السبت، 23 يناير 2016

الطاهر مكى من سواه أحق بالتكريم د. محمد صالح توفيق(*)

أصبح خادمها وسيدها في آن واحد، فهنيئًا له الثروة الفكرية الضخمة التي أودعها عشرات الكتب التي تفخر بها المكتبة العربية، وغرسها فى عقول أجيال من الطلاب تخرجوا على يديه، وانتشروا في أرجاء الوطن العربي وجامعاته، ينشرون ما قبسوه من خلق وعلم.
وأشهد أني ما عرفت أستاذي محبًا للمديح، ولكنني عرفته محبًا للوفاء، ومن باب الوفاء لمن علمني أن أذكر بعض الجوانب الإنسانية والأخلاقية التي لمستها من أستاذي وربما لا يلحظها الشخص العادي، بعد قراءة مقدمة كتابه (دراسة في مصادر الأدب).
الأولى : أوقفنا أستاذنا على حب العرب والعربية بتدريسه لنا آثار السالفين وبخاصة كتابًا (البيان والتبيين) و(الحيوان) للجاحظ وكتاب (الكامل) للمبرد، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والأغاني للأصفهاني والعقد الفريد لابن عبد ربه .... إلخ.
لقد ركز معنا في محاضراته على أن جميع ما جاءت به المدنية الحديثة، وما يتجدد فيها قد سبقهم العرب إليه، لقد رأينا الاتجاه العلمي والثقافي المتميز في عطائه العلمي، فيما جميع من تراث عربي أصيل ممزوجًا بالثقافة الأوربية الحديثة، ولنتدبر عبارته الأولى في المقدمة : «لا أظن أدبًا معاصرًا له من العمر ما للأدب العربي».
وأشهد أن الدكتور الطاهر مكي قدم كتابًا جزيل الفائدة عميم النفع لطلبة الدراسات العليا في أقسام اللغة العربية وآدابها، ينم عن معرفة وثيقة بالتراث اللغوي العربي، وهي التي صانته من الولوع بثقافة الغرب، فقدم فائدة فكرية عربية خالصة، لا يستطيع أن يقدمها إلا أستاذنا الجليل.
ومما يذكر فيحمد لأستاذنا عبارته الرصينة عن التراث العربي، وعبر ألف ونصف ألف من الأعوام لم يتوقف العقل العربي عن الإبداع حتى في أحلك ساعات الأمة العربية، وكانت حصيلة ذلك تراثًا ثقافيًا واسعًا، يعكس حقيقة مجتمعه في سموه واحتضاره، في صعوده وتوقفه" ص8، الطبعة السادسة 1986م.
الثانية : التواضع في محراب العلم فضيلة.
اقرأ معي أيها القارئ العزيز هذه العبارات الرصينة من أستاذ لديه شموخ أدبي وثقافي وفكري قل أن نجد له نظيراً، ولكنه المتواضع فيما يقدم لقرائه، يقول :
-    وقد رأيت أن نشر هذه الدراسة في كتاب يجعل الفائدة منها أكثر شمولا، ويعين الطلاب على ترتيب معلوماتهم، وهي – مهما كانت – جهد شاب مبتدئ، ويضع بين يدي الدارسين والباحثين من طلاب الدراسات العليا – صورة مصغرة لمادة هذه الكتب واتجاهات أصحابها" ص10. هذا الكلام يحتاج إلى محلل نفس لا إلى قارئ مثلى، وأستاذنا يرى أن عمله جهد شاب مبتدئ، يرى أن ما قدمه صورة مصغرة لمادة هذه الكتب. لقد عرف الدكتور الطاهر مكي قراءه على عشرة كتب من عيون التراث العربي، سبعة منها في الأدب العربي بمعناه العام، وقد خرجت من المشرق العربي، وكتابان اثنان خرجا من المغرب العربي، وكتاب واحد هو أقدم ما عرفنا من علم البيلوجرافيا العربية.
-    ومما قاله أستاذنا في الصفحة العاشرة : "لست أزعم لهذه المحاولة الكمال، فهي كأي عمل رائد لها صعابها ومخاطرها، ولكني آمل أن أكون قد بدأت بها خطوة، إذا ما قدر لها أن تصل إلى غايتها ... وما قرأت شيئًا جديدًا إلا أني أحسست أني أجهل الكثير، وأن دون ما أتمناه لنفسي يومًا بعيدًا، ومن ثم فسوف أكون سعيدًا، بأي ملاحظة تعين على تقويم هذا العمل، وإصلاح ما قد يكون بداخله من نقص أو خطأ، أو تسهم في البلوغ به حد الكمال.
لعل أصدق ما يقال عن مثل هذه العبارات هو تواضع العلماء الذين ملأوا الدنيا علمًا وأدبًا، لقد أراد أستاذنا مخاطبة كل طالب علم أو باحث في فروع اللغة العربية وغيرها أن يتصف بالتواضع، وأن يبحث عن العلم في كل لحظة ولا يظن أن العالم بما ألف. ويكفي من يريد التعلم أن يقرأ الكتاب ليدرك تمام الإدراك مبلغ الجهد الذي بذله الدكتور طاهر مكي حتى صار هذا الكتاب موسوعة أدبية حية. ولم يظهر أستاذنا في محاضراته عجبًا بعلمه، ولا استعلى على طلابه بما قدم، وإنما كانت تبدأ محاضراته بالكلمات الطيبة، فكانت المودة هي عنوان علاقة الأستاذ بطلابه، وصار موضع تقديرهم ورعايتهم.
الثالثة : العلم أمانة:
تحدث المؤلف الفاضل عن كتاب (الحيوان) للجاحظ، ولو تركنا دون الإشارة في أعلى الصفحة لما تنبه أحد إلى أن ما قاله ليس من تأليفه، وإنما كان أشار – وهذه أمانة العلماء – إلى أن هذه الدراسة كتبها المستشرق الأسباني ميجيل أسين بلاثيوس، ونشرها في مجلة (إيزيس Isis) مايو 1930، والعدد رقم 43، المجلد الرابع عشر ثم نشرت بعد وفاته في أعماله المختارة، المجلد الثاني الصفحات 29-70، مدريد 1948م. ص190.
هذه هي ثقافة طاهر مكي التي دخل بها ميدان التراث اللغوي العربي، واختار هو من عند نفسه أن ينص على أن ما كتبه عن (الحيوان للجاحظ) ليس من تأليفه، ليعلمنا أن الأمانة العلمية هي أساس النجاح للعالم، وأن شغله الشاغل وهمه الناصب هو إفادة القارئ بإزاحة الثرى عن الخبيء والمدفون من تراثنا اللغوي ولو كانت عن طريق النقل عن المستشرقين بعد الاطلاع الغزير، والتحليل الفذ والتأمل الطويل لما كتبوه عن تراثنا العربى.
ولأستاذنا خصلة تضم إلى سوابقها وهي حرصه على الدخول في المحاضرة مباشرة، ولا يخرج عن موضوعها بذكرى من ذكرياته أو فكاهة كما يفعل بعض الأساتذة، بالإضافة إلى هدوء الطبع في المحاضرة، والجمع بين الحزم والعزيمة في لقاءاته مع طلابه.
الرابعة : الاحترام المقرون بالتقدير والمحبة مع طلابه.
أستاذنا الدكتور الطاهر مكي يعد ثروة قومية درعمية منحه الله روحًا معنوية عالية، مكنته من مضاعفة العطاء لتلاميذه وأراه يقدم لهم ما يقصر مئات الأصحاء، على الرغم من تقدم العمر ووهن الصحة لديه، ولكن على قدر أهل العزم تأتى العزائم بارك الله في عمره وأمده بالصحة والعافية.
أستاذنا صاحب مواقف مأثورة مع كل من عملوا معه وهو وكيل الكلية لشئون الدراسات العليا والبحوث، ولعلي كنت واحدًا محظوظًا من هؤلاء، فقد شرفت بالعمل مع سيادته كعضو كنترول في الدراسات العليا، وأشهد أنه خير الرئيس وخير المعلم لتلاميذه، وخير الناصح الأمين، فقد كان الكنترول في مكتبه وأنا الأمين على الأوراق والمسلم لها لأساتذتي، وفي إحدى الجلسات حاورت أستاذي في شأن الخط العربي وعلاقته بالخط الكنعاني فأفاض علي من علمه، وأهداني كتابه الذي نتحدث عنه وهو دراسة في مصادر الأدب، وتأمل معي الإهداء الذي يكشف لك عن حب الأستاذ لتلميذه وأمنياته له بأن يسير على خطاه كتب "إلى تلميذي العزيز محمد صالح توفيق – مع تمنياتي لك بالتوفيق في حياتك الجامعية والعلمية. الطاهر مكي 21/9/1986" أعود إلى هذا الإهداء بعد ثمانية وعشرين عامًا، إنه الضياء الذي اهتديت به حتى أصبحت عميدًا لدار العلوم، وهذا موقف أتخيره من مواقف كثيرة لن أنساها لأستاذي مدى الحياة.
الخامسة : التنقيح والتجويد لما كتبه.
أستاذنا الدكتور الطاهر مكي لديه عزيمة لا تعرف الخور، ولديه مثابرة على العمل لا يتسرب إليه الملل، ولذلك تراه يراجع ما كتب، ويضيف إليه ما قرأه، ولنقرأ معًا بداية مقدمة الطبعة السادسة، قال : «يجيء كتاب دراسة في مصادر الأدب مع هذه الطبعة جديدًا بكل معنى الكلمة، قليل الصلة بطبعته الأولى التي صدرت منذ ستة عشر عامًا ... ألقيت نظرة على موضوعاته القديمة فنقحت وصوبت ... أما الإضافات الجديدة فتعدل في سعتها حجم الكتاب في أول طبعة له، وتجعل منه في أهميتها شيئًا جديدًا، يأتى على ما سبقه من طبعات». ص5.
وإن تلخيص كلام الطاهر مكي محرج، لأن عباراته المشرقة مما تعز على التلخيص، ولكني أضطر إلى ذلك اضطرارًا في هذا المقام، وأحيل القارئ إلى قراءة نصوص المقدمة كاملة ليضم إلى جانب الإقناع العلمي ناحية التأثير الوجداني.
ويبدو أن التنقيح والتجويد للمؤلفات كانت سمة جيل الطاهر مكي، وهو جيل الجد والتحصيل، جيل لم يرفع عينه عن القراءة ولم يشغله عنها حديث أو ثرثرة لا تفيد، وقد أخلص أستاذنا أيامه للقراءة والتحصيل، ألقى الدنيا خلف ظهره ودبر أذنيه، وخلا إلى الكتاب العربي في فنونه المختلفة بالإضافة إلى الترجمة من الآداب الأجنبية.
وقد يكون من الاستطراد غير البعيد أن أقول : لقد نشأت على إجلال أدب الطاهر مكي وإكباره، إذ كنت تلميذًا له في الفرقة الأولى والثالثة والرابعة، وكنت أقرأ كتبه المقررة بعين المشوق المتطلع، وبعد أن اتسعت ميادين الاطلاع لدي أجد من العسير أن أتفرد وحدي بالحديث عن كتاب (دراسة في مصادر الأدب)، وأجد من الضرورة أن أبعد نفسي عن مطارح الهوى ومنازع العاطفة، وأذكر رأي الأستاذ الدكتور محمد الطناحي – رحمه الله – يقول عن مقدمة الكتاب :
"تحدثت المقدمة الأولى عن تراثنا العربي من الرواية الشفوية إلى التدوين، وقد عالج في تلك المقدمة قضايا في غاية الأهمية، واستطاع بذكاء شديد وإحكام بالغ أن يجمع كل ما قبل عن نشأة الخط العربي، والنقوش العربية التي وصلت إلينا، وأقدم الكتابات الإسلامية وتطور الخط العربي وتاريخ النقط والإعجام، وترتيب الأبجدية العربية عند المشارقة وعند الأندلسيين والمغاربة (مستقبل الثقافة العربية، ص238، دار الهلال مايو 1999).
ثم قال : «وهذه المقدمة التي شغلت تسعين صفحة من الكتاب، من أنفع ما يقدم لطالب في الدراسات العربية، ولو كان لي من الأمر شيء، لجعلتها مقررًا واجبًا على كل طالب في جميع كلياتنا ومعاهدنا المعنية بالدراسات العربية والإسلامية، ليس في الدراسات العليا فقط، ولا في قسم الدراسات الأدبية فقط، ولا في كلية دار العلوم فقط». ص239.
ثم يجمل الدكتور الطناحي أفكاره ورؤيته لما جاء في الكتاب، وهي شهادة الباحث المدقق في التراث والمتتبع للأدب العربي، حيث قال : «والكتاب في جملته سواء في مقدمتيه أو في حديثه عن الكتب العشرة، من خير ما يقدم لطالب الدراسات العربية والإسلامية، فهو أولاً قد سلم من تلك الثرثرة التي يخوض فيها بعض أساتذة الجامعة من الكلام في المنهج العلمي، والصعود والهبوط مع العموميات التي لا يعود الطالب منها بشيء، ثم في طعنهم في التراث واستهانتهم بالعقل العربي وسخريتهم من علومه وأعلامه، دون سند أو حجة إلا المتابعة والإخلاد إلى الراحة، والزعم بالانتصار للموضوعية، والذود عن حماها». ص239-240.
وقد ظهر لي من قراءة كتاب (دراسة في مصادر الأدب) أنه لم ينل حظه من الشيوع، وغفل عنه القراء طويلاً على الرغم من أنه جليل القدر وعظيم النفع، ولا يكفي وجود هذا الكتاب بين جدران الجامعة، فهو يحتاج في نشره إلى قوة الإذاعة المسموعة والمرئية، ومما يجعله ذا أثر قوي، يهز القراء خارج الجامعة، ويحمل الدولة على النظر فيه وأخذ بعض كتبه في مناهجها الدراسية في المدارس.
أستاذنا الدكتور الطاهر مكي له عشرات المؤلفات الأدبية خاصة في الأدب الأندلسى، بالإضافة إلى ترجماته العديدة في مجال الأدب المقارن إلى جانب مئات المقالات المنشورة في مختلف الدراسات العربية والإسلامية في مصر والخارج.

وما أحب أن أختم مقالتي هذه قبل أن أؤكد ما بدأت به حديثي، وهو أن الطاهر مكي يمثل الدرعمي اللغوي السلفي العصري بجمعه التراث دون التقيد بحواشيه وما غرفه من الثقافة الأوروبية دون انبهار بها، بارك الله في عمره وأمده بالصحة والعافية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك