الأربعاء، 27 يناير 2016

الطاهر مكي في عيون الفنانين الإسبان

بريشة ثلاثة من الفنانين الإسبان كل واحد منهم رسم شخصية د. الطاهر أحمد مكي من جانب بأسلوبه الخاص .. وفي وقت لم يتجاوز الثلاث دقائق:







الثلاثاء، 26 يناير 2016

العلاّمة (الطاهر مكي) بعد التسعين......د. محمد عبد المطلب(*)


في السابع من هذا الشهر (إبريل) 2015 يبلغ العلاّمة الأستاذ الدكتور الطاهر مكي عامه الواحد والتسعين , وهذا اليوم يحتفي به أبناء دار العلوم المنتشرون في الشرق والغرب بمولد هذا العالم الذي لا تحسب مسيرته الحياتية والثقافية بالسنين والأيام , إنما تحسب بالإنجاز والعطاء , وهو ما ينطبق على الطاهر مكي الذي امتد عطاؤه إلى مجالات متعددة ومتنوعة: المجال الأكاديمي والأدبي والعلمي والثقافي والاجتماعي , واتسع هذا العطاء ليحل في أمريكا اللاتينية وإسبانيا والجزائر والمغرب وتونس والأردن والإمارات العربية , بجانب العطاء المركزي بالأستاذية في كلية دار العلوم وغيرها من كليات الجامعات المصرية.
وهذا العطاء التعليمي والتربوي والثقافي يؤازره عطاؤه التأليفي الموسوعي والمتخصص, فقد قدم هذا العلاّمة مدوناته المتتابعة لرواد المعرفة والثقافة العربية والأندلسية, وفي مقدمتها مؤلفاته عن فن الشعر العربي وغير العربي, وكانت بدايته مع الشعر العربي في بكورته عن امرئ القيس في كتابه الرائد: (امرؤ القيس - حياته وشعره), ثم الشعر العربي فى الأندلس وعلاقته الفنية بالمتبني: (مع شعراء الأندلس والمتنبي), ثم امتدت المتابعة إلى الشعر الحديث في الشرق والغرب: (الشعر العربي المعاصر) (بابلو نيرودا - شاعر الحب والنضال), والحق أن قراءة الطاهر مكي للشعر كانت قراءة مؤسسة من ناحية , ومتابعة لتحولات هذا الشعر في بنائه الصياغي والدلالي والجمالي على صعيد واحد , من ناحية أخرى.
ومن الشعر تأخذ مؤلفات هذا العلم طريقها إلى المصادر الأولى للثقافة والحضارة العربية في المشرق والمغرب العربيين , حيث وضعت بين أيدي الباحثين المصادر التي يعتمدونها في مسيرتهم العلمية في نسق يكاد يغنيهم عن العودة للأصول .
ومع هذا المصادر جاءت الدراسات الثقافية والحضارية للأندلس التي وضعت بين ايدي القراء أعلام هذه الثقافة, وأهم مؤلفاتهم, من مثل كتاب: (طوق الحمامة) و (السير والأخلاق) لابن حزم, ومن أهم المؤلفات في هذا السياق كتاب: (دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة) ويتسع العطاء لمناهج النقد الأدبي بكل مستجداته, والأدب المقارن: (الأدب المقارن - أصوله وتطوره), ثم يمتد العطاء إلى مواصلة مسيرة الرواد الأوائل في الترجمة الدقيقة التي يمتلك صاحبها المعرفة الصحيحة باللغة التي يترجم منها والتي يترجم إليها, علي غير ما نعيشه من ترجمات آلية حينا وخاطئة حينا آخر, لأن أصحابها يمتلكون لغة واحدة من اللغتين اللتين تحتاجهما الترجمة الصحيحة, بل إن بعضهم يجهلون اللغة ذاتها, ومن أهم ترجماته: (ملحمة السيد).
ولم يتوقف العطاء عندما عرضنا له من إسهامات هذا الرائد، بل امتد إلى مهمة علمية لا يقدر عليها إلا أولو العزم ممن يمتلكون الدراية والخبرة والدراسة في (التحقيق)، ومن يقرأ تحقيقات الدكتور الطاهر يدرك على الفور أنه واحد من أعلام المحققين الكبار الذين قدموا لنا التراث تقديما علميًّا موثقا، وكل هذا وسواه فتح أمام الطاهر مكي أبواب أكبر المؤسسات اللغوية: (مجمع اللغة العربية) ومجلس إدارة (دار الكتب)، ثم رئاسة (نادي دارالعلوم) الذي أحاله إلى شعلة من النشاط الثقافي والعلمي بندواته وتجمعاته ومجلته التي أصبحت منارة ثقافية للبحث الأكاديمي والإبداع الأدبي، ثم توجته جائزة الدولة التقديرية، وجائز جامعة القاهرة في التميز.
أما العطاء الفذ لهذا العلم فهو في أستاذيته بكلية دارالعلوم، وكل الأجيال التي تتلمذت على يديه، تنظر في مؤلفاته بوصفها ذخيرتهم التي يعتمدونها في مسيرتهم العلمية والثقافية، وأنا واحد من هؤلاء التلاميذ الذين نهلوا من فيض عطائه العلمي والثقافي، وأشرُف بأن أعترف بأن كثيرًا من إنجازاتي ودراساتي في الأدب واللغة والثقافة والبلاغة كانت محتكمة إلى كثير من توجيهاته، وربما كانت أهم هذه التوجيهات: (احترام التراث)، وتنبيهي إلى خطورة المقولة التي أطلقها بعض الحداثيين من أن (الحداثة قطيعة مع التراث)، وكانت كلمته الأثيرة: (يا بني): العلم والمعرفة والحضارة والثقافة (تراكم وتواصل) لا قطيعة وانقطاع، كما نبهنى كثيرا إلى ضرورة الوضوح، والابتعاد عن الغموض والإلغاز، هذه كانت واحدة من الذخائر التي اغتنمتها من هذا الرجل الإنسان، صاحب العطاء الوافر لأبناء جيلي والأجيال التي جاءت بعدنا.
أما قمة الإنسانية والوفاء لمسيرته الحياتية والعاطفية فيمكن أن نطل عليها في إهدائه الناعم الذي قدم به كتابه (دراسة في مصادر الأدب) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1968، يقول فيه:
(إلى راهبة
إلى قلب كبير .. وعقل ذكي .. وسعني ذات يوم .. حين ضاقت بي الدنيا).

السبت، 23 يناير 2016

الطاهر مكى من سواه أحق بالتكريم د. محمد صالح توفيق(*)

أصبح خادمها وسيدها في آن واحد، فهنيئًا له الثروة الفكرية الضخمة التي أودعها عشرات الكتب التي تفخر بها المكتبة العربية، وغرسها فى عقول أجيال من الطلاب تخرجوا على يديه، وانتشروا في أرجاء الوطن العربي وجامعاته، ينشرون ما قبسوه من خلق وعلم.
وأشهد أني ما عرفت أستاذي محبًا للمديح، ولكنني عرفته محبًا للوفاء، ومن باب الوفاء لمن علمني أن أذكر بعض الجوانب الإنسانية والأخلاقية التي لمستها من أستاذي وربما لا يلحظها الشخص العادي، بعد قراءة مقدمة كتابه (دراسة في مصادر الأدب).
الأولى : أوقفنا أستاذنا على حب العرب والعربية بتدريسه لنا آثار السالفين وبخاصة كتابًا (البيان والتبيين) و(الحيوان) للجاحظ وكتاب (الكامل) للمبرد، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والأغاني للأصفهاني والعقد الفريد لابن عبد ربه .... إلخ.
لقد ركز معنا في محاضراته على أن جميع ما جاءت به المدنية الحديثة، وما يتجدد فيها قد سبقهم العرب إليه، لقد رأينا الاتجاه العلمي والثقافي المتميز في عطائه العلمي، فيما جميع من تراث عربي أصيل ممزوجًا بالثقافة الأوربية الحديثة، ولنتدبر عبارته الأولى في المقدمة : «لا أظن أدبًا معاصرًا له من العمر ما للأدب العربي».
وأشهد أن الدكتور الطاهر مكي قدم كتابًا جزيل الفائدة عميم النفع لطلبة الدراسات العليا في أقسام اللغة العربية وآدابها، ينم عن معرفة وثيقة بالتراث اللغوي العربي، وهي التي صانته من الولوع بثقافة الغرب، فقدم فائدة فكرية عربية خالصة، لا يستطيع أن يقدمها إلا أستاذنا الجليل.
ومما يذكر فيحمد لأستاذنا عبارته الرصينة عن التراث العربي، وعبر ألف ونصف ألف من الأعوام لم يتوقف العقل العربي عن الإبداع حتى في أحلك ساعات الأمة العربية، وكانت حصيلة ذلك تراثًا ثقافيًا واسعًا، يعكس حقيقة مجتمعه في سموه واحتضاره، في صعوده وتوقفه" ص8، الطبعة السادسة 1986م.
الثانية : التواضع في محراب العلم فضيلة.
اقرأ معي أيها القارئ العزيز هذه العبارات الرصينة من أستاذ لديه شموخ أدبي وثقافي وفكري قل أن نجد له نظيراً، ولكنه المتواضع فيما يقدم لقرائه، يقول :
-    وقد رأيت أن نشر هذه الدراسة في كتاب يجعل الفائدة منها أكثر شمولا، ويعين الطلاب على ترتيب معلوماتهم، وهي – مهما كانت – جهد شاب مبتدئ، ويضع بين يدي الدارسين والباحثين من طلاب الدراسات العليا – صورة مصغرة لمادة هذه الكتب واتجاهات أصحابها" ص10. هذا الكلام يحتاج إلى محلل نفس لا إلى قارئ مثلى، وأستاذنا يرى أن عمله جهد شاب مبتدئ، يرى أن ما قدمه صورة مصغرة لمادة هذه الكتب. لقد عرف الدكتور الطاهر مكي قراءه على عشرة كتب من عيون التراث العربي، سبعة منها في الأدب العربي بمعناه العام، وقد خرجت من المشرق العربي، وكتابان اثنان خرجا من المغرب العربي، وكتاب واحد هو أقدم ما عرفنا من علم البيلوجرافيا العربية.
-    ومما قاله أستاذنا في الصفحة العاشرة : "لست أزعم لهذه المحاولة الكمال، فهي كأي عمل رائد لها صعابها ومخاطرها، ولكني آمل أن أكون قد بدأت بها خطوة، إذا ما قدر لها أن تصل إلى غايتها ... وما قرأت شيئًا جديدًا إلا أني أحسست أني أجهل الكثير، وأن دون ما أتمناه لنفسي يومًا بعيدًا، ومن ثم فسوف أكون سعيدًا، بأي ملاحظة تعين على تقويم هذا العمل، وإصلاح ما قد يكون بداخله من نقص أو خطأ، أو تسهم في البلوغ به حد الكمال.
لعل أصدق ما يقال عن مثل هذه العبارات هو تواضع العلماء الذين ملأوا الدنيا علمًا وأدبًا، لقد أراد أستاذنا مخاطبة كل طالب علم أو باحث في فروع اللغة العربية وغيرها أن يتصف بالتواضع، وأن يبحث عن العلم في كل لحظة ولا يظن أن العالم بما ألف. ويكفي من يريد التعلم أن يقرأ الكتاب ليدرك تمام الإدراك مبلغ الجهد الذي بذله الدكتور طاهر مكي حتى صار هذا الكتاب موسوعة أدبية حية. ولم يظهر أستاذنا في محاضراته عجبًا بعلمه، ولا استعلى على طلابه بما قدم، وإنما كانت تبدأ محاضراته بالكلمات الطيبة، فكانت المودة هي عنوان علاقة الأستاذ بطلابه، وصار موضع تقديرهم ورعايتهم.
الثالثة : العلم أمانة:
تحدث المؤلف الفاضل عن كتاب (الحيوان) للجاحظ، ولو تركنا دون الإشارة في أعلى الصفحة لما تنبه أحد إلى أن ما قاله ليس من تأليفه، وإنما كان أشار – وهذه أمانة العلماء – إلى أن هذه الدراسة كتبها المستشرق الأسباني ميجيل أسين بلاثيوس، ونشرها في مجلة (إيزيس Isis) مايو 1930، والعدد رقم 43، المجلد الرابع عشر ثم نشرت بعد وفاته في أعماله المختارة، المجلد الثاني الصفحات 29-70، مدريد 1948م. ص190.
هذه هي ثقافة طاهر مكي التي دخل بها ميدان التراث اللغوي العربي، واختار هو من عند نفسه أن ينص على أن ما كتبه عن (الحيوان للجاحظ) ليس من تأليفه، ليعلمنا أن الأمانة العلمية هي أساس النجاح للعالم، وأن شغله الشاغل وهمه الناصب هو إفادة القارئ بإزاحة الثرى عن الخبيء والمدفون من تراثنا اللغوي ولو كانت عن طريق النقل عن المستشرقين بعد الاطلاع الغزير، والتحليل الفذ والتأمل الطويل لما كتبوه عن تراثنا العربى.
ولأستاذنا خصلة تضم إلى سوابقها وهي حرصه على الدخول في المحاضرة مباشرة، ولا يخرج عن موضوعها بذكرى من ذكرياته أو فكاهة كما يفعل بعض الأساتذة، بالإضافة إلى هدوء الطبع في المحاضرة، والجمع بين الحزم والعزيمة في لقاءاته مع طلابه.
الرابعة : الاحترام المقرون بالتقدير والمحبة مع طلابه.
أستاذنا الدكتور الطاهر مكي يعد ثروة قومية درعمية منحه الله روحًا معنوية عالية، مكنته من مضاعفة العطاء لتلاميذه وأراه يقدم لهم ما يقصر مئات الأصحاء، على الرغم من تقدم العمر ووهن الصحة لديه، ولكن على قدر أهل العزم تأتى العزائم بارك الله في عمره وأمده بالصحة والعافية.
أستاذنا صاحب مواقف مأثورة مع كل من عملوا معه وهو وكيل الكلية لشئون الدراسات العليا والبحوث، ولعلي كنت واحدًا محظوظًا من هؤلاء، فقد شرفت بالعمل مع سيادته كعضو كنترول في الدراسات العليا، وأشهد أنه خير الرئيس وخير المعلم لتلاميذه، وخير الناصح الأمين، فقد كان الكنترول في مكتبه وأنا الأمين على الأوراق والمسلم لها لأساتذتي، وفي إحدى الجلسات حاورت أستاذي في شأن الخط العربي وعلاقته بالخط الكنعاني فأفاض علي من علمه، وأهداني كتابه الذي نتحدث عنه وهو دراسة في مصادر الأدب، وتأمل معي الإهداء الذي يكشف لك عن حب الأستاذ لتلميذه وأمنياته له بأن يسير على خطاه كتب "إلى تلميذي العزيز محمد صالح توفيق – مع تمنياتي لك بالتوفيق في حياتك الجامعية والعلمية. الطاهر مكي 21/9/1986" أعود إلى هذا الإهداء بعد ثمانية وعشرين عامًا، إنه الضياء الذي اهتديت به حتى أصبحت عميدًا لدار العلوم، وهذا موقف أتخيره من مواقف كثيرة لن أنساها لأستاذي مدى الحياة.
الخامسة : التنقيح والتجويد لما كتبه.
أستاذنا الدكتور الطاهر مكي لديه عزيمة لا تعرف الخور، ولديه مثابرة على العمل لا يتسرب إليه الملل، ولذلك تراه يراجع ما كتب، ويضيف إليه ما قرأه، ولنقرأ معًا بداية مقدمة الطبعة السادسة، قال : «يجيء كتاب دراسة في مصادر الأدب مع هذه الطبعة جديدًا بكل معنى الكلمة، قليل الصلة بطبعته الأولى التي صدرت منذ ستة عشر عامًا ... ألقيت نظرة على موضوعاته القديمة فنقحت وصوبت ... أما الإضافات الجديدة فتعدل في سعتها حجم الكتاب في أول طبعة له، وتجعل منه في أهميتها شيئًا جديدًا، يأتى على ما سبقه من طبعات». ص5.
وإن تلخيص كلام الطاهر مكي محرج، لأن عباراته المشرقة مما تعز على التلخيص، ولكني أضطر إلى ذلك اضطرارًا في هذا المقام، وأحيل القارئ إلى قراءة نصوص المقدمة كاملة ليضم إلى جانب الإقناع العلمي ناحية التأثير الوجداني.
ويبدو أن التنقيح والتجويد للمؤلفات كانت سمة جيل الطاهر مكي، وهو جيل الجد والتحصيل، جيل لم يرفع عينه عن القراءة ولم يشغله عنها حديث أو ثرثرة لا تفيد، وقد أخلص أستاذنا أيامه للقراءة والتحصيل، ألقى الدنيا خلف ظهره ودبر أذنيه، وخلا إلى الكتاب العربي في فنونه المختلفة بالإضافة إلى الترجمة من الآداب الأجنبية.
وقد يكون من الاستطراد غير البعيد أن أقول : لقد نشأت على إجلال أدب الطاهر مكي وإكباره، إذ كنت تلميذًا له في الفرقة الأولى والثالثة والرابعة، وكنت أقرأ كتبه المقررة بعين المشوق المتطلع، وبعد أن اتسعت ميادين الاطلاع لدي أجد من العسير أن أتفرد وحدي بالحديث عن كتاب (دراسة في مصادر الأدب)، وأجد من الضرورة أن أبعد نفسي عن مطارح الهوى ومنازع العاطفة، وأذكر رأي الأستاذ الدكتور محمد الطناحي – رحمه الله – يقول عن مقدمة الكتاب :
"تحدثت المقدمة الأولى عن تراثنا العربي من الرواية الشفوية إلى التدوين، وقد عالج في تلك المقدمة قضايا في غاية الأهمية، واستطاع بذكاء شديد وإحكام بالغ أن يجمع كل ما قبل عن نشأة الخط العربي، والنقوش العربية التي وصلت إلينا، وأقدم الكتابات الإسلامية وتطور الخط العربي وتاريخ النقط والإعجام، وترتيب الأبجدية العربية عند المشارقة وعند الأندلسيين والمغاربة (مستقبل الثقافة العربية، ص238، دار الهلال مايو 1999).
ثم قال : «وهذه المقدمة التي شغلت تسعين صفحة من الكتاب، من أنفع ما يقدم لطالب في الدراسات العربية، ولو كان لي من الأمر شيء، لجعلتها مقررًا واجبًا على كل طالب في جميع كلياتنا ومعاهدنا المعنية بالدراسات العربية والإسلامية، ليس في الدراسات العليا فقط، ولا في قسم الدراسات الأدبية فقط، ولا في كلية دار العلوم فقط». ص239.
ثم يجمل الدكتور الطناحي أفكاره ورؤيته لما جاء في الكتاب، وهي شهادة الباحث المدقق في التراث والمتتبع للأدب العربي، حيث قال : «والكتاب في جملته سواء في مقدمتيه أو في حديثه عن الكتب العشرة، من خير ما يقدم لطالب الدراسات العربية والإسلامية، فهو أولاً قد سلم من تلك الثرثرة التي يخوض فيها بعض أساتذة الجامعة من الكلام في المنهج العلمي، والصعود والهبوط مع العموميات التي لا يعود الطالب منها بشيء، ثم في طعنهم في التراث واستهانتهم بالعقل العربي وسخريتهم من علومه وأعلامه، دون سند أو حجة إلا المتابعة والإخلاد إلى الراحة، والزعم بالانتصار للموضوعية، والذود عن حماها». ص239-240.
وقد ظهر لي من قراءة كتاب (دراسة في مصادر الأدب) أنه لم ينل حظه من الشيوع، وغفل عنه القراء طويلاً على الرغم من أنه جليل القدر وعظيم النفع، ولا يكفي وجود هذا الكتاب بين جدران الجامعة، فهو يحتاج في نشره إلى قوة الإذاعة المسموعة والمرئية، ومما يجعله ذا أثر قوي، يهز القراء خارج الجامعة، ويحمل الدولة على النظر فيه وأخذ بعض كتبه في مناهجها الدراسية في المدارس.
أستاذنا الدكتور الطاهر مكي له عشرات المؤلفات الأدبية خاصة في الأدب الأندلسى، بالإضافة إلى ترجماته العديدة في مجال الأدب المقارن إلى جانب مئات المقالات المنشورة في مختلف الدراسات العربية والإسلامية في مصر والخارج.

وما أحب أن أختم مقالتي هذه قبل أن أؤكد ما بدأت به حديثي، وهو أن الطاهر مكي يمثل الدرعمي اللغوي السلفي العصري بجمعه التراث دون التقيد بحواشيه وما غرفه من الثقافة الأوروبية دون انبهار بها، بارك الله في عمره وأمده بالصحة والعافية.

الجمعة، 15 يناير 2016

الطاهر مكي كما عرفته د. محمد أبو الفضل بدران(*)

1.
«... كَادَ مِن شُهرةِ اسمِهِ لا يُسَمّى» البرودني.

ها هو البردوني متحدثا عن المتنبي، البردوني الذي ما عرفناه لولا أستاذنا الدكتور الطاهر مكي ؛ فلماذا لا أستعير شطر بيته هذا لنبدأ الحديث عن الطاهر مكي الذي «كَادَ مِن شُهرةِ اسمِهِ لا يُسَمّى» ؛ عندما كنت طالبا في الفرقة الأولى بالجامعة تمنيت أن أراه بعد أن قرأت كتابه الرائد عن امرئ القيس في مرحلة الثانوية، وشدّني هذا الكتاب إلى عالم أمير الشعراء لا منازع، ورحت أقرأ ما كتبه عن دارة جلجل، ولأول مرة أحس حلاوة المعلقات، لقد أهداني بكتابه هذا عشق الشعر الجاهلي، كيف يتجشم عناء السفر من القاهرة إلى قنا بالقطار، كان القطار يصل إلى المحطة في الخامسة مساء ،
ها هو قادم كالرمح في مشيته المميزة، دخل القاعة في إباء وتواضع الكبرياء، وقال لنا :
معذرة يا أبنائي فقد تأخر القطار، يا إلهي : الطاهر مكي يعتذر لصبية قادمين من الثانوية، وكان هذا الاعتذار درسا في تواضع العلماء، ربما لا يدري الأستاذ كم يؤثر في طلابه!
وبدأ الطاهر مكي يتحدث عن مصادر الأدب وراح يقدم لنا أبا الفرج الأصفهاني وكتابه الأغاني، وكأنه كان صاحبه وملازمه، يضحك على المواقف التي تعرض لها المجنون قيس، ثم يردف مبتسما : لم تكن ليلى جميلة ولا حاجة!! ولكنه العشق، يفند الروايات ويحاكم الرواة والأسانيد، تخرج من المحاضرة وقد قرأت الكتاب دون أن تلمسه.

2.
تدعوه لأمسية شعرية وقد أسسنا نادي الأدب والفكر بالكلية، يأتي مكي ويستمع إلينا جميعا شعراء ومتشاعرين ثم ينقذنا في رفق وتشجيع، هنا كسر عروضي، وهناك صورة غريبة لو ... ينتصف الليل، نمشى معه في شوارع قنا التي يحفظها فقد درس بها فتى، يشرح لنا هنا سكنتُ وهنا تعرفت على المدينة إذ كان قادما من المطاعنة وهي قرية بإسنا، فنداعبه في احترام "يا مرحبا بقنا وإسنا" فيقول لنا ليس حفني ناصف وحده المنفي إلى الصعيد، يا ولدي ما يزال الصعيد منفى!! يتحدث عن الصعيد بوله، وكأنه عمدة الصعيد، يحل مشكلاتهم ويجلس معهم في القرية، ويلاحقونه في القاهرة، يضحك وهو يحكي لي، يجيئون إليَّ بالقاهرة؛ واستأذنت منهم في الصباح كي أطبع امتحانا سيُوَزع بالكلية في التاسعة صباح اليوم، عندما عاد لم يجدهم بالشقة في العجوزة حيث كان يقطن، ويعرف من أخيه المستشار عبد الستار رحمه الله تعالى أنهم غادروا غاضبين "الطاهر سابنا في الشقة ومشى للشغل"!

3.
فى مدخل الحمراء كان لقاؤنا
ما أطيب اللقيا بلا ميعاد
نجلس مندهشين في القاعة بقنا ؛ ونحن نتجول في قاعات قصر الحمراء بالأندلس الذي يصفه لنا حجرا حجرا، بيتا بيتا، هذه الأبيات الشعرية، والمقولات "لا غالب إلا الله" فوق جدران الحمراء، يحول قصيدة نزار قباني إلى لوحة عشق وأسى للأندلس، نتخيل هذا الحوار الذي يقرّبه لنا ويصفه لنا وكأنه الراوي العليم الذي صاحَب نزار قباني في الحمراء وفي جنة العريف، عندما زرتُ غرناطة ودخلت الحمراء كان دليلي هناك الطاهر مكي، ورحتُ أردد قصيدة نزار "بصوت مكي في قاعة الكلية:

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا


ما أطيب اللقيا بلا ميعاد

عينان سوداوان في حجريهما


تتوالد الأبعاد من أبعاد

هل أنت إسبانية؟ ساءلتها


قالت: وفي غرناطة ميلادي

غرناطة؟ وصحت قرون سبعة


في تينك العينين .. بعد رقاد

وأمية راياتها مرفوعة


وجيادها موصولة بجياد

ما أغرب التاريخ كيف أعادني


لحفيدة سمراء من أحفادي

وجه دمشقي رأيت خلاله


أجفان بلقيس وجيد سعاد

ورأيت منزلنا القديم وحجرة


كانت بها أمي تمد وسادي

سارت معى .. والشعر يلهث


خلفها كسنابل تركت بغير حصاد
يتألق القرط الطويل بجيدها


مثل الشموع بليلة الميلاد

ومشيت مثل الطفل خلف دليلتي


وورائي التاريخ كوم رماد

قالت : هنا "الحمراء" زهو جدودنا

فاقرأ على جدرانها أمجادي

أمجادها؟ ومسحت جرحاً نازفاً


ومسحت جرحاً ثانياً بفؤادي
يا ليت وارثتي الجملية أدركت


أن الذين عنتهم أجدادي

عانقت فيها عندما ودعتها


رجلاً يسمى "طارق بن زياد"

4.
في عشقنا اعتمدنا على ابن حزم وطوق الحمامة بتحقيق الطاهر مكي وكنا نتجول في قرطبة ونحن في قنا ونقول عن المحبوبة نقلا من شعر ابن حزم :
أغارُ عليكِ من إدراكِ طرفي              وأشفقُ أنْ يُذيبك لَمسُ كفَّي ...
ثم يقول لنا : تذكّروا أن قائل هذه الأبيات الفقيه ابن حزم، كان يقول ذلك في الثمانيات فماذا يقول اليوم؟!
5.
يدعونا الأمير الفضل بن العباس الدندراوي للحوار والغذاء على ضفاف النيل ببيته "ساحة النور" بدندرة، يتحول الطاهر مكي في حواره من زعيم في حزب التجمع إلى صوفي حتى النخاع، كنتُ معيدا آنذاك، رأيته يناقش في الأحوال والمقامات، ورأيت على وجهه سيم الرضا، تحدث الأمير الفضل عن أحوال المسلمين في العالم ؛ وعما ينبغي أن يكونوا عليه، كان الأكل شهيا لكن الحوار أشهى وألذ.
في أثناء عودتنا ترجّل مكي فوق كوبري دندرة الذي يربط بين قنا الشرق ودندرة والترامسة الغرب، مشينا في معيته وكأننا المريدون في إثر شيخهم، أو الحلاج وأتباعه على نهر الفرات مرددا :
 واللهِ ما شرقتْ ولا غربتْ


إلا وذكركَ مقرونًا بأنفاسي
وما خلوتُ إلى قومٍ أحدَّثهم


إلا وأنتَ حديثي بين جُلاَّسي

وما هممتُ لشربِ الكأْس مِنْ ظمأ

إلا رأيتٌ خيالاً منكَ في كأسي
           
6.
استشرته قبل سفري إلى ألمانيا، نصحني بالسفر وأن تكون أحلامك باللغة الألمانية، لكن لا تنس موضوع كتابك عن "الخَضِر"، كان يتابع أبحاثي وأشعاري ويقوّمها في أبوة حانية أحيانا وقاسية في أحايين أخرى، وهو يتمثل بالبيت الشهير :
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما          فليقس أحيانا على من يرحمُ

7.
حدثني عن الأدب الإسلامي المقارن، أستطيع أن أقول إنه دلّنا على كنزل لم ننتبه إليه، هل كنا مندوهين بنداهة الغرب في الأدب المقارن، وكأن مركزية الغرب في كل شيء حتى في الأدب المقارن، كيف لم نتجه إلى الأدب الإفريقي والأوردي والتركي والفارسي وغير ذلك مما يجاورنا ونعيش في معيته دون أن نلتفت إليه، أرى أن ذلك كان فتحا جديدا في الدراسات المقارنة ؛ وكم فرح بكتابي "الخضر في الآداب العالمية" الذي قال لي : "هذا هو الكتاب الذي تمنيت أن أكتبه" فرحي بمقولته فرح لا يوصف، كيف لأستاذ في قامته يشجع تلميذه بهذا الكلام، وكأنه نسي أن هذا الكتاب وليد محاورات معه ونبت كتابه عن الأدب الإسلامي المقارن.
8.
يقرر أن يرشح نفسه لانتخابات مجلس الشعب عن محافظة قنا ضد أمين حزب مصر الحاكم آنذاك، أقيمُ له أمسية في حبه بقريتي العويضات بقفط، يتجمع أهلي والقرى المجاورة في مشهد لم تره القرية من قبل ؛ الجميع يتدافع للسلام عليه، الأطفال يفترشون الأرض تحت جميزة المَلقَه كما نسمي ميدان القرية، يربط مكي بين مَلَقَة العويضات و"ملقا" الأندلس وينشد الشعراء قصائد في مدحه يحثونه كي يمضي في الترشح حتى يخلصنا ؛ يقول له الشاعر العامي ربيع فريد :
"يا نور المنادرْ
يا طاهر يا طاهرْ
يا نائب بلادنا
كفاية وجودكْ
وعلمك وجودك
يا نور المنادر"
ويقف الطاهر مكي وقد هاله هذا الجمع وهذا الحب ليقول : "لقد كان أحمد شوقي يقصدني عندما قال :
قد يهون العمرُ إلا ساعةَ         وتهون الأرضُ إلا موضعا
ويصفق له الحضور فيعلق على صِبية تسلقوا شجرة الجميز العريقة أمام مندرتنا وهم يصفقون له فيطلب منهم أن يمسكوا بأطراف الشجرة حتى لا يسقطوا وأنه مقدر حضورهم وفرحهم به راجيا في مودة أن يتركوا أمر التصفيق للأرضيين، وتضج الملقة بالتصفيق والبهجة.
يأخذ من الأصوات ما يحقق له الفوز ولكن النتيجة نجاح الآخر !!!

9.
عندما كنا طلابا في السبعينيات كتب الطاهر مكي في الصحف والمجلات مطالبا بإنشاء جامعة في قنا، قابل المسئولين في حماس، وكان معه الدكتور إسماعيل معتوق رحمه الله، ولم يكن أحد يعتقد في جدوى ما يكتب لكن تحولت الكليات الثلاثة إلى فرع لجامعة أسيوط ؛ ولم تفتر همته بل دافع حتى تحقق له في 1995 إنشاء جامعة جنوب الوادي في قنا، كلنا في الجامعة مدينون لهذا الرجل.

10.
تعدّ طالبتي منى عبد العظيم رسالة ماجستير عن الطاهر مكي مبدعا وناقدا، يكتب لها سيرته الذاتية في صفحات قليلة، فأقول لها : ليته ما سكت، إنه لا يود أن يتكلم عن نفسه، لديه مخزون من المعلومات والأسرار، متى يبوح به، ومتى يكتب سيرته الذاتية؟ ستكون مرجعا لحقب لم نعشها وخبايا لمّا تكتشف بعد، متى تبدأ؟

11.
كم كان فرحا وهو يقرأ مقالاتي عنه في الحياة ودراسات ثقافية وفي "العرب" اللندنية، وغيرها يهاتفنى شاكرا، وهو لا يعرف أني اتخذته قدوة لي منذ أن قرأته، عندما أتصفح ما كتب أوقن أن هذا الرجل قد جاء في زمن ليأخذ أمثالنا إلى العلم، وعندما أرى نصف مليون من الشباب تخرّج من جامعة جنوب الوادي منذ كانت فرعا لجامعة أسيوط أوقن أن هذه هي الصداقة الجارية والعلم الصالح الذي ينتفع به، وأن أبي عندما قال له «لا تنسنا من دعائك» كان في قلبه أن «العلماء ورثة الأنبياء».



(*) كلية الآداب في قنا - جامعة جنوب الوادي ، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة.

قصيدة عرفان د. منى ربيع بسطاوي(*)

إن من أجل القيم وأعظمها العرفان بالجميل وإني لأشرف الشرف جميعه، وأعتز الاعتزاز كله لأعترف لصاحب فضل عليَّ وعلى جميع أبناء وبنات الجيل، له يد طولي شخص وإليه الفضل كل الفضل على مسيرتي في الحياة.
إلى صاحب اليمينين العربية والإسبانية
إلى حجة الأدبين العربي والإسباني
إلى رائد الأدب الأندلسي بلا منازع في الشرق والغرب.
إلى أبي وأستاذي وقدوتي ومثلي الأعلى.
إلى العالم الجليل أ.د. الطاهر أحمد مكي...

1- وها هو شِعْري يخط البيانَ 


بكل ابتهاج إليكَ دَنَاَ

2- وقد كان يُهمِلُ مَدْحَ الأنامِ


وعند مديحِكَ أنت اعتنى
 
3- أعَدَ الصِحَافَ، أتى بالمِدادِ


ومن كلّ شَهدِ اليرَاعِ اجتني

4- ومن ذا سواكَ استحقّ الثناءَ


وأهدي الرّيَاحِينَ لأِرْواحنَا

5- سَتَبْقى شهَابًا لكل العُصُور


وتاجًا تمنّاه أعْلامُنَا

6- أتيتَ، ولولاك حَلّ الظّلامُ


فكانَ الإلهُ لطيفًا بنَا

7- تَكَلّفْتَ بالعلمِ أنّ تَزْدَهيهِ


بديلَ الدّمَاءِ بأجْسَادنَا

8- وما الجهلُ إّلا ظلامُ شديدُ


وأنتَ المَنَارةُ، أنتَ السّنَا

9- فيا من تريدُ اجتماع العلوم


إلى الطّاهِريّ تَعَالَ هُنَا

10- ستنهلُ علْمًا يُغَذي العقولَ


وَتَمْحَقُ جَهْلَّا وتَنْسَي العنَا

11- أرى الدهرَ صَعْبَ المِراس ولكنّهُ

إذا ما رآكَ إليكَ انحنى

12- أرى العلمَ يمضي لنفع الوَرَى

إذا اختصَّ منكَ ببعض الثّنَا

13- سأدعو إليكَ بعُمْر مَدِيدٍ


تَقبّل دعائيَ يَا ربّنَا