في السابع من هذا الشهر (إبريل) 2015 يبلغ العلاّمة
الأستاذ الدكتور الطاهر مكي عامه الواحد والتسعين , وهذا اليوم يحتفي به أبناء دار
العلوم المنتشرون في الشرق والغرب بمولد هذا العالم الذي لا تحسب مسيرته الحياتية
والثقافية بالسنين والأيام , إنما تحسب بالإنجاز والعطاء , وهو ما ينطبق على
الطاهر مكي الذي امتد عطاؤه إلى مجالات متعددة ومتنوعة: المجال الأكاديمي والأدبي
والعلمي والثقافي والاجتماعي , واتسع هذا العطاء ليحل في أمريكا اللاتينية
وإسبانيا والجزائر والمغرب وتونس والأردن والإمارات العربية , بجانب العطاء
المركزي بالأستاذية في كلية دار العلوم وغيرها من كليات الجامعات المصرية.
وهذا العطاء التعليمي والتربوي والثقافي يؤازره عطاؤه
التأليفي الموسوعي والمتخصص, فقد قدم هذا العلاّمة مدوناته المتتابعة لرواد المعرفة
والثقافة العربية والأندلسية, وفي مقدمتها مؤلفاته عن فن الشعر العربي وغير العربي,
وكانت بدايته مع الشعر العربي في بكورته عن امرئ القيس في كتابه الرائد: (امرؤ
القيس - حياته وشعره), ثم الشعر العربي فى الأندلس وعلاقته الفنية بالمتبني: (مع
شعراء الأندلس والمتنبي), ثم امتدت المتابعة إلى الشعر الحديث في الشرق والغرب:
(الشعر العربي المعاصر) (بابلو نيرودا - شاعر الحب والنضال), والحق أن قراءة
الطاهر مكي للشعر كانت قراءة مؤسسة من ناحية , ومتابعة لتحولات هذا الشعر في بنائه
الصياغي والدلالي والجمالي على صعيد واحد , من ناحية أخرى.
ومن الشعر تأخذ مؤلفات هذا العلم طريقها إلى المصادر
الأولى للثقافة والحضارة العربية في المشرق والمغرب العربيين , حيث وضعت بين أيدي
الباحثين المصادر التي يعتمدونها في مسيرتهم العلمية في نسق يكاد يغنيهم عن العودة
للأصول .
ومع هذا المصادر جاءت الدراسات الثقافية والحضارية
للأندلس التي وضعت بين ايدي القراء أعلام هذه الثقافة, وأهم مؤلفاتهم, من مثل
كتاب: (طوق الحمامة) و (السير والأخلاق) لابن حزم, ومن أهم المؤلفات في هذا السياق
كتاب: (دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة) ويتسع العطاء لمناهج النقد
الأدبي بكل مستجداته, والأدب المقارن: (الأدب المقارن - أصوله وتطوره), ثم يمتد
العطاء إلى مواصلة مسيرة الرواد الأوائل في الترجمة الدقيقة التي يمتلك صاحبها
المعرفة الصحيحة باللغة التي يترجم منها والتي يترجم إليها, علي غير ما نعيشه من ترجمات
آلية حينا وخاطئة حينا آخر, لأن أصحابها يمتلكون لغة واحدة من اللغتين اللتين
تحتاجهما الترجمة الصحيحة, بل إن بعضهم يجهلون اللغة ذاتها, ومن أهم ترجماته:
(ملحمة السيد).
ولم يتوقف العطاء عندما عرضنا له من إسهامات هذا الرائد،
بل امتد إلى مهمة علمية لا يقدر عليها إلا أولو العزم ممن يمتلكون الدراية والخبرة
والدراسة في (التحقيق)، ومن يقرأ تحقيقات الدكتور الطاهر يدرك على الفور أنه واحد
من أعلام المحققين الكبار الذين قدموا لنا التراث تقديما علميًّا موثقا، وكل هذا
وسواه فتح أمام الطاهر مكي أبواب أكبر المؤسسات اللغوية: (مجمع اللغة العربية) ومجلس
إدارة (دار الكتب)، ثم رئاسة (نادي دارالعلوم) الذي أحاله إلى شعلة من النشاط
الثقافي والعلمي بندواته وتجمعاته ومجلته التي أصبحت منارة ثقافية للبحث الأكاديمي
والإبداع الأدبي، ثم توجته جائزة الدولة التقديرية، وجائز جامعة القاهرة في
التميز.
أما العطاء الفذ لهذا العلم فهو في أستاذيته بكلية
دارالعلوم، وكل الأجيال التي تتلمذت على يديه، تنظر في مؤلفاته بوصفها ذخيرتهم
التي يعتمدونها في مسيرتهم العلمية والثقافية، وأنا واحد من هؤلاء التلاميذ الذين
نهلوا من فيض عطائه العلمي والثقافي، وأشرُف بأن أعترف بأن كثيرًا من إنجازاتي
ودراساتي في الأدب واللغة والثقافة والبلاغة كانت محتكمة إلى كثير من توجيهاته،
وربما كانت أهم هذه التوجيهات: (احترام التراث)، وتنبيهي إلى خطورة المقولة التي
أطلقها بعض الحداثيين من أن (الحداثة قطيعة مع التراث)، وكانت كلمته الأثيرة: (يا
بني): العلم والمعرفة والحضارة والثقافة (تراكم وتواصل) لا قطيعة وانقطاع، كما نبهنى
كثيرا إلى ضرورة الوضوح، والابتعاد عن الغموض والإلغاز، هذه كانت واحدة من الذخائر
التي اغتنمتها من هذا الرجل الإنسان، صاحب العطاء الوافر لأبناء جيلي والأجيال التي
جاءت بعدنا.
أما قمة الإنسانية والوفاء لمسيرته الحياتية والعاطفية
فيمكن أن نطل عليها في إهدائه الناعم الذي قدم به كتابه (دراسة في مصادر الأدب)
الذي صدرت طبعته الأولى عام 1968، يقول فيه:
(إلى راهبة
إلى قلب كبير .. وعقل ذكي .. وسعني ذات يوم .. حين ضاقت
بي الدنيا).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك