الاثنين، 23 مايو 2016

الدكتور الطاهر مكي وريادة البحث الادبى.... د. عبد الرحمن محمد الوصيفى


الدكتور الطاهر مكي وريادة البحث الادبى
(امرؤ القيس حياته وشعره نموذجا)

د. عبد الرحمن محمد الوصيفى(*)

أولا التمهيد :
لعلى لا أبالغ إذا قلت بأن الدكتور الطاهر مكي نسيج وحده متفرد في تعامله مع طلابه , خلقا رفيعا, ومدرسة بحثية متميزة ومتفردة في آن واحد. واذكر على سبيل المثال ونحن في السنة التمهيدية للماجستير كان كل أستاذ يحضر قائمة بأسمائنا وينادى علينا اسما اسما وكل اسم مقرون بالبحث الذي سيقوم به الطالب , وكان في الغالب يسبب لنا ذلك ضيقا شديدا أما الدكتور الطاهر فقد طلب منا أن يختار كل منا اسم البحث ويعرضه عليه ليناقشه فيه ثم يقره بعد ذلك ومن هنا وجدتني أمام أستاذ بمعنى الكلمة يؤمن بالفوارق بين طلابه ويستغل مهارة كل واحد على حدة فيما يستطيع الوصول إليه.ولذلك كان إصراري على تسجيل رسالة الماجستير بإشرافه - وقد كان - وفى هذه المرحلة الدقيقة و المهمة في حياة أي باحث- مرحلة الماجستير- كان دائما يقول لي ولغيري لا أريد أن افرض عليك رأيى أو نمطا معينا تلتزم بة  لأننى أعدكم كي تكونوا أفضل منى لأن الأمم لا تتقدم إلا إذا تفوق الجيل اللاحق على سابقه ولا ينبغي أن تكونوا نسخة منا. وكان يشعرنا دائما بأهمية الانطلاق الفكري في البحث الأدبى وأن لا نجعل حدودا نقف عندها وأذكر أنني قد نقلت عبارة من مرجع لأستاذ كبير ورأى أستاذى أن العبارة لا محل لها هنا فبادرته بأن هذا رأى الأستاذ الكبير "فلان" فقال لي: يا ولدى أما أنه أستاذ كبير فنعم ولكن هذا المرجع هو رسالته للماجستير وقد كانت منذ ربع قرن وأنت الآن مثله في هذا المرجع تماما فإذا لم تستفد من الربع قرن الفاصل بينك وبينه ووقفت عند رأيه فقط فان دراستك لا قيمة لها فكم من المراجع التي ظهرت في هذه الفترة لم يطلع عليها الأستاذ الكبير آنذاك وربما لو عاد إلى كتابة رسالته الآن لعدل فيها حسب مقتضيات العصر وما جد من مصادر و مراجع.
أما عن إنسانية الدكتور الطاهر مكي فهي تحتاج إلى بحث منفصل وما يمكنني قوله هنا في عجالة أن شيخي وأستاذى لم يقابلني مرة واحدة بوجه غاضب ولم يشعرني مرة بأنى أقتحم عليه وقته وعندما أهاتفه أسأله هل الوقت مناسب للحديث معه فتكون إجابته الوقت مناسب لك دائما يا ولدى. لذلك لم أر أستاذا وشيخا وسيدنا الدكتور الطاهر مكي وفى هذا الصدد أذكر أنه عندما صدر قرار من وزارة التعليم العالي بأن الأساتذة فوق السبعين لا يدرسون فإذا بى أقرر كتابين من كتب شيخي على طلابي حتى يستمر العطاء عبر الكتابين لطلاب كلية التربية بالمنصورة مادام تعذر ذلك في كلية دار العلوم. وكانت المفاجأة أن غيري في جامعات أخرى قد فعل ذلك إنها المحبة و الوفاء لأستاذ جليل لا نملك إلا تقديره واحترامه..وعندما سألت شيخي : لماذا يحبك طلابك كل هذا الحب المنقطع النظير؟ فأجاب: لأني أحبهم أكثر فنعم الأب والأستاذ والمعلم الذي دائما يفرح فرحا شديدا ً عندما يرى طلابه في تقدم مستمر.
ثانيا ملامح الريادة في كتاب «امرؤ القيس حياته وشعره»:
عندما تخصصت في الأدب الجاهلي كان همي هو قراءة كل ما كتب حول هذا العصر, وكل الدراسات الأدبية التي تناولت شعراءه ولا أبالغ إذا قلت بأن كتاب الدكتور الطاهر مكي كان مغايراً لكل الدراسات التي قرأتها, جدة و أصالة, فعندما كنت أقرا كتابا لأى باحث معاصر عن الشعر الجاهلي أو أحد شعرائه كنت أجده صدى لكتب التراث ولا مزيد من قبل الباحث سوى تجميع ما ورد في كتب التراث وربطها بعضها ببعض لذلك كان اهتمامي بالغا ً بقراءة هذا الكتاب لشيخي ودراسته جيدا كي أستفيد من هذه العقلية العلمية المتوازنة على طرح رؤيتها الشخصية على أسس علمية دقيقة, وقد خلصت في نهاية الأمر إلى أن هذا الكتاب يعد طفرة تقدمية مائلة في التحليل الأدبى عامة لعلها غير مسبوقة فهي "طاهرية مكية" خالصة إن جاز لنا أن نسميها كذلك ومن أهم هذه الملامح ما يلي:
1-رفض المسلمات:
وهذا الملمح  وحده يكفى لتفرد أستاذى في هذا الكتاب لأن آفة التسليم بقول السابقين تؤدى إلى موت الفكر الإبداعى و النقدي ومن ثم يتوقف تطور الأمم العقلي, ويصبح الجيل اللاحق مرددا لفكر سابقيه دون أية إضافة تذكر وبما أن الكتاب مخصص لامرئ القيس فيحسن بنا أن نرى هذه المسلمات التي تناولتها الأجيال بعضهم ينقل عن الآخر حتى جاء شيخنا برفض هذه المسلمات جملة على أسس علمية دقيقة , وتأتى قيمة رفض المسلمات المتوارثة إذا تعلقت بشاعر من أشهر شعراء العصر الجاهلي, إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق , لذا كان حظه من الدرس و الفحص وافرا مقارنة بغيره من شعراء الجاهلية. وبرغم كثرة الدراسات التي تناولت شاعرنا إلا أنها خضعت – في معظمها- لمسلمات كثيرة, فمنذ أن صرح ابن سلام الجمحى(139-231 هـ) بأن امرأ القيس  من الشعراء الذين يستبهرون بالفواحش و يتعهرون في شعرهم([1]). نجد مقولة ابن سلام هذه قاعدة ينطلق منها كل من تناول شعر امرئ القيس بالدرس والتحليل إلا ما ندر. فهذا إيليا حاوي يرى امرأ القيس "يمثل الرجل الجنسي الذي يحقق رجولته من سبيل اللذة الموبقة الداعرة التي تتعفر بها كرامة العواطف وتزول قيم الإنسان بنوع من البهيمية, التي تنتشي بنشوة حادة ولكنها عابرة فاجرة([2]) ".
ويعطينا الدكتور احمد الحوفى حكما عاما على شعر امرئ القيس الذي يصفه بأنه أستاذ الغزل الحسي في الشعر الجاهلي([3]).    
أما الدكتور طه حسين فإنه يلغى فكرة العاطفة تماما من نفوس شعراء الغزل في العصر الجاهلي إذ يتساءل «ما الذي كان يعنى به امرؤ القيس أو النابغة أو الأعشى إذا تغزلوا وذكروا النساء؟ لم يكونوا  يعنون بذكر الحب و تاثيره في النفس ولا بهذه الآلام المختلفة التي تنشأ عنه. أى لم يكونوا يعنون بدخائل نفوسهم, وإنما كان الغزل عندهم ضربا من الوصف, كانوا يصفون النساء كما كانوا يصفون الإبل, وقلما تجد عندهم عناية بالعاطفة أو حرصا على تمثيلها»([4]).
وبهذا يصف الدكتور طه حسين الغزل الجاهلي بأنه لا يتعدى أن يكون وصفا تقريريا لا روح فيه ولا إحساس, وكأن شعراء هذا العصر كانوا مجردين من أبسط المشاعر الإنسانية وهى الميل إلى المرأة. أضف إلى ذلك أن الغزل يعبر تعبيرا صادقا عن عاطفة جياشة ملتاعة , ويبرع في تصويرها «حتى لكأن الشاعر يجسمها لقرائه وسامعيه, فيشاركونه مشاركة وجدانية في أفراحه و أتراحه ويشعر كل منهم أن هذا ليس تعبيرا عن عاطفة الشاعر وحده وإنما هو تعبير عن العاطفة الإنسانية الخالدة»([5]).
ورأى الدكتور طه حسين في الغزل عممه آخرون على الشعر الجاهلي عامة فعلى الهاشمي يجرد الشعر الجاهلي من الإحساس و الفكر و المشاعر ويجعله شعرا سطحيا إذ يؤكد أن الجاهلي لم يكلف نفسه هذا النوع من النظرات العامة المجردة لان طبيعته وظروفه لم يكونا ليعيناه على هذا النمط من الإحساس و الفكر و المشاعر ويجعلة شعرا سطحيا اذ يؤكد «إن الجاهلى لم يكلف نفسه هذا النوع من النظرات العامة المجردة لأن طبيعته وظروفه لم يكونا ليعيناه على هذا النمط من الاحساس و التفكير»([6]).
ويرى الدكتور شوقي ضيف أن امرأ القيس يصف مغامراته وعبثه الفاجر مع بعض النساء وأنه هو الذي سبق إلى هذا الغزل الفاحش الصريح ثم تبعه الشعراء من بعده وإن لم يبلغوا مبلغه من الفحش و الصراحة([7]). وهذه الأحكام العامة على شعر امرئ القيس والتي وصفته بالفحش و الفجر إنما كانت تبعد عن حقيقة فهم الشعر كفن خالص وهى من وجه نظري أحكام غير دقيقة, لأن الشاعر الموهوب- أى شاعر-  في مرحلة الشباب يعبر عن ذاته وخلجات نفسه بصدق وحرارة وواقعية ويكون في الوقت نفسه مرآة لعواطفه وصدى لشعوره وحسه الفطري كما أن التغني بجمال المرأة في بيئة صحراوية تمثل المرأة فيه قمة مباهج متع الحياة لا يعد خروجا على النبع الطبيعي لمشاعر الإنسان. أضف إلى ذلك أن شعر امرئ القيس يعبر عن الصفاء الذوقي عنده,كما يعطينا قدرته على إظهار تذوقه الجمالي للمرأة وقد نبه الدكتور الطاهر أحمد مكي إلى ذلك فهو يرى امرأ القيس في غزله «متحفظا عفيفا أو مندفعا صريحا وذوقه في الجمال هو الذوق الذي ترتضيه الفطرة السليمة في كل عصر»([8]). ولم يقف الأمر بالدكتور الطاهر مكي عند هذا الحد, فهو يضع يده على جوهر القضية ألا وهى المسلمات التي ورثناها فيقول: لقد قيل إن امرأ القيس كان فاحشاً في شعره وهى واحدة من مسلمات كثيرة نتوارثها ونرددها دون أن يسائل أى منا نفسه أين هو الفحش في شعر امريء القيس؟ ليس في ديوانه غير بيتين فكرتهما مكشوفة واختار لهما من الكلمات أرقها([9]).
واعتقد أن رأى الدكتور مكي يشمل كل مناحي الغزل عند امريء القيس ولا يقف عند لون واحد فقط كما أنه لا يتهم غزله الصريح بالفحش والفجر والتعهر كما ألفنا, كما أن رأيه هذا يعد رد فعل للمسلمات التي ورثناها منذ ابن سلام الجمحى وحتى وقتنا هذا.         
2-أسباب  غضب الملك حجر على ابنه:
أراد امرؤ القيس التمتع بشبابه وماله فبحث عن اللهو و المتعة فكان نهاره صيدا ولعبا وليله شربا وطربا مع صحبة من أبناء أسرته المالكة أو أبناء سادة الأسر العربية من طىء وكلب وبكر فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه, وغنت قيانه ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء الغدير أو يمل طول المقام فينتقل إلى مكان آخر وهذه الحياة العابثة الماجنة ما كان يرضى عنها الملك ولكنه قبلها فى أول الأمر على مضض منه وحاول تقويم سلوك الإبن لكنه لم ينجح فى مراده وتكاد تجمع الآراء على أنه كان دائم الخلاف مع أبيه وتؤكد الأخبار أن أباه أمر مولى له يقال له ربيعة بذبح امرىء القيس بسبب شعره وأنه لا يريد منه قول الشعر وأن ربيعة هذا أخذه فى مكان آمن ثم ذبح عجلا صغيرا كان له وحمل عينيه إلى أبيه الملك حجر لأنه طلب منه أن يأتى بهما بعد ذبحه, فحزن الملك على ولده الصغير وعندئذ أخبره ربيعة بما فعل وأن ابنه لم يذبح .
وهنا يستنبط الدكتور الطاهر مكى النقص فى الخبر فيقول:
والخبر بهذا الشكل الذى ورد به يعد منقوصا ، صحيح أن الملوك فى هذه الحقبة ما كانوا يهتمون بالشعر وخاصة أن الملك حجر كان يمانيا ولم يحفظ لنا التاريخ أن ملوك اليمن كانوا بالشعر محتفين.
وما كان الملك يأمر بذبح ابنه لمجرد قول الشعر وأعتقد أن هناك أمورا أخرى جعلت الملك يأخذ القرار القاسى مثل تعرض امرىء القيس للفتيات من بنى أسد ومغازلتهن ويرى الدكتور مكى واقعة دارة جلجل سببا مباشرًا لذلك([10]).
3-واقعة أم جندب النقدية
تفرد الدكتور الطاهر مكى بتحليل هذة الواقعة ورفض كثيرا من الآراء التى اهتمت اهتماما سطحيا بالواقعة.
فقد روى الأصمعى: أن امرأ القيس تزوج امراة من طييء تسمى أم جندب فلما بات عندها لم تحمده ففركته .فلما كان فى بعض الليل قامت وقالت: أصبحت يا خير الفتيان فقم. فاذا الليل لم يذهب منه إلا أقله فقال لها: ما حملك على ما فعلت؟ فسكتت فألح عليها فقالت: كرهتك لأنك ثقيل الصدر, خفيف العجز بطىء الإفاقة, ونزل به علقمة بن عبدة([11]) فتذاكرا الشعر وادعاه كل منهما على صاحبه فقال له علقمة: قل شعرا ًتمدح فيه فرسك و الصيد وأقول مثله: وهذه الحكم بيني وبينك يعنى أم جندب- فقال امرؤ القيس قصيدته التي أولها:
خليلي مرّا بي على أم جندب           لتقضى  لُبَانَاتِ الفُؤادِ المُعذَّبِ([12])
فَإنّكُمَا إنْ تَنْظُرَانيَ سَاعَةً                 من الدهرِ تَنفعْني لَدى أُمِّ جُندَبِ
ألم ترياني كلما جئتُ طارقاً              وجدت بها طيبا وإن لم تتطيب
عَقيلَة ُ أتْرَابٍ لهِا، لا دَمِيمَة              وَلا ذَاتُ خَلقٍ إن تأمّلتَ جَانب
وقال علقمة قصيدته التي أولها:
    ذهبت من الهجران في غير  مذهب 
                   ولم  يك   حقا   كل   هذا   التجنب
    ليالي   لا   تبلى    نصيحة    بيننا
                   ليالي    حلوا     بالستار     فيعرب
وبالرغم أن امرأ القيس ذكرها وتحدث عن جمالها وريحها الطيب الذي يفوح منها وإن لم تتطيب إلا أنها كانت لا تطيق امرأ القيس, وجاءتها هذه الفرصة لا لتكون حكما ولكنها تفرغ غيظا دفينا ومن ثم نراها تقول لامرئ القيس: علقمة أشعر منك قال :
فللساق ألهوب وللسوط دِرّة          وللزّجر منه وقع أهوجَ مِنْعبِ
أما علقمة فأدرك الصيد ثانيا من عنان فرسه لم يضربه بسوطه ولم يمره بساق ولم يزجره حين قال:
وأقبل يهوي، ثانياً من عنانه          يمرُّ كمرِّ الرائحِ المتحلِّبِ 
فقال لها: ما هو بأشعر منى ولكنك له عاشق ثم طلقها وخلفه عليها علقمة فسمى الفحل لذلك.
وهنا يقف كل الباحثين وكأن هذه الواقعة مقدسة لا تقبل الشك أو الجدل أو الملاحظة بينما يتفرد شيخي الدكتور الطاهر مكي بالتحليل الدقيق و العميق في آن واحد يقول:
من وجهه النظر النقدية الخالصة لم يكن الحق في جانب أم جندب وكان مع امرئ القيس وإشارته إلى إن تحريك الساق يلهب الفرس في الجري وضربه بالسوط يجعله يدر في العدو, وزجره يجعله كالأهوج لا عقل له, تصوير لما يجرى في الصيد و السباق ولما يحدث لفرسه  ولغير فرسه أحيانا ولا يفهم منه- في غير مجال التحامل- أن فرس امرئ القيس كان كليلا لا يسبح في عدوه إلا إذا غمز بالساق وألهب بالسوط. وفى البيت التالي للبيت الذي اتخذته أم جندب أساسا لتفضيل علقمة على امرئ القيس , حقق امرؤ القيس الشرائط التي رجحت كفة علقمة فأبان أن فرسه أدرك الوحش دون تعب أو مشقة في طلق واحد لشدة جريه وكان في سرعة عدوه كلعبة الخذروف يديرها غلام ماهر:
فأدرك لم يجهد ولم يثن شــأوه            يمر كخذروف الوليد المثقب
لقد تغلب هوى الأنثى في أم جندب على حيدة الناقد وعبرت- ربما من حيث لا تدرى- عن نفور داخلي تحسه في أعماقها نحو زوجها, فكان نقدها انعكاسا لنفس كارهة أكثر منه حكما لامرأة متذوقة أو ناقدة ومن جانب آخر لو لم تقم حياة امرئ القيس على ضيق من رأى زوجاته فيه رجلا لتقبل نقدها راضيا أو لتعزى عنه متسليا لكنه مضى سريعا يلمس الجانب الذي يحس بعجزه عن توفيره لها فطلقها  ولا ينفى ذلك أن أم جندب نفسها لم تكن حريصة على استرضائه أو على الأقل على تجنب إثارته إن لم تكن في ذلك راغبة. حتى ولو  كانت على صواب وإلا لاستطاعت أن تعبر عما تريد دون أن تفجع زوجها في مباراة على هذا النحو وكانت المرأة العربية في عصر امرئ القيس وما بعد عصره دائما قادرة على تجنب هذه المزالق بما يعلى قدرها في مجال العاطفة([13]).
4-حلة امرئ القيس المسمومة
لعل موت امرئ القيس أثناء عودته يقود جيشا امر به القيصر قد أثار كثيرا من الآراء حول موته , اختلفت الروايات. وأشهرها أن القيصر أرسل له حلة مسمومة كانت سبب وفاته ولعلى أتشكك في هذه الرواية للخبر واتفق تماما مع ما ذهب إليه الدكتور الطاهر مكي بقوله: ومن ثم نرفض خبر الحلة المسمومة ونرى من تجميع الأخبار في صورها المختلفة أن امرأ القيس كان مصابا بمرض الجدري وأن عرقه نتن له رائحة عرق كلب وأنه مصاب بخلل جنسي في بنيته وانعكس في التهاب جلدي تذكر كل رواية واحدة من أعراضه المختلفة ولا تناقض بينها أو تباين لأن العلاقة بين أمراض الجنس وأمراض الجلد مقررة علميا وأن المرض هو الذي أودى به في الحقيقة ولا نتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد منه لنقرر أن الرحلة كلها مكذوبة غير معتمدين على دليل في حين أن أحداثها تتردد في شعره ويرتبط بها أكثر من قصيدة ومقطوعة موثقة الرواية([14]) .
ويرى الدكتور الطاهر مكي انفراد السكري برواية أربعة أبيات قاطعة الدلالة في موت امرئ القيس وتذهب بكل الأقاصيص التي صيغت عن الحلة المسمومة فهو يتحدث فيها صريحا ودقيقا عن قروح كست بدنه وأعجزته عن السير كما لو كان مصابا في مفاصله وتكاثرت ونز صديدها فيبدو معها كل ثوب يلبسه ولو كان جديدا يرتديه للمرة الأولى قديما خلقا قد لبس دهرا وتناثرت الدمامل على بشرته كأختام طبعت متراصة على صحيفة([15]).
لِمَن طَلَلٌ دائِرٌ آيه


تَقَادَمَ في سالِفِ الأحرُسِ([16])

فإما تريني وبي عرة


كأني نكيب من النقرس([17])

وصيرنى القرح فى جبة


تخال لبيسا ولم تلبس([18])

ترى أثر القرح فى جلده


كنقش الخواتم فى الجرجس([19])

وهكذا نرى أن الشيخ العالم الدكتور الطاهر مكي لم يعتمد على الروايات الصحيحة فقط وانما ربط العلم الحديث بالواقع وهى علاقة الأمراض الجلدية و التناسلية.
وهذه هي أبرز الملامح في كتاب شيخي و أستاذى ولو أردنا تناول كل ملامح الجدة و الأصالة في كتابه السابق لاحتجنا إلى مجلد كبير لا يتسع المجال هنا له. لقد استطاع الشيخ الجليل أن يضع بصمة أبدية في مجال البحث الأدبى, تزدهر مع الأيام وتزهو. وأكد ريادته البحثية في الشعر الجاهلي عن طريق هذا الكتاب الذي لم يسبق إذ مزج فيه الأدب بالفكر و بالتحليل و التأمل وفوق ذلك كله طبيعة شيخي الصافية التي جعلته يتعامل مع كل الموضوعات في كتابه بعلمية شديدة ومنهج واضح.
وفى النهاية لا نملك إلا أن ندعو الله تعالى أن يلبسه الصحة و العافية ليكون كما كان دائما نبراسا لأبنائه الطلاب و الباحثين.

****

الهوامش:


(*) رئيس قسم اللغة العربية الأسبق - كلية التربية - جامعة المنصورة .



([1]) طبقات فحول الشعراء, محمد بن سلام الجمحى, تحقيق محمود محمد شاكر, دار المدني, جدة(د. ت) (1/41).
([2]) امرؤ القيس شاعر المرأة و الطبيعة, إيليا حاوي, دار الثقافة, بيروت 1975م, ص 54.
([3]) الغزل في العصر الجاهلي, د. احمد الحوفى, طـ 3, دار نهضة مصر للطبع و النشر, الفجالة القاهرةز1972م, ص 238
([4]) حديث الأربعاء, د.طه حسين,طـ 13, دار المعارف- القاهرة  1918م , (1/225)
([5]) الغزل في العصر الجاهلي, د. احمد الحوفى.ص 13.
([6]) المرأة في الشعر الجاهلي, على الهاشمي, مطبعة المعارف, بغداد, 1960م ص 91.
([7]) العصر الجاهلي, د شوقي ضيف ط 13, دار المعارف, القاهرة, 1990م ص 252.
([8]) امرؤ القيس حياته وشعرة,د الطاهر احمد مكي ط 6 , دار المعرف. القاهرة 1993م ص 194
([9]) السابق. ص 196.
([10]) امرؤ القيس حياته وشعرة مرجع سابق ص 59
([11]) المعروف بعلقمة الفحل انظر هذا الخبر وغيرة في الاغانى دار الكتب, مصدر سابق (21/200 - 204).
([12]) لبانات: حاجات
([13]) انظر: امرؤ القيس حياته وشعره, الدكتور الطاهر مكي مرجع سابق ص 64, 65.
([14]) امرؤ القيس حياته وشعره, مرجع سابق ص 92.
([15]) امرؤ القيس حياته وشعره , مرجع سابق ص 92.
([16]) الحرس : جمع حرس وهو الدهر
([17]) العرة: القرحة في الجسم – النقرس : مرض يصيب المفاصل.
([18]) اللبس هنا : الثوب الخلق المبلوس.
([19]) الجرجس: الصحيفة.

****الدكتور الطاهر مكي وريادة البحث الادبى
(امرؤ القيس حياته وشعره نموذجا)

د. عبد الرحمن محمد الوصيفى(*)

أولا التمهيد :
لعلى لا أبالغ إذا قلت بأن الدكتور الطاهر مكي نسيج وحده متفرد في تعامله مع طلابه , خلقا رفيعا, ومدرسة بحثية متميزة ومتفردة في آن واحد. واذكر على سبيل المثال ونحن في السنة التمهيدية للماجستير كان كل أستاذ يحضر قائمة بأسمائنا وينادى علينا اسما اسما وكل اسم مقرون بالبحث الذي سيقوم به الطالب , وكان في الغالب يسبب لنا ذلك ضيقا شديدا أما الدكتور الطاهر فقد طلب منا أن يختار كل منا اسم البحث ويعرضه عليه ليناقشه فيه ثم يقره بعد ذلك ومن هنا وجدتني أمام أستاذ بمعنى الكلمة يؤمن بالفوارق بين طلابه ويستغل مهارة كل واحد على حدة فيما يستطيع الوصول إليه.ولذلك كان إصراري على تسجيل رسالة الماجستير بإشرافه - وقد كان - وفى هذه المرحلة الدقيقة و المهمة في حياة أي باحث- مرحلة الماجستير- كان دائما يقول لي ولغيري لا أريد أن افرض عليك رأيى أو نمطا معينا تلتزم بة  لأننى أعدكم كي تكونوا أفضل منى لأن الأمم لا تتقدم إلا إذا تفوق الجيل اللاحق على سابقه ولا ينبغي أن تكونوا نسخة منا. وكان يشعرنا دائما بأهمية الانطلاق الفكري في البحث الأدبى وأن لا نجعل حدودا نقف عندها وأذكر أنني قد نقلت عبارة من مرجع لأستاذ كبير ورأى أستاذى أن العبارة لا محل لها هنا فبادرته بأن هذا رأى الأستاذ الكبير "فلان" فقال لي: يا ولدى أما أنه أستاذ كبير فنعم ولكن هذا المرجع هو رسالته للماجستير وقد كانت منذ ربع قرن وأنت الآن مثله في هذا المرجع تماما فإذا لم تستفد من الربع قرن الفاصل بينك وبينه ووقفت عند رأيه فقط فان دراستك لا قيمة لها فكم من المراجع التي ظهرت في هذه الفترة لم يطلع عليها الأستاذ الكبير آنذاك وربما لو عاد إلى كتابة رسالته الآن لعدل فيها حسب مقتضيات العصر وما جد من مصادر و مراجع.
أما عن إنسانية الدكتور الطاهر مكي فهي تحتاج إلى بحث منفصل وما يمكنني قوله هنا في عجالة أن شيخي وأستاذى لم يقابلني مرة واحدة بوجه غاضب ولم يشعرني مرة بأنى أقتحم عليه وقته وعندما أهاتفه أسأله هل الوقت مناسب للحديث معه فتكون إجابته الوقت مناسب لك دائما يا ولدى. لذلك لم أر أستاذا وشيخا وسيدنا الدكتور الطاهر مكي وفى هذا الصدد أذكر أنه عندما صدر قرار من وزارة التعليم العالي بأن الأساتذة فوق السبعين لا يدرسون فإذا بى أقرر كتابين من كتب شيخي على طلابي حتى يستمر العطاء عبر الكتابين لطلاب كلية التربية بالمنصورة مادام تعذر ذلك في كلية دار العلوم. وكانت المفاجأة أن غيري في جامعات أخرى قد فعل ذلك إنها المحبة و الوفاء لأستاذ جليل لا نملك إلا تقديره واحترامه..وعندما سألت شيخي : لماذا يحبك طلابك كل هذا الحب المنقطع النظير؟ فأجاب: لأني أحبهم أكثر فنعم الأب والأستاذ والمعلم الذي دائما يفرح فرحا شديدا ً عندما يرى طلابه في تقدم مستمر.
ثانيا ملامح الريادة في كتاب «امرؤ القيس حياته وشعره»:
عندما تخصصت في الأدب الجاهلي كان همي هو قراءة كل ما كتب حول هذا العصر, وكل الدراسات الأدبية التي تناولت شعراءه ولا أبالغ إذا قلت بأن كتاب الدكتور الطاهر مكي كان مغايراً لكل الدراسات التي قرأتها, جدة و أصالة, فعندما كنت أقرا كتابا لأى باحث معاصر عن الشعر الجاهلي أو أحد شعرائه كنت أجده صدى لكتب التراث ولا مزيد من قبل الباحث سوى تجميع ما ورد في كتب التراث وربطها بعضها ببعض لذلك كان اهتمامي بالغا ً بقراءة هذا الكتاب لشيخي ودراسته جيدا كي أستفيد من هذه العقلية العلمية المتوازنة على طرح رؤيتها الشخصية على أسس علمية دقيقة, وقد خلصت في نهاية الأمر إلى أن هذا الكتاب يعد طفرة تقدمية مائلة في التحليل الأدبى عامة لعلها غير مسبوقة فهي "طاهرية مكية" خالصة إن جاز لنا أن نسميها كذلك ومن أهم هذه الملامح ما يلي:
1-رفض المسلمات:
وهذا الملمح  وحده يكفى لتفرد أستاذى في هذا الكتاب لأن آفة التسليم بقول السابقين تؤدى إلى موت الفكر الإبداعى و النقدي ومن ثم يتوقف تطور الأمم العقلي, ويصبح الجيل اللاحق مرددا لفكر سابقيه دون أية إضافة تذكر وبما أن الكتاب مخصص لامرئ القيس فيحسن بنا أن نرى هذه المسلمات التي تناولتها الأجيال بعضهم ينقل عن الآخر حتى جاء شيخنا برفض هذه المسلمات جملة على أسس علمية دقيقة , وتأتى قيمة رفض المسلمات المتوارثة إذا تعلقت بشاعر من أشهر شعراء العصر الجاهلي, إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق , لذا كان حظه من الدرس و الفحص وافرا مقارنة بغيره من شعراء الجاهلية. وبرغم كثرة الدراسات التي تناولت شاعرنا إلا أنها خضعت – في معظمها- لمسلمات كثيرة, فمنذ أن صرح ابن سلام الجمحى(139-231 هـ) بأن امرأ القيس  من الشعراء الذين يستبهرون بالفواحش و يتعهرون في شعرهم([1]). نجد مقولة ابن سلام هذه قاعدة ينطلق منها كل من تناول شعر امرئ القيس بالدرس والتحليل إلا ما ندر. فهذا إيليا حاوي يرى امرأ القيس "يمثل الرجل الجنسي الذي يحقق رجولته من سبيل اللذة الموبقة الداعرة التي تتعفر بها كرامة العواطف وتزول قيم الإنسان بنوع من البهيمية, التي تنتشي بنشوة حادة ولكنها عابرة فاجرة([2]) ".
ويعطينا الدكتور احمد الحوفى حكما عاما على شعر امرئ القيس الذي يصفه بأنه أستاذ الغزل الحسي في الشعر الجاهلي([3]).    
أما الدكتور طه حسين فإنه يلغى فكرة العاطفة تماما من نفوس شعراء الغزل في العصر الجاهلي إذ يتساءل «ما الذي كان يعنى به امرؤ القيس أو النابغة أو الأعشى إذا تغزلوا وذكروا النساء؟ لم يكونوا  يعنون بذكر الحب و تاثيره في النفس ولا بهذه الآلام المختلفة التي تنشأ عنه. أى لم يكونوا يعنون بدخائل نفوسهم, وإنما كان الغزل عندهم ضربا من الوصف, كانوا يصفون النساء كما كانوا يصفون الإبل, وقلما تجد عندهم عناية بالعاطفة أو حرصا على تمثيلها»([4]).
وبهذا يصف الدكتور طه حسين الغزل الجاهلي بأنه لا يتعدى أن يكون وصفا تقريريا لا روح فيه ولا إحساس, وكأن شعراء هذا العصر كانوا مجردين من أبسط المشاعر الإنسانية وهى الميل إلى المرأة. أضف إلى ذلك أن الغزل يعبر تعبيرا صادقا عن عاطفة جياشة ملتاعة , ويبرع في تصويرها «حتى لكأن الشاعر يجسمها لقرائه وسامعيه, فيشاركونه مشاركة وجدانية في أفراحه و أتراحه ويشعر كل منهم أن هذا ليس تعبيرا عن عاطفة الشاعر وحده وإنما هو تعبير عن العاطفة الإنسانية الخالدة»([5]).
ورأى الدكتور طه حسين في الغزل عممه آخرون على الشعر الجاهلي عامة فعلى الهاشمي يجرد الشعر الجاهلي من الإحساس و الفكر و المشاعر ويجعله شعرا سطحيا إذ يؤكد أن الجاهلي لم يكلف نفسه هذا النوع من النظرات العامة المجردة لان طبيعته وظروفه لم يكونا ليعيناه على هذا النمط من الإحساس و الفكر و المشاعر ويجعلة شعرا سطحيا اذ يؤكد «إن الجاهلى لم يكلف نفسه هذا النوع من النظرات العامة المجردة لأن طبيعته وظروفه لم يكونا ليعيناه على هذا النمط من الاحساس و التفكير»([6]).
ويرى الدكتور شوقي ضيف أن امرأ القيس يصف مغامراته وعبثه الفاجر مع بعض النساء وأنه هو الذي سبق إلى هذا الغزل الفاحش الصريح ثم تبعه الشعراء من بعده وإن لم يبلغوا مبلغه من الفحش و الصراحة([7]). وهذه الأحكام العامة على شعر امرئ القيس والتي وصفته بالفحش و الفجر إنما كانت تبعد عن حقيقة فهم الشعر كفن خالص وهى من وجه نظري أحكام غير دقيقة, لأن الشاعر الموهوب- أى شاعر-  في مرحلة الشباب يعبر عن ذاته وخلجات نفسه بصدق وحرارة وواقعية ويكون في الوقت نفسه مرآة لعواطفه وصدى لشعوره وحسه الفطري كما أن التغني بجمال المرأة في بيئة صحراوية تمثل المرأة فيه قمة مباهج متع الحياة لا يعد خروجا على النبع الطبيعي لمشاعر الإنسان. أضف إلى ذلك أن شعر امرئ القيس يعبر عن الصفاء الذوقي عنده,كما يعطينا قدرته على إظهار تذوقه الجمالي للمرأة وقد نبه الدكتور الطاهر أحمد مكي إلى ذلك فهو يرى امرأ القيس في غزله «متحفظا عفيفا أو مندفعا صريحا وذوقه في الجمال هو الذوق الذي ترتضيه الفطرة السليمة في كل عصر»([8]). ولم يقف الأمر بالدكتور الطاهر مكي عند هذا الحد, فهو يضع يده على جوهر القضية ألا وهى المسلمات التي ورثناها فيقول: لقد قيل إن امرأ القيس كان فاحشاً في شعره وهى واحدة من مسلمات كثيرة نتوارثها ونرددها دون أن يسائل أى منا نفسه أين هو الفحش في شعر امريء القيس؟ ليس في ديوانه غير بيتين فكرتهما مكشوفة واختار لهما من الكلمات أرقها([9]).
واعتقد أن رأى الدكتور مكي يشمل كل مناحي الغزل عند امريء القيس ولا يقف عند لون واحد فقط كما أنه لا يتهم غزله الصريح بالفحش والفجر والتعهر كما ألفنا, كما أن رأيه هذا يعد رد فعل للمسلمات التي ورثناها منذ ابن سلام الجمحى وحتى وقتنا هذا.         
2-أسباب  غضب الملك حجر على ابنه:
أراد امرؤ القيس التمتع بشبابه وماله فبحث عن اللهو و المتعة فكان نهاره صيدا ولعبا وليله شربا وطربا مع صحبة من أبناء أسرته المالكة أو أبناء سادة الأسر العربية من طىء وكلب وبكر فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه, وغنت قيانه ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء الغدير أو يمل طول المقام فينتقل إلى مكان آخر وهذه الحياة العابثة الماجنة ما كان يرضى عنها الملك ولكنه قبلها فى أول الأمر على مضض منه وحاول تقويم سلوك الإبن لكنه لم ينجح فى مراده وتكاد تجمع الآراء على أنه كان دائم الخلاف مع أبيه وتؤكد الأخبار أن أباه أمر مولى له يقال له ربيعة بذبح امرىء القيس بسبب شعره وأنه لا يريد منه قول الشعر وأن ربيعة هذا أخذه فى مكان آمن ثم ذبح عجلا صغيرا كان له وحمل عينيه إلى أبيه الملك حجر لأنه طلب منه أن يأتى بهما بعد ذبحه, فحزن الملك على ولده الصغير وعندئذ أخبره ربيعة بما فعل وأن ابنه لم يذبح .
وهنا يستنبط الدكتور الطاهر مكى النقص فى الخبر فيقول:
والخبر بهذا الشكل الذى ورد به يعد منقوصا ، صحيح أن الملوك فى هذه الحقبة ما كانوا يهتمون بالشعر وخاصة أن الملك حجر كان يمانيا ولم يحفظ لنا التاريخ أن ملوك اليمن كانوا بالشعر محتفين.
وما كان الملك يأمر بذبح ابنه لمجرد قول الشعر وأعتقد أن هناك أمورا أخرى جعلت الملك يأخذ القرار القاسى مثل تعرض امرىء القيس للفتيات من بنى أسد ومغازلتهن ويرى الدكتور مكى واقعة دارة جلجل سببا مباشرًا لذلك([10]).
3-واقعة أم جندب النقدية
تفرد الدكتور الطاهر مكى بتحليل هذة الواقعة ورفض كثيرا من الآراء التى اهتمت اهتماما سطحيا بالواقعة.
فقد روى الأصمعى: أن امرأ القيس تزوج امراة من طييء تسمى أم جندب فلما بات عندها لم تحمده ففركته .فلما كان فى بعض الليل قامت وقالت: أصبحت يا خير الفتيان فقم. فاذا الليل لم يذهب منه إلا أقله فقال لها: ما حملك على ما فعلت؟ فسكتت فألح عليها فقالت: كرهتك لأنك ثقيل الصدر, خفيف العجز بطىء الإفاقة, ونزل به علقمة بن عبدة([11]) فتذاكرا الشعر وادعاه كل منهما على صاحبه فقال له علقمة: قل شعرا ًتمدح فيه فرسك و الصيد وأقول مثله: وهذه الحكم بيني وبينك يعنى أم جندب- فقال امرؤ القيس قصيدته التي أولها:
خليلي مرّا بي على أم جندب           لتقضى  لُبَانَاتِ الفُؤادِ المُعذَّبِ([12])
فَإنّكُمَا إنْ تَنْظُرَانيَ سَاعَةً                 من الدهرِ تَنفعْني لَدى أُمِّ جُندَبِ
ألم ترياني كلما جئتُ طارقاً              وجدت بها طيبا وإن لم تتطيب
عَقيلَة ُ أتْرَابٍ لهِا، لا دَمِيمَة              وَلا ذَاتُ خَلقٍ إن تأمّلتَ جَانب
وقال علقمة قصيدته التي أولها:
    ذهبت من الهجران في غير  مذهب 
                   ولم  يك   حقا   كل   هذا   التجنب
    ليالي   لا   تبلى    نصيحة    بيننا
                   ليالي    حلوا     بالستار     فيعرب
وبالرغم أن امرأ القيس ذكرها وتحدث عن جمالها وريحها الطيب الذي يفوح منها وإن لم تتطيب إلا أنها كانت لا تطيق امرأ القيس, وجاءتها هذه الفرصة لا لتكون حكما ولكنها تفرغ غيظا دفينا ومن ثم نراها تقول لامرئ القيس: علقمة أشعر منك قال :
فللساق ألهوب وللسوط دِرّة          وللزّجر منه وقع أهوجَ مِنْعبِ
أما علقمة فأدرك الصيد ثانيا من عنان فرسه لم يضربه بسوطه ولم يمره بساق ولم يزجره حين قال:
وأقبل يهوي، ثانياً من عنانه          يمرُّ كمرِّ الرائحِ المتحلِّبِ 
فقال لها: ما هو بأشعر منى ولكنك له عاشق ثم طلقها وخلفه عليها علقمة فسمى الفحل لذلك.
وهنا يقف كل الباحثين وكأن هذه الواقعة مقدسة لا تقبل الشك أو الجدل أو الملاحظة بينما يتفرد شيخي الدكتور الطاهر مكي بالتحليل الدقيق و العميق في آن واحد يقول:
من وجهه النظر النقدية الخالصة لم يكن الحق في جانب أم جندب وكان مع امرئ القيس وإشارته إلى إن تحريك الساق يلهب الفرس في الجري وضربه بالسوط يجعله يدر في العدو, وزجره يجعله كالأهوج لا عقل له, تصوير لما يجرى في الصيد و السباق ولما يحدث لفرسه  ولغير فرسه أحيانا ولا يفهم منه- في غير مجال التحامل- أن فرس امرئ القيس كان كليلا لا يسبح في عدوه إلا إذا غمز بالساق وألهب بالسوط. وفى البيت التالي للبيت الذي اتخذته أم جندب أساسا لتفضيل علقمة على امرئ القيس , حقق امرؤ القيس الشرائط التي رجحت كفة علقمة فأبان أن فرسه أدرك الوحش دون تعب أو مشقة في طلق واحد لشدة جريه وكان في سرعة عدوه كلعبة الخذروف يديرها غلام ماهر:
فأدرك لم يجهد ولم يثن شــأوه            يمر كخذروف الوليد المثقب
لقد تغلب هوى الأنثى في أم جندب على حيدة الناقد وعبرت- ربما من حيث لا تدرى- عن نفور داخلي تحسه في أعماقها نحو زوجها, فكان نقدها انعكاسا لنفس كارهة أكثر منه حكما لامرأة متذوقة أو ناقدة ومن جانب آخر لو لم تقم حياة امرئ القيس على ضيق من رأى زوجاته فيه رجلا لتقبل نقدها راضيا أو لتعزى عنه متسليا لكنه مضى سريعا يلمس الجانب الذي يحس بعجزه عن توفيره لها فطلقها  ولا ينفى ذلك أن أم جندب نفسها لم تكن حريصة على استرضائه أو على الأقل على تجنب إثارته إن لم تكن في ذلك راغبة. حتى ولو  كانت على صواب وإلا لاستطاعت أن تعبر عما تريد دون أن تفجع زوجها في مباراة على هذا النحو وكانت المرأة العربية في عصر امرئ القيس وما بعد عصره دائما قادرة على تجنب هذه المزالق بما يعلى قدرها في مجال العاطفة([13]).
4-حلة امرئ القيس المسمومة
لعل موت امرئ القيس أثناء عودته يقود جيشا امر به القيصر قد أثار كثيرا من الآراء حول موته , اختلفت الروايات. وأشهرها أن القيصر أرسل له حلة مسمومة كانت سبب وفاته ولعلى أتشكك في هذه الرواية للخبر واتفق تماما مع ما ذهب إليه الدكتور الطاهر مكي بقوله: ومن ثم نرفض خبر الحلة المسمومة ونرى من تجميع الأخبار في صورها المختلفة أن امرأ القيس كان مصابا بمرض الجدري وأن عرقه نتن له رائحة عرق كلب وأنه مصاب بخلل جنسي في بنيته وانعكس في التهاب جلدي تذكر كل رواية واحدة من أعراضه المختلفة ولا تناقض بينها أو تباين لأن العلاقة بين أمراض الجنس وأمراض الجلد مقررة علميا وأن المرض هو الذي أودى به في الحقيقة ولا نتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد منه لنقرر أن الرحلة كلها مكذوبة غير معتمدين على دليل في حين أن أحداثها تتردد في شعره ويرتبط بها أكثر من قصيدة ومقطوعة موثقة الرواية([14]) .
ويرى الدكتور الطاهر مكي انفراد السكري برواية أربعة أبيات قاطعة الدلالة في موت امرئ القيس وتذهب بكل الأقاصيص التي صيغت عن الحلة المسمومة فهو يتحدث فيها صريحا ودقيقا عن قروح كست بدنه وأعجزته عن السير كما لو كان مصابا في مفاصله وتكاثرت ونز صديدها فيبدو معها كل ثوب يلبسه ولو كان جديدا يرتديه للمرة الأولى قديما خلقا قد لبس دهرا وتناثرت الدمامل على بشرته كأختام طبعت متراصة على صحيفة([15]).
لِمَن طَلَلٌ دائِرٌ آيه


تَقَادَمَ في سالِفِ الأحرُسِ([16])

فإما تريني وبي عرة


كأني نكيب من النقرس([17])

وصيرنى القرح فى جبة


تخال لبيسا ولم تلبس([18])

ترى أثر القرح فى جلده


كنقش الخواتم فى الجرجس([19])

وهكذا نرى أن الشيخ العالم الدكتور الطاهر مكي لم يعتمد على الروايات الصحيحة فقط وانما ربط العلم الحديث بالواقع وهى علاقة الأمراض الجلدية و التناسلية.
وهذه هي أبرز الملامح في كتاب شيخي و أستاذى ولو أردنا تناول كل ملامح الجدة و الأصالة في كتابه السابق لاحتجنا إلى مجلد كبير لا يتسع المجال هنا له. لقد استطاع الشيخ الجليل أن يضع بصمة أبدية في مجال البحث الأدبى, تزدهر مع الأيام وتزهو. وأكد ريادته البحثية في الشعر الجاهلي عن طريق هذا الكتاب الذي لم يسبق إذ مزج فيه الأدب بالفكر و بالتحليل و التأمل وفوق ذلك كله طبيعة شيخي الصافية التي جعلته يتعامل مع كل الموضوعات في كتابه بعلمية شديدة ومنهج واضح.
وفى النهاية لا نملك إلا أن ندعو الله تعالى أن يلبسه الصحة و العافية ليكون كما كان دائما نبراسا لأبنائه الطلاب و الباحثين.

****

الهوامش:


(*) رئيس قسم اللغة العربية الأسبق - كلية التربية - جامعة المنصورة .


([1]) طبقات فحول الشعراء, محمد بن سلام الجمحى, تحقيق محمود محمد شاكر, دار المدني, جدة(د. ت) (1/41).
([2]) امرؤ القيس شاعر المرأة و الطبيعة, إيليا حاوي, دار الثقافة, بيروت 1975م, ص 54.
([3]) الغزل في العصر الجاهلي, د. احمد الحوفى, طـ 3, دار نهضة مصر للطبع و النشر, الفجالة القاهرةز1972م, ص 238
([4]) حديث الأربعاء, د.طه حسين,طـ 13, دار المعارف- القاهرة  1918م , (1/225)
([5]) الغزل في العصر الجاهلي, د. احمد الحوفى.ص 13.
([6]) المرأة في الشعر الجاهلي, على الهاشمي, مطبعة المعارف, بغداد, 1960م ص 91.
([7]) العصر الجاهلي, د شوقي ضيف ط 13, دار المعارف, القاهرة, 1990م ص 252.
([8]) امرؤ القيس حياته وشعرة,د الطاهر احمد مكي ط 6 , دار المعرف. القاهرة 1993م ص 194
([9]) السابق. ص 196.
([10]) امرؤ القيس حياته وشعرة مرجع سابق ص 59
([11]) المعروف بعلقمة الفحل انظر هذا الخبر وغيرة في الاغانى دار الكتب, مصدر سابق (21/200 - 204).
([12]) لبانات: حاجات
([13]) انظر: امرؤ القيس حياته وشعره, الدكتور الطاهر مكي مرجع سابق ص 64, 65.
([14]) امرؤ القيس حياته وشعره, مرجع سابق ص 92.
([15]) امرؤ القيس حياته وشعره , مرجع سابق ص 92.
([16]) الحرس : جمع حرس وهو الدهر
([17]) العرة: القرحة في الجسم – النقرس : مرض يصيب المفاصل.
([18]) اللبس هنا : الثوب الخلق المبلوس.
([19]) الجرجس: الصحيفة.

****