أن يكون لديك نقد جيد ورفيع المستوى إلا إذا كان هناك إبداع يفوقه أو على الأقل يساويه، حينذاك يستطيع النقد أن يسمو ويرتفع ويفيد من كل الاتجاهات  دون أن يفقد هويته . يظل نقداً عربياً ويفيد من الثقافات اليونانية والفارسية والهندية وغيرها التي كانت معروفة في عصره، ولكنه يظل في النهاية نقداً عربياً لأنه يدرس إبداعاً عربياً رفيعاً، وحين تراجع الإبداع العربي في عصور التدهور تراجع معه النقد العربي، على الرغم من أن كل التيارات الأخرى كانت موجودة وكان منفتحاً عليها . إذاً، حجر الزاوية في النقد هو الإبداع العربي نفسه، إذا وجد شاعر في مستوى شوقي وجد معه ناقد في مستوى العقاد، وإذا وجدنا ناثراً في مستوى مصطفى صادق الرافعي يوجد معه ناقد في مستوى الدكتور محمد مندور، سواء قُبل اتجاهه أو رفض، ولكن حين يختفي شوقي وتمتلئ الساحة بأشباه الشعراء الذين لا لون لهم ولا طعم ولا رائحة، فمن المنطقي أن يأتي النقد الأدبي على مستواهم .

هناك جانب آخر يتعلق بالمناخ العام، عندما كان المناخ العام سليماً كان النقاد والمبدعون أيضاً يعيشون من نتاج فكرهم بشفافية، لكن عندما تخلّفت الحياة السياسية وخربت الضمائر وظهر مثقفون يساندون النظام الفاسد، أصبح لهم نقاد رسميون ومن هنا انحط النقد العربي .

كيف تنظر إلى شعار “نحو نهاية نقدية عربية” الذي رفعه الناقد الراحل الدكتور عبد العزيز حمودة وهو ربيب الثقافة الغربية؟

- للأسف بعض النقاد العرب قاموا بالسطو على المصطلحات والنظريات الأجنبية ونقلوها كما هي ليطبقوها على الأدب والثقافة العربية وهذه كارثة، أعطيك مثلاً: النقاد الآن يطلقون على نقد الشعر كلمة “مقاربة” وهذه الكلمة في اللغة العربية لا تعني الإبداع ولا التحليل وإنما تعني الاقتراب، فكيف نقلها هؤلاء إلى تحليل النص الأدبي، فهؤلاء عالة على الفكر الغربي . هناك أشياء كثيرة وألفاظ ومصطلحات لا تعرف معناها مع أنك مختص خاصة إذا كتبت من غير حروفها اللاتينية أنا لا أفهمها إطلاقاً، ومن هنا كانت الدعوة إلى نقد عربي يصنع كما يصنع النقد الأوروبي، إذ عاد النقاد هناك إلى أدبهم ولغتهم ودرسوها واستخرجوا القواعد منها، وهذه القواعد لا تصلح إلا لأدبهم، نحن في حاجة إلى دراسة ما جَد في إبداعنا من أنواع أدبية لم تكن عند نشأة الأدب العربي الأصيل مثل الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، وأن نعود إلى دراستها وإيجاد قواعد ونظريات لها لا بأس بأن نستنير بمن سبقونا، لكن النقد كما هو وتطبيقه كما هو، عمل ضار لأننا جعلناه عالة على غيرنا، وظهر النقد العربي كأنه ثوب من سبعين رقعة ملونة الأشكال مختلفات، كما يقول حافظ إبراهيم .

هل تتوقع أن تتغير لغة المثقفين بعد الثورة؟

- نحن الآن في مرحلة مخاض لا نعرف شكل المولود القادم ولا لونه ولا مستوى صحته، ولذلك لا يمكن القول إن الثورة أثّرت ثقافياً في حياتنا إلا بعد مرور جيل كامل من الزمان، والإبداع الذي ولد من رحم الثورة الآن هو إبداع مشوه يفتقد الصدق والحرارة ولا نستطيع أن نحفظ منه كلمة واحدة، ومصر في حاجة إلى إعادة بناء ثقافتها من جديد .


---------------------------------------------------------------------------------


اللّغة العربيّة وتكنولوجيا القرن الواحد والعشرين

الطاهر أحمد مكي

تاريخ النشر: 05/08/2012 
اقرأ للكاتب

اللّغة، أيّ لغة، دون نزاع، أوضحُ خصائص الجنس البشريّ، فهي مرآة العقل، وأداة الفكر، ووعاء المعرفة، وتاريخ أيّ لغةٍ هو تاريخ شعوبها، وازدهار أيّ حضارة مرتبط بازدهار لغتها، تسمو بسموّ المتكلّمين فيها، وتنحدر بانحدارهم.ولغتنا العربيّة أعرق اللّغات السّامية، وأغناها أصواتاً وصرفاً ومعجماً، وهي أجمل اللّغات إيقاعاً، وأيسرها تركيباً واشتقاقاً، والحفاظ عليها مسؤوليّة الجميع، المجتمع ومؤسّسات التّعليم والتّربية والإعلام، مقروءاً ومسموعاً ومرئيّاً، والمنظّمات الثّقافية بكلّ مستوياتها.
مع التّقدم الهائل في تكنولوجيا المعلومات، وتفجّر المعرفة على كلّ المستويات، احتلّت اللّغة مركز الصّدارة، وتجاوز تأثيرها مجالات التّربية والثّقافة إلى المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والتّقنيّة، وإذا كانت اللّغة قد ارتبطت بالسّياسة في عصور سلفت عن طريق الخطابة، وأداتها اللّغة، وإجادتها شرط في نجاح الحاكم وشعبيّته، فهي الآن أساس الخطاب الإعلاميّ ومادّته اللّغة، والإعلام يلعب أهمّ دور في الحياة السياسيّة، وطنيّة أو قوميّة أو عالميّة.
وأدى ذلك إلى العناية باللغات القوميّة التي اندثرت، أو كانت في طريقها إلى الاندثار، في عدد من البلاد الأوروبية وغيرها، ونجح بعضها نجاحاً كاملا كما هو الحال في اللغة العبرية في فلسطين المحتلة، واللغة القطلونيّة في شمال شرقي إسبانيا، والجليقية في شمال غربيها، ولغة ويلز في بريطانيا، وأخذت هذه الظاهرة بعداً سياسياً خاصة بشعار أوروبا الموحدة، واختلف حولها المثقفون هناك، رآها بعضهم عقبة كأداء في طريق أوروبا الموحدة، ورآها آخرون مصدر طاقة ثقافية كامنة، يمكن أن تثري الحضارة الأوروبية في مختلف بلدانها.
وتجلى التأثير الاقتصادي واضحاً فيما تتمتع به الولايات المتحدة من ميزات في تنافسها الشديد مع اليابان في سوق البرمجيات، لشيوع اللغة الإنجليزية وبساطتها، وانغلاق اللغة اليابانية وصعوبتها، ومن هنا جاء اهتمام البلدين الشديد بنشر لغتيهما، والإنفاق على تعليمها في البلاد التي لا تتكلمها، فاليابان مثلا تموّل تعليم اللغة اليابانية في الجامعات المصرية وتدعمه، وتمد هذه الكليات بالمعامل اللغوية والكتب والأساتذة.
وتزداد العناية باللغة –أي لغة– أهمية حين ترتبط بتقنية الطباعة والاتصالات والبرمجيات، والدور الخطير الذي تلعبه في تطوير معمارية الحاسب على نحو ثوري حتى أنه ليعد الآن حاسباً لغويّاً، غايته كسر الحواجز التي تعاني منها بعض اللغات، كالصينية واليابانية، أملا في السيطرة على سوق المعلومات العالمي، والذي يعدّ فيه تعامل تقنية المعلومات مع لغات العالم المتعددة عاملا حاسماً في تحقيق السيطرة.
لقد فجرت تقنية المعلومات مشكلات اللغة على نحو لم يحدث من قبل، وتظهر المواجهة الشديدة بينهما الحاجة الماسة إلى التوفيق بين اللغة والحاسب حتى يتهيّأ للأولى أن تفيد من الثاني، ومن الثاني أن يستخدم الأولى في كفاءة ومن غير مشكلات في الاستخدام والتوصيل، ولن يتمّ ذلك في كفاءة إلا بجهد بالغ من الجانبين، علماء اللغة من جانب، وعلماء الحواسيب من الجانب الآخر، ولن يستطيع أيٌّ منهما أن يصل وحده إلى حلّ مشكلات هذه القضية، وهي بالغة التشابك والتعقيد.
لقد وجد علماء اللغة وعلماء الحواسب أنفسهم أمام تحدٍّ حقيقي؛ لأن ما هو متاح الآن لا يكفي لمواجهة مشكلات اللغة – الحاسب ولا بديل عن استخدام مناهج مبتكرة، وشق دروب علمية جديدة، في جوانب لم يتطرق إليها البحث العلمي من قبل، وهو ما تقوم به مراكز علمية جديدة متخصصة في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وألمانيا واليابان ومناطق أخرى من العالم.
وتصنع الأمم الحريصة على السبق والتقدم المستحيل لكي تحقق غاياتها، ولو أحنت رأسها أمام من تراهم خصومها وأعداءها، وتزهو عليهم وتتكبر بتقدمها وعلمها، وأخرى تتراجع أمام ما كانت تراه تهويمات إبداع، تستمع إليه وتدرسه، فقد تخرج من ورائه بجديد نافع.
إسرائيل تدعو أحمد زويل ليحاضرَها عن ثمرة خياله العلميّ، وقد حوّله هذا العالم المصريّ الفذّ إلى واقع علميّ بعد أن نجح في سحق الزّمن إلى وحدة (الفمتو ثانية) واحد على ألف تريليون من الثانية، التي تتعامل معها آلة تصويره الفائقة السّرعة.
ويرى الكونجرس الأمريكيّ أنّ أيّ خيال علميّ الآن يمكن أن يصبح في الغد واقعاً، وهكذا دعا كاتباً متخصّصاً في الخيال العلمي ليحاضره في مستقبل صناعة المعلومات، وهو يضع سياسة جديدة لنظم الاتّصالات في الولايات المتّحدة.
هذه العمليّة الجادّة والمتحرّرة في الوقت نفسه لم تستطع وهي تدرس قضايا اللغة لكي تجعل منها وسيلة ناجحة وميسرة يستخدمها الحاسب الآلي، أن تتخلص من الأسئلة القديمة ذات الطابع الفلسفي، والتي عادت تطرح نفسها من جديد: هل اللغة ظاهرة عشوائية اعتباطية أو وراء ظاهرها نظام متسق تحكمه قواعد ومبادئ؟
هل ندرس سلوكها الظاهر المحسوس أو نحاول استجلاء المعرفة اللاواعية التي تحكم آليات النطق والفهم؟ هل اللغة سلسلة من الرموز الخطيّة أو شبكة من العلاقات المتداخلة، أو أبنية من مستويات متوازية متتالية؟
ما الوحدة اللغويّة التي يرتكز إليها الدرس اللغوي: أهي اللفظ أو الجملة أو السياق؟ وهل المدخل لدراسة بنيتها الداخلية: مباني تراكيبها، وأنماط نظمها أو دلالة معانيها؟ استعاراتها بخاصّة، وما تبطنه كناياتها؟
وهل تدرس اللغة المنطوقة أو آثارها المكتوبة؟ وهل تعني باللغة كما يجب أن تكون أو كما تمارس في واقع الحياة اليومية، أو نجمع بينهما؟
ومن هنا يرى بعض العلماء أن إخضاع اللغات لضوابط العلم وهمٌ خادع؛ لأن الرياضيات والمنطق والإحصاء لا تستطيع أن تحيط بهذا الكمّ الهائل من ظواهر اللغة المعقّدة، ومن الصعب- إن لم يكن مستحيلاً- على هذه الآلة الصماء (الحاسب) أن تحاكي ملكة اللغة في مرونتها، ومترادفاتها، والانفعالات الكامنة وراء تعابيرها.
لكنّ آخرين من العلماء أيضاً يرفضون هذا الرأي تماماً، ويرون أن كلّ ذلك ممكن تحقيقه إذا توافرت لدينا وسائل علمية جديدة ورياضية حديثة، وإحصاء متقدّم، ومنطق يغاير منطق أرسطو، ومعالجة آلية تختلف عن أساليب البرمجة الحالية التقليدية، وهكذا ظهر ما يسمّى علم (اللّسانيات الحاسبة) (computional linguistics) وأدى ذلك إلى ثورة علميّة في معظم فروع علم اللغة، لما يزل صداها قوياً الآن – طبعاً في غير العالم العربيّ – ولفترة قادمة قد تطول.
إنّ دخول دراسة اللغة في مصاف العلوم المضبوطة فيما يرى عدد من العلماء شرطٌ جوهريّ لكي تتبعها علوم الاجتماع والأدب والنقد، وعلم (استرجاع المعلومات) وهو ما يزال قيد البرمجيات الهندسيّة العمليّة.
لقد أصبح التعامل مع اللغة الآن آليّاً بواسطة الحاسب، وهو محور تقنية المعلومات، وأصبح التواصل عن بعدٍ عبر الوسيط الالكتروني أوسع نطاقاً، وأكثر تنوّعاً، مما قلب مفهوم التواصل اللغويّ التقليدي الذي اعتمدنا عليه قروناً رأساً على عقب فيما يتصل بالعلاقة بين المرسل والمتلقي، أو تنوع أشكال التواصل واتساع نطاقه، ومع ذلك يرى المختصون أن التواصل الحاليّ عبر الشبكة العنكبوتيّة ويرتكز الآن على الكتابة هو مرحلة بدائيّة تمهّد لتواصل أوسع نطاقاً، وسوف تنتهي بنا إلى تواصل أوسع دائرة يمتزج فيه المكتوب بالمسموع، إضافة إلى المرئي من الصور الثابتة والمتحركة.إنها ثورة في أسلوب التواصل ذات نتائج خطيرة، بعيدة المدى فوق ما نتصوّر.

اللّغة العربيّة، والتّطورات التّقنيّة المعاصرة:

قبل أن نعرض لموقف أهل اللّغة العربيّة من التّطورات الخطيرة التي تجري حولنا ونتحدّث عن السّلبيّات الهائلة التي تحول بيننا وبين مكاننا الذي نستحقّه بين الدّول الكبرى المتنافسة من الضروري أن نذكر بميزاتها التي يجهلها الكثيرون من أبنائها الأجيال الشابة بخاصة، واليساريون المراهقون، والمولعون بالغرب حضارة وثقافة على نحوٍ أخص حتى نأتي على الصعاب الكبرى التي تقف في طريقنا، وتحول دون الوصول إلى غايتنا هذه، وهو طريق لا مفر لنا من اجتيازه إذا أردنا الحياة فلا نهضة بدون الوصول إلى هذه الغاية العظمى.العربية أعرق اللغات السامية، وأغناها أصواتاً وصرفاً، وأثراها معجماً، وهي تتسم بالتوسط اللغوي، ويتجلى ذلك في معظم خصائصها اللغوية مما يجعلها وسطاً بين أطراف كثيرة من المحاور التي تحدد مجالات التنوع اللغوي، فهي تؤثر الشائع وتكرر الشاذ، وتجمع بين كثير من الخصائص اللغوية المشتركة مع لغات أخرى. فإذا اتخذنا من الإعراب مثلاً وجدناها تتخذ موضعاً وسطاً، فهي لا تخلو منه تماماً كما هو الحال في اللغة الإنجليزية، ولا يكثر فيها نسبياً كما هو الحال في اللغة الروسيّة (حالات الإعراب في العربية ثلاث، وفي الروسية ست).
وتضمّ اللغة العربية في صيغ الأفعال المزيدة خمس عشرة صيغة،فتجئ وسطاً بين اللّغات ذات صيغ الأفعال المحددة كاللغة الإنجليزية، والأخرى ذات المزيد منها كالإسبانيّة حيث يتجاوز عدد صيغ أفعالها ثلاثين صيغة.
وتتسم اللغات السامية عامة بخاصية الاشتقاق الصرفيّ المبني على أنماط الصيغ، والعربية في هذا نسيج وحدها لا تباريها في ذلك لغة سامية أخرى أو غير سامية، وتتميز في ذلك بالاطراد الصرفي شبه المنتظم كظاهرة صيغ الجمع مثلاً، ويزيد النّظام الصّرفيّ العربيّ في اطّراده من قابليّته للمعالجة الآليّة، وميكنة المعجم العربيّ، وتطوير نظم آليّة للإعراب الآليّ، والتّشكيل التّلقائيّ، فنظام الصّرف في اللّغة العربيّة يتمتّع بثراء اشتقاقيّ لا تدانيه لغة أخرى في العالم، ذلك وغيره كثير يجعلنا نعتزّ بلغتنا العربية، ونزهو بها، ولسنا وحدنا في هذا الاتجاه، فقد سبقنا الإغريق قديما في هذا، وكانوا يرون أنّ لغات غيرهم بالنسبة للإغريقية نباح كلابٍ، أو نقيق ضفادع، ويقدّس اليهود لغتهم العبرية فيحرمون الكذب بها، ويستحلونه بغيرها، وفي العصر الحديث لا يصدق الفرنسيون أن هناك في العالم من لا يعرف لغتهم، وإن كان فلا بدّ أن يكون جاهلاً متخلفاً لا يستحق الاحترام. وحين تولى الجنرال فرانكو حُكمَ إسبانيا عام 1939م، ولحظ أنّ مواطنيه يحسّون بمركب نقص تجاه تقدم أوروبا وتخلفهم، جعل وسائل العلاج إشاعة الاعتزاز، والزّهو بينهم بلغتهم القوميّة، وأنهم ليسوا في حاجة لمعرفة أية لغة أجنبية غيرها، وقصر التعليم على اللغة الإسبانية وحدها.

اللغة والحاسب:

عندما ظهر الحاسب آلة في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين تحدث العلماء عن استخدامه المحتمل في مجالات التحليل اللغويّ والتّرجمة الآليّة، وقد باءت المحاولات الأولى بالفشل الذريع، وبدا أن ذلك مستحيل، ما لم تخضع اللغات قبل ذلك للتجريد الرياضي، والتنظير الدقيق، وهما الوسيلتان لدخول اللغة عالم المعالجة الآلية بواسطة الحاسب. وهكذا وضع (برتراند راسل) الأسس الرياضية لنظرية صوريّة للغات الرمزية، ثم جاء (نعوم تشومسكي) في نهاية الخمسينيات من القرن نفسه فوضع النموذج الرياضي للغات الإنسانيّة حين أدخل مصطلح النحو التوليديّ في علم اللّغة، وتطور على يده ورفاقه ليصبح نظرية ذات تأثير عظيم لا في علم اللغة فحسب، وإنما في الفلسفة وعلم النفس والفروع العلمية الأخرى المعنيّة باللغة.كان تشومسكي يرى أنّ الملكة اللغوية فطريّة في الإنسان، ومظهر خاصّ بالجنس البشري تميزه عن الآلية وعن غيره من سائر الحيوان، وأن الإبداع اللغوي خاصية مميزة للبشر لكنّه إبداع يحكمه قانونٌ، وهو ما يبحثه النحو التوليدي.
تقوم النظرية التوليدية على دعائم أهمها:
أن الغاية من الدرس اللغوي ليست تحليل عينات الأمثلة، أو توصيف حالات الاطراد والشذوذ، أو وضع قائمة بمعايير الحكم على صحة الجمل، بل بوضع نحو توليدي رياضي للغة، يمكنه توليد جميع الجمل المسموح بها من قبل هذه اللغة بمجموعة من القواعد الرياضيّة.
وبينما شغل اللسانيون أنفسهم في الماضي بالبحث عن التباين اللغوي ركّز تشومسكي في أبحاثه على العموم اللغوي، وعلى القاسم المشترك بين اللغات للوصول إلى نحوٍ عام يفسر ظواهر التشابه والتباين بينهما، وبقدر ما حظيت نظريات تشومسكي من تأييد وترحيب على امتداد القرن العشرين واجهت في الوقت نفسه نقدا شديداً من فلاسفة اللغة وعلماء النفس إذ رموها بعدم الواقعيّة؛ لأنها أهملت وظيفة اللغة الاتصالية، وأبعادها الاجتماعية، وركزت على اللغة في صورتها المفترضة لا على تلك التي تمارس في الحياة العملية، ورأى علماء الحواسب أنها تسرف في تجريداتها وعمومياتها على نحو يجعل من الصعب استخدامها عمليّاً أساساً لتطوير نظم واقعية لمعالجة اللغة آلياً.
لقد خضعت اللغة للصياغة الإحصائية والرياضية، وجزئيّاً للتحليل المنطقي، وأصبح الطريق ممهداً لتدخل مرحلة المعالجة الآلية لتأكيد وصولها إلى مرحلة النضج العلمي.

العلاقة بين الحاسب واللغة بعامّة:

منذ ظهرت الحواسب في أواخر الأربعينيات توثقت صلتها باللغة وتأصلت في كلا الاتجاهين؛ لأن اللغة تجسّد –ببساطة– ما هو جوهري في الإنسان، وهو نشاطه الذهني بكلّ تجلياته. وفي الوقت نفسه اتجه الحاسب نحو محاكاة وظائف الإنسان وقدراته الذهنية، لقد صحبت ثورة التنظير اللغويّ تقنية في الحواسب لا تقل ثورية في تطبيق أساليب الذكاء الاصطناعيّ، وعلوم المعرفة وتقنيات الأعصاب على معالجة اللّغات الإنسانيّة بواسطة الحاسب بهدف إكساب هذه الآلة المهارات اللّغويّة من اشتقاق وتصريف وإعراب، واختصار وفهرسة، وتدرج هذا الالتقاء حتى بلغ درجة عالية من التّفاعل العلميّ والتقني على نحوٍ غير مسبوق حتى أنه أمل في أن يقوم الحاسب بكتابة نصّ أدبي يوماً ما.مع التقدّم الواضح في علوم اللغة، والتقدم المذهل في مجال الحواسب بعامة وفيما يتصل باللغات خاصة تطلب تفجر المعرفة واتساعها استخدام وسائل آلية ذات كفاءة عالية لتنظيم هذا الفيض المتدفق من المعلومات وتنظيمها وتخزينها واسترجاعها وتوظيفها وزيادة كفاءتها.
إن تطور الحواسب لم يعد يقف عند حدّ، وبحسب المرء أن يتابع أبسطها (الهاتف المحمول مثلاً) فسيجدها تتقدم تقنية واستخداماً وحجماً وتكلفة وتخصصاً من شهر لآخر، فأصبح منها ما هو خاص بتشخيص الأمراض، وتقديم الاستشارات القانونية والفنية وكلها تتطلب القدرة على الحوار مع المستخدم (بكسر الدال) البشري بلغة سهلة تقترب من لغته الطبيعيّة، ولا يزال التقدم متواصلاً ويصعب تخيل إلى أين سوف ينتهي بنا!

وماذا عن اللغة العربية؟

بدءاً علينا أن نعترف أن تقنيات الحاسب الآلي اللغوية قامت لتلبي أصلاً المطالب الخاصة باللغة الإنجليزية من أجل الولايات المتحدة لا من أجل عيون بريطانيا، فمعظم لغات البرمجة مصمّمة بالإنجليزية، والشفرات المستخدمة لتبادل المعلومات صممت أصلاً للتعامل مع الأبجدية الإنجليزية، وهي محدودة في حروفها وفي أشكال هذه الحروف، وبهذه اللغة نفسها تم تخزين المعلومات واسترجاعها، والقسم الأكبر من مكتبة البرامج الجاهزة باللغة الإنجليزية، ومثلها معظم المصادر والمراجع والدوريات والبحوث على حين أنّ 90% من سكّان العالم الإنجليزية ليست لغتهم القوميّة. ولم يحدث ما يزحزح الإنجليزية من مكانتها هذه إلا عندما ظهرت اليابان قوى عالميّة، ولها لغتها الخاصّة وهي تعتزّ بها، وتحاول كسر سيطرة الإنجليزية على تكنولوجيا المعلومات بعامّة، والشبكة العنكبوتية بخاصّة، وفي سبيل ذلك تتزعّم الدول غير الناطقة باللغة الإنجليزية لتكوين حلفٍ قويّ يدافع عن مصير اللغات القوميّة في مواجهة الخصم اللغوي الأمريكيّ، وتعدّ التعامل تكنولوجياً مع لغات العالم المتعددة عاملا مهمّاً في كسر هذه السيطرة، ولكن علينا أيضاً أن نعترفَ بأن لغتنا القومية لا تحظى بالاهتمام الجديرة به، وأنها في ظل العولمة، وثورة المعلومات تتعرض لحركة تهميش نشطة بفعل الضغوط الهائلة الناجمة عن طغيان اللّغات الأجنبية وعلى رأسها الإنجليزيّة، وتشاركها في هذا لغات أخرى، وكلها تشنّ حرباً ضارية ضدّ العروبة والإسلام لشدّة الارتباط بينهما.كما أنّ تعليمنا في كل مستوياته لا يعكس مدى أهمية اللغة العربية، لا في مناهجه ولا في سلوك أساتذته، ولا في أداء تلاميذه، وخلال عصر مبارك المخلوع فرضت قوى أجنبية- يعرفها كل الذين يعملون في وزارة التربية- رأيها لغايات في نفسها، حتى أنهم وضعوا على رأس اللجنة المكلفة بتطوير مناهج اللغة العربية مدرسة (هوايات وأشغال) توجهها لحساب الذين أتوا بها، وكانت صاحبة كلمة نافذة فوق الجميع، والنتيجة الحتمية أن التلاميذ لم يعودوا يقبلون على اللغة العربية حبّاً فيها، وإنما رغبة في اجتياز الامتحان آخر العام فحسب.
وتمادينا في التراجع والتبعية حتى بلغ الأمر أن جامعاتنا وهي القمة والأمل أنشأت في كليات الحقوق والتجارة والإعلام وغيرها أقساما كاملة تدرس فيها كل المواد، بإحدى اللغتين المذكورتين: الإنجليزية أو الفرنسية، مقابل نفقات عالية لا يستطيعها إلا أبناء الأغنياء، وأصبح لدينا تعليمان جامعيان: واحد للفقراء وآخر للأغنياء.
والتردي لا نهاية له، والسقوط ألوان، فلم نقنع بما حدث في جامعاتنا بل تركنا وجدان جانب كبير من شبابنا تحت سيطرة جامعات أجنبية كاملة متعددة تصوغه كيف تشاء: أمريكية وكندية وفرنسية وإنجليزية وألمانية، وكلها مستقلة لا تعرف الدولة ما الذي تدرسه لطلابها بلغاتها القومية، وهي تقدّم دراسات إنسانية فحسب: اقتصاد، وإعلام، وفلسفة، وسياسة، وما يتصل بهذا، ولكنها لا تدرس علوماً بحتة من طبّ وهندسة وصيدلة، والسبب واضح لأنها في المجالات الأولى تكوّن الطالب إنسانياً، وتصوغه كيف تشاء، ويجئ ولاؤه للمبادئ التي تعلمها، أمّا العلوم البحتة فمحايدة، وهي في نهاية المطاف تقدم للوطن إضافات جديدة نحن في أشدّ الحاجة إليها.
نحن نشكو من أزمة لغوية حادّة على جميع الأصعدة تنظيراً وتعليماً نحواً ومعجماً، إبداعاً ونقداً، ونعاني حالة مزمنة تتمثل في غياب إرادة الاهتمام باللغة، وعجز الحكومة عن حمايتها وتنفيذ ما صدر من تشريعات خاصّة باستخدام اللغات الأجنبية في لافتات المحلات العامة، والإعلانات ومخاطبات المصارف، ويتجلّى عدم الجديّة واضحاً حين تقارن بين توصيات مجامع اللغات العربية في دوراتها المتعددة بالقاهرة ما يتخذ منها نظريا وما يطبّق واقعاً فسوف تجد: لا شيء مما قيل أخذ طريقه إلى التنفيذ.ثم جاءت تكنولوجيا المعلومات لتضيف إلى هذه الأزمة بعداً فنياً متعلقاً بمعالجة اللغة العربية آليّاً بواسطة الحاسب.
نتيجة أزمتنا اللغوية وقلة المعرفة بالتطورات الحديثة في مجالات اللغة في العالم المتقدم فيما يتصل بالرياضيات الحديثة والمنطق الحديث والحواسب اللغوية وجدنا أنفسنا ونحن نواجه هذه الآلية الجديدة البالغة الدقة والتعقيد والنفع ومع عجز العقل العربي عن الابتكار والاختراع أننا – حين نواجه أنفسنا بصراحة وبدون لفّ أو دوران نقف على حافّة المعرفة بهذه التقنية دون أن نغوص إلى أعماق أبعادها، ورغم كل الجهود التي بذلت ولا تقوم على أسس علمية جادة فإن ما توصلنا إليه حتى الآن لتعريب الحاسب الآلي لا يخرج في مجمله عن طباعة النصوص بالعربية، وإظهارها على الشاشة.
إنّ استيعاب العربية في نطاق تقنيات صمّمت أصلاً لتخدم اللغة الإنجليزية عملية خاطئة من أساسها؛ لأن العربية وهي أعقد اللغات السّامية، والإنجليزية وهي أبسط اللغات (الهندوأوروبية) طرفاً نقيض في معالجة اللغة آلياً، ومع ذلك تمّ هذا العمل لدوافع اقتصاديّة، وكان وراءه لهفة موردي المعدات والبرمجيات على الربح، وفي سبيل ذلك خضعت العربية للطرق التعسفية حتى تستجيب للقيود التي فرضها النموذج الإنجليزي إما بالتحايل حول هذه القيود على حساب المستخدم، أو التّرخص في بعض خصائص اللّغة العربيّة، كتقليل أعداد أشكال الحروف، إغفال الشّكل في الكتابة العربيّة، وتجّنب قواعد الإعلال والإبدال، وجوانب أخرى متعدّدة.
إنّنا الآن على الرّغم من كل النوايا الطيبة، وكثرة المؤتمرات والندوات واللجان والتوصيات لا تزال جهودنا قاصرة عن الإفادة من منجزات التقدم العلمي في مجال الحاسبات، ولا يزال البعض من علمائنا المهندسين كسلانا يفكر في تطويع اللغة العربية لتستجيب لمتطلبات الآلة التي صنعت في الولايات المتحدة لخدمة اللغة الإنجليزية حتى لو أساء ذلك إلى قواعد العربية، قواعد وبناء بدل أن يفكر في ابتداع آلة تستجيب لمطالب لغتنا متجاهلاً ما صنعته اليابان وكوريا والصّين، وحتى إسرائيل. ولا يزال مختصون من علماء اللغة العربية وعلماء الهندسة في جملتهم بمعزل عن تطورات الحاسب الآلي والشبكة العنكبوتية وهي تتطور على نحوٍ فائق السرعة، وتنجز كل يوم جديداً حتى يمكن القول: إن ثمة قطيعة بين معظم علماء العرب وعلم الحاسبات، ويكفي أن أشير أن مجمع اللغة العربية الموقّر في القاهرة لا يضمّ بين أعضائه متخصصاً واحداً في هذا العلم على المستوى اللغوي أو التقني، وليس بين لجانه المتخصصة لجنة واحدة تختصّ بهذا الأمر، بداهة لا أعني تعريب المصطلحات الخاصة به؛ فالمجمع يقوم في هذا بجهد مشكور، ولكنّي أعني دراسة كيفية الإفادة منه، وقد فشلت جهود الطيبين على امتداد سنوات مضت في سدّ هذا النقص.
إن مهمّة المثقف الوطني الحق المؤمن بوطنه ورسالته بالغة الصعوبة في هذه الأيام؛ لأن عليه أن يتصدى للسلبية واللامبالاة وأن يواجه تشتت الرأي، وفقدان الثقة، وأن يتصدى لأزمة اللغة العربية تنظيراً وتعليماً واستخداماً، وأن يتبنّى في قوّة سياسيّة لغويّة قوميّة تنهض بالعربيّة وتعيدها إلى سابق أمجادها، وتلحقها بتطورات العصر، فاللّغة الوطنيّة المحترمة في بلدها وبين قومها المتقدّمة والمتطورة في المدخل الطبيعيّ، والطّريق الأقصر إلى نهضة ثقافية شاملة، وهي الوسيلة إلى الإفادة العالية من تكنولوجيا المعلومات، وثقافة العصر، وأن يدرك ما تعنيه هذه بالنسبة له ولعصره، وأن يتقن استخدامها وإلا بقي في نهاية الصفّ متخلفاً يعاني فراغاً ثقافياً لا حدّ له.
لقد أنهت ثورة 25 يناير دور مثقف السّلطة (وهم يمثلون الأغلبية) البارع في تشويه الواقع، وتلميع الحاكم، ووأد الأصيل، والبديع والمخالف المتمرس في مقايضة نتاج الأقلام، وزرع الأوهام باحتلال المناصب، الآكل على كل الموائد، الراقص على كل الأنغام، محتكر المنابر، المستأثر بسلطة المعرفة، ومنافس الحكام في تكوين الثروات وبناء العمارات، وهم الآن معروفون بتاريخهم الملوث، وجرائمهم الفاضحة وإن كانوا لا يخجلون كما فعلوا، ولديهم من البجاحة مما يجعلهم يواصلون اللعبة نفسها، فهم لا يزالون يكتبون في الصحف، ويطلّون علينا من قنوات التليفزيون ذاتها كأنهم لم يرتكبوا من قبل أيّ جرم!
العربيّة الآن في حاجة إلى علماء جدد لعصر جديد، ومطلوب من جامعاتنا ومراكز البحوث عندنا ألا تتجاهل ثورة علوم اللّسانيات التي تحرّك العالم، وتتقدّم في سرعة، والعالم يلهث وراءها منذ منتصف القرن الماضي.
وأتجه بفكري إلى جامعة القاهرة متطلعاً إلى كليتين عريقتين لهما تاريخ مجيد: دار العلوم والهندسة في عمل مشترك يخطط أوّلا لهذا الأمر: الحاسب واللغة العربية على أن تدعم الدولة والجامعة هذا الأمر مادياً ومعنوياً، توفر لهما البعثات اللازمة، والاتصال الشخصي بالمراكز المتقدمة، وترعى من يضطلعون بهذا الأمر، ومثل هذا العمل أليقُ بدار العلوم، وهي به أجدر من قيام بعض مدرسي اللّغة فيها بنشاط يتّصل بإعداد طلابهم للأعمال الصحفيّة التي لا تتصل باللّغة، وفي مواجهة مبنى دار العلوم مبنى آخر اسمُه كليّة الإعلام هذه وظيفته!
أتمنّى وفي هذه المرحلة من العمر لا أملك لقومي ووطني ومعهدي غير التمني !

(الهلال، مايو، 2012م)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك