الأحد، 7 أغسطس 2016

استدراك على ما تجاوزه الآخرون! .........عبد المجيد بركات

 ˜ دائرة الحوار:
استدراك على ما تجاوزه الآخرون!

عبد المجيد بركات(*)

إضاءة :
في متابعة نافدة، وعقلية نافذة، وذاكرة واعية، لحظ زميلنا الأستاذ عبد المجيد بركات أن ثمة أشياء تتصل بالزميل المحتفى به تجاوزها الكاتبون، ونحن في حاجة لأن نعرف عنها شيئًا فقرر أن يتوجه بالسؤال عنها للدكتور مكي فرحب بالرد، وكان بينهما هذا الحوار الذي يملأ بعض فجوات من حياته، نحن في حاجة إلى معرفتها (التحرير).
·      في الطفولة تكمن الخميرة الأولى لمسيرة الحياة المتواصلة، فماذا تذكر من خصائص الطفولة التي انعكست خصائصها على حياتك؟
أشياء كثيرة تمتعت بها في طفولتي، أحسب أن كثيرين غيري لم تتح لهم، مردها في المقام الأول اليسر المالي، وفلسفة أبى، وكان رأس العائلة، وموجهها، وتقوم على : ليست مهمة أي عائلة أن يمتد ثراؤها، وإنما إن تعيش حياة طيبة. والجانب الآخر، وهو الأهم، أنني تمتعت بقدر من الحرية في اختيار نوع حياتي، على نحو لم يتح لغيري، ولأن والدتي توفيت وأنا في الخامسة تقريبًا. فيما أذكر. وتزوج أبى للمرة الثانية بعد وفاتها بسنتين، من قرية مجاورة، وكان يسكن في بيت مستقل عن العائلة، فقد أتهم – ولم يكن ذلك حقًا – بكراهيتنا، إذ لم يكن يعنيه أن نكون على مقربة منه، بقدر ما كان يرضيه أن أكون حيث أحب.
وكان لذلك أبلغ الأثر في اختيار طريق دراستي فقد رفضت بقوة أن التحق بمدرسة المعلمين الأولية في قنا، لينتهي بى المطاف مدرسًا إلزاميًا في مدرسة القرية. وفضلت – بل وأصررت – أن التحق بالأزهر، وكان أقرب معهد أزهري إلى قريتي في أسيوط، عاصمة المديرية، وكانت المسافة بينهما بالقطار قرابة ثماني ساعات!
ثم شاء الحظ حين واتت لحظة التقديم أن ينشأ معهد أزهري جديد في قنا عاصمة المديرية. فقربت المسافة إلى النصف تقريبًا. وحصلت على الشهادة الابتدائية من معهد قنا، وفى هذا المعهد تعرفت على الشيخ محمد كامل عجلان، وكان قد عُين حديثًا، ومن خريجي كلية اللغة العربية، وكان أديبًا وصحفيًا.
وتوسم في الشيخ عجلان خيرًا أديبًا، فسألني: ما الذي يبقيك في هذه القرية الكبيرة المتواضعة، مكانك القاهرة!
الأمر ليس سهلاً!، ومع ذلك سأحاول. وحاولت، وبمجرد إبداء الرغبة، وافق والدي، ومع ذلك، كانت دون ذلك أهوال مردها واقع الأزهر نفسهّ!
كان ذلك عام 1944 : الوزارة وفدية، وعلى خلاف شديد مع شيخ الأزهر محمد مصطفى المراعى، والمظاهرات والإضرابات تجتاح كل المعاهد والكليات على امتداد القطر المصري كله الطلاب مع شيخ الأزهر، وضد الحكومة، والعلماء.
وهو أمر بدهي، مع الحكومة، وضد الإضراب والمظاهرات. وكان شيخ معهد القاهرة، وهو المعهد الذي سوف اتجه إليه الشيخ سليمان نوار حاسمًا، فقرر نقل جميع الطلاب الصعايدة في معهد القاهرة إلى معاهد في بلادهم، وعدم قبول طلاب جدد، وأجمع كل طلاب الكليات من قريتي المتجهون إلى القاهرة، والذين كنت في رفقتهم، ألا أمل فيما أطمح فيه إطلاقًا.
ونحن على المحطة ننتظر القطار المتجه إلى القاهرة، جاءت الأخبار بسقوط الوزارة الوفدية، وعودة الشيخ المراغى – وأنصاره – إلى مكاتبهم، وحُلت المشكلة، وعندما وصلت القاهرة، اتجهت إلى المعهد مباشرة، وتقدمت بطلب نقلى، وكان يدير العمل، الشيخ عبد الآخر، وهو وكيل المعهد، واصلاً من طهطا، فأشر عليه في الحال : "يقبل ويرسل إلى معهد قنا لكن يوافى معهد القاهرة بملفه"، وهكذا أصبحت رسميًا طالبًا في معهد القاهرة.
وكان هذا الانتقال نقطة فارقة، بعيدة الأثر، بمجرد أن وضعت قدمي بها في تاريخ حياتي!
·      يحتاج الإنسان في عصرنا الحاضر أن يجمع بين الدراسة المحلية والعالمية، فبماذا تنصح الجيل الصاعد في الكليات الجامعية أو في مجالات أخرى؟
لا تختلف الحاجة إلى الثقافة العالمية في جيلي عنها في أيامنا هذه، ما اختلف هو الدافع فحسب. على أيامنا شبانًا كان المطلوب الثقافة نفسها، المطلوب الآن، وبإلحاح التواصل الاجتماعي، وقد لا يكون ثقافيًا، وإنما لكسر العزلة، ولمجرد التسلية، والتسلية سم الثقافة، ولهذا تنتشر "الشبكة العنكبوتية" بألوانها المختلفة، والهواتف المحمولة في أحجامها المتفاوتة، وقدراتها الفنية العالية، وكلها تهدف إلى كسر حدة الزمن، والتلاقي السريع في الخير والشر، والنافع والضار.
في جيلي كانت الغاية الأخذ من ثقافة الآخرين بأوفر نصيب، وكان خريجو الجامعة الممتازون، أيًا كان تخصصهم، أقصى ما يطمحون إليه بعد تخرجهم أن يبتعثوا إلى البلاد التي تحظى بسمعة علمية رفيعة في مجال تخصصهم. وكانت دار العلوم المدرسة، ثم الكلية، ترسل أوائل الخريجين جميعًا لكي يتلقوا مزيدًا من العلم في الخارج، ولم يكن ضروريًا أن يحصلوا على درجة الدكتوراه.
وإن حازها أغلبهم، وإنما كان ضروريًا إلى حد كبير أن يجيدوا لغة البلد الذي أرسلوا إليه، وأن يتعرفوا إلى مصادر التقدم فيه بأنفسهم.
·      هل ترى أن هذا وراء دور دار العلوم في تجديد اللغة العربية بفروعها، وارتفاع مستوى المعلمين من أبنائها؟
لا أشك في هذا، ويكفى أن تلقى نظرة إلى هؤلاء الأعلام، مثلاً وليس على سبيل الإحصاء: إبراهيم أنيس وما قام به في تحديث فقه اللغة، وعلى عبد الوافي وتأصيله علم الاجتماع في مصر.
وإنشاء أول قسم له في كلية الآداب، ومحمود قاسم وتحديث مناهج البحث وعلم المنطق الحديث وأبو العلا عفيفي والفلسفة الإسلامية، ومحمد على مصطفى وبناء قواعد التربية الحديثة، وعلى الجارم وتجديد دراسة قواعد النحو والبلاغة للناشئة، وهكذا بقية فروع العربية والعلوم الإسلامية.
·      للأستاذ الجامعي، في حرصه على توجيه طلابه، أثر كبير في صقل مواهبهم، والكشف عن مميزاتهم. ما الخبرة التي اكتسبتها في هذا المجال؟
خلال الدراسة التمهيدية للماجستير يتعرف الطلاب إلى أساتذتهم عن قرب، لمعرفة ما عندهم، وما يمكن أن يقدموه لهم، ليس علميًا فحسب، وإنما إنسانيًا قبل ذلك. إن كلمة تشجيع تجئ في وقتها تدفع بالطالب إلى الأمام، وتشد من أزره في بحثه، كما أن التعامل معهم باحترام، وتقدير آرائهم وأفكارهم، يشعرهم باحترام ذواتهم، وهو ما يرضيهم، ويطلبونه، قبل علم الأستاذ نفسه، لأن هذا في مؤلفاته، وهذه في المكتبة، ميسرة لمن يريد. ذلك منهجي، حرصت عليه امتداد حياتي وأحسب أنه من أوليات ما قرّب طلابي إلى وحببهم في شخصي أستاذًا.
·      ما صدى دراساتك النقدية، ومؤلفاتك المتنوعة، وأبحاثك المختلفة في الحياة العلمية في مصر والعالم العربي؟
درجت منذ البداية على احترام القارئ وأن آخذ أموري في التأليف والبحث بجدية، وأن أعطيها حقها من العناية، في الكتابة والمعاودة والمراجعة، حتى اطمئن إلى أنها سوف تقنع قارئها، ولم يخيب لي قارئ رجاءً في هذا.
أول كتاب ألفته "امرؤ القيس" صدرت طبعته الأولى عام 1968، تجاوزت طبعاته حتى الآن الثلاثين، غير ما سرقه الوراقون، وفيه جاء جهدي واضحًا، ومنهجي جديدًا لم أسبق إليه. وكتابي "دراسة في مصادر الأدب" وصدر في العام نفسه، يعود إليه طلاب الدراسات العليا في كل الكليات الأدبية، على امتداد العالم العربي كله، ويعاد طبعه سنويًا تقريبًا، ودعا زميلنا المحقق الفاضل المرحوم محمود الطناحى في مقال كتبه في مجلة الهلال إلى تقرير هذا الكتاب على كل أقسام اللغات العربية في الكليات الأدبية لفائدته غير المحدودة لطلابها.
وكتابي "الشعر العربي المعاصر: روائعه ومدخل لقراءته" نفدت طبعته الثامنة في مصر تمامًا، وتعاد طباعته سنويًا في المملكة العربية السعودية، ومثله – بالمحاذاة – كتاب "القصة القصيرة: تأريخًا وتنظيرًا وإبداعًا"، "والأدب المقارن: أصوله وتاريخه ومناهجه وتطوره". وكذلك بقية الكتب.
ويشغلني الجديد فيها عن معاودة النظر فيها مرة أخرى.
·      لمجمع اللغة رسالة في النهوض بمستقبل اللغة العربية وتطويرها لمواجهة التحديات الخطيرة التي تواجهها، ما الدور الذي قام به المجمع للنهوض بهذه المهمة؟
المجمع جزء من مصر، وجهده صورة لما تقوم به في بقية أنشطتها، وهى جد متعثرة، ويصعب أن تتعثر الحركة في جوانب، وتنشط في جانب واحد، ومن ثم فإن الدور الذي يجب أن يقوم به المجمع لا يجئ على النحو الذي نتمنى، ويحتاج إلى هزة قوية تسقط ما هو ضعيف، وتأتى بما هو مثمر قوى!
·      يقول الشاعر الكبير الأستاذ فاروق شوشة في تقديمه لكم لإلقاء رثاء د. أبو همام الذي عقد بمجمع اللغة العربية الآن سنستمع كلمة المجمع يلقيها على حضرتكم "عمدة الدارسين الأندلسيين" ماذا يعنى بهذا التعبير، وماذا قدمتم في هذا المجال؟
أحسب أنه أراد أن يقرر واقعًا لا ينازعه فيه أحد. فأنا بين الذين درسوا في إسبانيا الأكثر ترجمة من لغتها إلى العربية، والكتابة فيما اتصل بأدبها في جوانبه المختلفة، لم أصمت، ولما أتوقف، وأرى أن الأندلس تاريخًا وإبداعًا لما تزل بعيدة عن العناية بها في جامعاتنا، ويؤخذ هامشًا محدودًا في الوقت المخصص لدراسة الأدب العباسي، حتى أن أحد كبار مؤرخي الأدب العربي، حين تحدث عن مرسية، ذكر أنها تقع على شاطئ البحر الأبيض، وذلك خطأ كبير، لأنه لا صلة لها بالبحر الأبيض من قريب أو بعيد، وناقد آخر حين قرأ أن المنصور بن أبى عامر توفى أثناء صوائفه في ثغر مدينة سالم فحدد موقعها على نهر، مع أنها تتوسط شمال إسبانيا، ولا تقع على أي مياه، متصورًا أن كلمة ثغر في الأندلس تعنى ميناء، وليس بذلك، فكلمة "ثغر" في عربية الأندلس، تعنى "مدينة" على الحدود، حتى ولو كانت تحيط بها الجبال والمرتفعات من كل النواحي، أو تحاصرها المياه من جميع الجهات.
·  صدر كتابان هدية من مجلة الأزهر هذا العام، بقلم العالم الجليل الأستاذ الدكتور محمد عمارة، أحدهما بعنوان: د. طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام، والثاني بعنوان : دفاعًا عن القرآن ضد منتقديه للدكتور عبد الرحمن بدوى، ما رأيك في هذين الكاتبين، من خلال هذين الكتابين وتغير موقفهما، ودلالة ذلك على مسيرة بعض العلماء؟
يكتب المبدع مستجيبًا لوجدانه وانفعاله، ومن ثم يجئ نتاجه هذا متأثرًا بالمناخ الاجتماعي والسياسي والنفسي الذي يحيط به لحظة الإبداع، حدة وهدوءًا، وارتفاعًا وهبوطًا، سلبًا وإيجابًا، وحدث هذا لمعظم المثقفين والمفكرين في أمتنا العربية، خاصة إذا أدركنا أن حقائق الأحداث قلما تُعرف على حقيقتها لحظة وقوعها وتأثيرها في الآخرين، وما أكثر ما تعبث بها أجهزة الإعلام، وأصبح علمًا ذا أمكنة رهيبة، وهى قادرة على أن تقدم للجمهور الخائن بطلاً، أو العكس، ولا تتضح الحقيقة إلا بعد زمن قد يطول، أو لا تظهر أبدًا، ويصبح المثقف أو المفكر، أو الدارس ضحية هذا الخداع، والجهل بحقيقة ما جرى. وحين تظهر الحقيقة، وتصبح متاحة للجميع، وتستخدم المناهج العلمية في دراستها، تأتى النتائج متطابقة، أو على الأقل متقاربة، وتجلى هذا واضحًا في دراسة أ. د. محمد عمارة الرائعة لطه حسين وعبد الرحمن بدوى لأنهم قمم مرتفعة، ومستهدفة، ولم يحدث لآخرين ممن هم أدنى قامة، من غمار المفكرين الضائعين في غبار التاريخ.
·  ما سر اهتمامك بالشعر العربي العريق، وخصائصه الموروثة، من وزن وقافية، ورفضك ألوان الشعر الحديثة، مما يطلق عليه اسم الشعر الحر، أو شعر التفعيلة، أو غيرها من مسميات؟
بدءًا، أنا لا أرفض ولا أرتضى اعتباطًا، وإنما أدعو إلى احترام المصطلحات البلاغية والنقدية، التي مر على احترامها وتقديرها أكثر من ألف ونصف من السنين، وهذا ما حدث عبر التاريخ.
حين خرج الأندلسيون في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، على البناء الشعري المتوارث سموا الجديد موشحًا، ومبدعه وشاحًا، وحين كتبوا هذا بعاميتهم، سموه زجلاً، ومبدعه زجالاً، ويعترف ابن قزمان الأندلسي، المتوفى 555هـ = 1160م وهو أعظم زجال أندلسي، ووصلنا ديوان زجله كاملاً : أنه حاول أن يجد له مكانًا بين كبار الشعراء فلم يستطع، وصنع الشيء نفسه بين الوشاحين أيضًا، ولكنه فشل أيضًا، فاتجه إلى الزجل، وفاق فيه الجميع، وأصبح عميد الزجالين، شرقًا وغربًا.
أما الآن، فاختلط الأمر، إذا كان بلوغ القمة في النثر أمر صعب، ولو في العامية، فليكونوا إذن جميعًا شعراء، مهما يكن مستواهم، وفى تصورهم أن مجرد رفع راية الشعر كفيل بأن يجعلهم من زمرة الخالدين. وجهلوا بأن الشعر مجال، والنثر مجال آخر، والخلود يوجد في الأمرين، الجاحظ أعظم من المتنبي وأشهر، والمعرى ناثرًا أوسع شهرة منه شاعرًا، وكان المنفلوطي في عصرنا، ولا يزال أوسع شهرة وانتشارًا وقراءة من شوقي أمير الشعراء، وبصماته أوضح تأثيرًا في جيله وما بعده، من أي شاعر آخر على أيامه، ونجيب محفوظ في نثره يفوق أي شاعر عربي، على امتداد تاريخ العربية. وبداهة التفوق في النثر يحتاج إلى مواهب أحد، وجهد أعظم، وثقافة أوسع.
ثم، وسط هذا الضباب الذي يلف حياتنا الثقافية الآن، أشم رائحة شيء أشد خطرًا، وهو أن المستهدف ليس الشعر، وإنما اللغة العربية نفسها، لدى الشجاعة لأقول : وليست هذه غاية في ذاتها، وإنما الذي تحمله، وذلك على المدى البعيد : ببساطة الإسلام هو المستهدف الأخير، أكد هذا عندي أنك تجد أشد الداعين حماسة في حملتهم لهدم هذا الشعر العريق ينتمون في جملتهم إلى الأقليات العرقية أو الدينية أو اللغوية على امتداد العالم العربي شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا. وبداهة ثمة مغفلون يمشون وراءهم تأييدًا، أو حتى يسبقونهم دون أن يدركوا هذه الغايات البعيدة.
في بداية الحقبة الناصرية كان التنافس بين الإسلام والمسيحية شديدًا في أفريقيا ما بعد خط الاستواء، وكان الإسلام متفوقًا في تقدمه، وتدارس الفاتيكان الأمر علميًا في أكثر من مؤتمر، وانتهى إلى أن ما وراء ذلك أسباب لابد من إزالتها، منها:
·   فك الارتباط بين الاستعمار الأوروبي لأفريقيا ورجال الدين الذين صحبوه، أو سبقوه ومهدوا له، وذلك بتعيين رؤساء للكنائس الأفريقية من السود على أن يكونوا من الدرجات العليا، وهو ما حدث فعلاً.
·   غض النظر عن الأمور التي تتعارض مع مبادئ الكنيسة، ولكنها شائعة ومقبولة عرفًا بين الأفارقة، مثل تعدد الزوجات وكثرة الزواج والطلاق.
·       السماح لرجال الدين الأفارقة بأن يؤدى القداس بلغاتهم المحلية بدل اللاتينية، وهى غير معروفة لأحد بأي قدر.
·   تبين لهم من دراساتهم، أن الذين لا يحفظون القرآن، أو لا يقرأونه بالعربية تنصيرهم أسهل من غيرهم – فتقرر – على المدى البعيد – أن يأتي الاتجاه إلى محاربة اللغة العربية في المقدمة، وأن يسبق هذا حركة التنصير، وطبق هذا على نحو واسع في نيجيريا : كانت العربية لغتها الرسمية في التعليم والقضاء والاقتصاد، وكانت لغتها الوطنية "الهوسة"، تكتب بالحرف العربي، وكان ذلك سائدًا إلى أن احتلها الإنجليز، فغيروا كل شيء، حلت الإنجليزية محل العربية، وحل الحرف اللاتيني محل العربي في كتابه "الهوسة"، والأثر العربي الذي لا يزال قائمًا هو حرص المسلمين في الشمال على أن يحفظ أبناؤهم القرآن الكريم باللغة العربية رغم كل الضواغط والصعوبات.
·   والحرف العربي مرشح الآن للمحو تمامًا في الصومال، رغم أنها عضو في الجامعة العربية، وفى إريتريا وتشاد، ونحن نائمون: صفوة مثقفة، وجامعة عربية، ومجمعًا لغويًا، وأزهرًا شريفًا وآخرين لا ضير عليك إن تجاوزتهم في نظرك، وأسقطتهم عند الحساب!
·      حظي ابن حزم الأندلسي باهتمامك، وريادتك لدراسته، حبذا لو ألقيت مزيدًا من الضوء على هذا المفكر الإسلامي القدير؟
في الفترة التي أمضيتها طالبًا في دار العلوم (1948 – 1952)، لم ندرس أي شيء يلقى شيئًا من الضوء على الأندلس. كان الأدب الأندلسي يدرس على أنه جزء من الأدب العباسي، ودراسة هذا مستقرة، وواضحة علماء ومؤلفات ومصادر، فأهمل الجزء الخاص بالأدب الأندلسي تمامًا. ولم تكن الحال في التاريخ بأفضل منها في الأدب، وانحصرت دراستنا له في جزء خاص به من كتاب "تاريخ العرب"، وهو كتاب رائع ولكنه ذو طبيعة خاصة، ألفه فيليب خوري حتى، ماروني لبناني، استوطن الولايات المتحدة، وعمل في جامعاتها، وخلال الحرب العالمية الثانية احتاجت الدولة إلى كتاب يعرف بالعرب باللغة الإنجليزية، يدرسه الجنود والضباط الأمريكيون الذاهبون إلى الشرق الأوسط والدول العربية، شمل كل التاريخ العربي، وركز مؤلفه لحسن الحظ، وهو الجانب الرائع في الكتاب على الحضارة العربية، وراج الكتاب في اللغات الأجنبية، وترجمه أستاذنا محمد مبروك نافع، وهو في بغداد، معار للعمل بدار المعلمين العليا هناك، وعندما عاد إلى مصر كان يدرس لنا في دار العلوم الجزء الخاص بالأندلس منه، وكان موجزًا للغاية ولم يكن الحال خارج دار العلوم بأفضل منه داخلها.
حين أخذت طريقي إلى مكتب إميليو غرسية غومث في مدرسة الدراسات العربية في مدريد ذات مساء من عام 1957م، لأتحدث إليه في موضوع الدكتوراه، كانت كل حصيلتي عن الأندلس فيما أذكر لا تتجاوز كتاب "الحلل السندسية في الأخبار الأندلسية" لشكيب أرسلان، وهى صفحات منقولة نصًا من كتب عربية مختلفة، أو نصوص مترجمة عن الفرنسية بلا منهج ولا ترتيب. وبدأ يسألني عما أعرف عن الأندلس، وكان سؤاله الأول عن : طوق الحمامة لابن حزم، وكنت أسمع باسم الكتاب وصاحبه للمرة الأولى، فانكمش زهوي في أعماقي، وأخذ يزداد انكماشًا مع كل سؤال، وبدأت اكتب وراءه المصادر التي يمليها على : "أقرأ هذه المصادر كلها وعد إلى بعد عام".
خرجت من عنده حزينًا أكاد أبكى من جهلي، وفى هذا اليوم استقر ابن حزم في أعماقي، ولم يتسع لي الوقت لأدرسه كما أتمنى، ومع ذلك وجدت قليلاً من الوقت لأكون أول من يكتب عنه في العربية بمنهج حديث.
·  يعد الدكتور غنيمي هلال رائدًا للدراسة المقارنة في العالم العربي. فما الجديد الذي أتيت لتضيف إلى تلك الدراسة ما يجلو بعض الجوانب التي لم ترد في كتاب الدكتور غنيمي هلال؟
ابتعث الدكتور غنيمي هلال من دار العلوم إلى فرنسا ليتخصص في دراسة الأدب المقارن، وعندما عاد ألف أول كتاب علمي فيه، والذين جاءوا بعده، فيما أرى كلهم عالة عليه، ينقلون عنه، ويسطون على ما كتب (ويشتمونه!)، ولكن الأدب المقارن علم حديث، الجديد فيه لا يتوقف، فأكملت ما سكت عنه، أوجد بعد كتابه، وهو أربعة أمور مهمة فيما أرى:
·       دور العرب في التمهيد لهذا العلم، واستخدامهم له، وإن لم يقعوا على المصطلح.
·   ما جد في العالم من مدارس حديثة أخذت وجهات مختلفة، وأوضحها المدرسة الأمريكية، وأزعم أن أحدًا لم يكتب عنها حرفًا واحدًا قبلي في اللغة العربية.
·       محاول التأريخ لمسيرة هذا العلم في الآداب المختلفة دون الوقوف عند فرنسا وحدها.
·       أن تتجه دراستنا التطبيقية إلى محاولة الخروج عن دراسة ماذا أعطتنا أوربا إلى دائرة وماذا أعطيناها نحن.
·       تذخر مكتبتك بألوان من المعارف التي تعتمد عليها، ما أهم المراجع التي تعود إليها عند تأليف كتبك؟
كل كتاب يفرض مصادره، وتختلف أزمان تأليف الكتاب، بعضها مقالات مجموعة، وبعضها استغرق سنوات طويلة، وحرر في أمكنة مختلفة، "الأدب المقارن" شغل من عمري خمسة عشر عامًا، أمضيت بعضها في مصر، وبعضها في الجزائر، وآخر مترددًا بين فرنسا وإسبانيا والمغرب، ويصعب على الآن أن استرجع أسماء هذه المصادر.
·  نادرًا ما يجمع الإنسان بين التألق في الجامعة وفى الصحافة، وقد وهبك الله قدرة في هذين المجالين ما أثر كلاً منهما في الآخر؟
العلاقة بينهما جدلية، كلاهما أخذ وأعطى، أفدت من الصحافة أشياء وكان ذلك على حساب جوانب جدية، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الجامعة، أعطتني الكثير، ولكنها قيدت نشاطي في أشياء أخرى كثيرة أيضًا.
كان يمكن مثلاً أن أكون قصاصًا أور روائيًا، أو مسرحيًا، ومارست شيئًا من هذا في صباي، ولكنى لم أواصل المسيرة.
·  حياتك زاخرة بألوان من الحوادث والمعارف والنوادر المتنوعة، نتمنى أن تسجل تاريخ حياتك، مع حرصنا الشديد على ذلك، وأن يكون قريبًا؟
كثيرون يتمنون، ويلحون على، وأنا أتمنى، وأرجو أن يوفقني الله لذلك. على أن تجئ شيئًا مفيدًا، وليس مجرد إدعاءات لا شاهد عليها.
معذرة إذا كنت قد أطلت فيما لا يحتاج إلى إطالة، وقصرت فيما هو في حاجة إلى إطناب!
·   تسألني عن تعريب رسالة الدكتوراة التي تقدمت بها لويز إرمين عن : دار العلوم وخريجيها ودورهم في تحديث الثقافة واللغة والتعليم في مصر الحديثة (1872 – 1923م)؟
الحق أن وراء هذا التعريب عدة أهداف أتيت على بعضها في مقدمة الكتاب، أهمها : إبراز الدور الذي قامت به دار العلوم في هذه الجوانب الثلاثة، ولما يدرس منها أي جانب بعد، من طرف محايد، رغم أهميتها، والإفادة من هذه الدراسة والملاحظات الواردة فيها، الإيجابية والسلبية، والعمل على تطوير المناهج في دار العلوم، لأنها جمدت، ولم يصبها أي تطور في ربع القرن الأخير.
وتقديم نموذج متميز للدراسات العليا في الجامعات الأمريكية : القضايا التي تدرس، والمناهج التي تتبع، وطرق التوثيق التي تستخدم. وهى ليست الدراسة الوحيدة، فهناك باحثة أمريكية أخرى تعد رسالتها للدكتوراه الآن في جامعة أكسفورد الشهيرة، وتتناول بالدرس جوانب تختلف، وزمنًا أطول، مما درست الدكتورة إرمين، وأتمنى حين تنتهي منها، وتجاز، أن تجد بين أبناء دار العلوم من ينقلها إلى العربية أيضًا.
·      حدثنا عن الجوائز التي حصلت عليها؟
هناك نوعان من الجوائز : جوائز وزارة الثقافة، وجوائز الجامعة.
وأبادر قبل أن أعرض لهما فأقرر إجمالاً: ليس لأي جائزة قيمة في حياتي، وليس من أهدافي الحصول عليها. ولكن الملابسات التي أحاطت بحصولي على جائزة الدولة التقديرية جعلتني أعتز بها دائمًا. في هذا العام رشحني قسم النحو في كلية دار العلوم، وكان يرأسه العالم الجليل أ.د. محمد عيد لهذه الجائزة، ولم أحضر اجتماع قسم الدراسات الأدبية الذي أعمل فيه، لسبب لا أتذكره، فرشحني رئيس القسم أ. د. صلاح الهادي لهذه الجائزة، ولكن أ. د. محمد موافى، أصر على ترشيح أستاذنا الدكتور على الجندي لأنه أقدم، وكانت وجهة نظر القسم أن الدكتور على الجندي رشح في العام السابق، ولكنه لم ينل في مجلس الجامعة غير صوت واحد، وكان شيئًا مخجلاً، ومع ذلك أصر الدكتور موافي أن يرشح مرة أخرى، وحلاً للمشكلة رأى رئيس قسم الدراسات الأدبية أن يرشح القسم كلانا، ويترك لمجلس الكلية القول الفصل في الاختيار.
في مجلس الكلية، ولم أكن عضوًا فيه، كان المرشحون على النحو التالي : كمال بشر، ورشحه قسم فقه اللغة، وبدوى طبانة، ورشحه قسم البلاغة، وعلى الجندي ورشحه الدراسات الأدبية، والطاهر مكي ورشحه قسما النحو والدراسات الأدبية. وتم الاقتراع على اختيار من يرشح للجامعة سرًا، فكانت النتيجة: 8 أصوات لطاهر مكي، و3 أصوات لكمال بشر، وصوتان لعلى الجندي، وأرسلت النتيجة لمجلس جامعة القاهرة. ولأمر ما تجاهلت أمرين مهمين: لم ترفق بالقرار المبررات التي تدعم بها الترشيح، ولم تطلب منى سيرتي العلمية لإرفاقها به كما جرت العادة بذلك، وكنت أنا أجهل كلا الأمرين.
المفاجأة في مجلس جامعة القاهرة كانت أقوى : آداب القاهرة رشحت الدكتور محمود على مكي، ورشحت كلية التربية في الفيوم، وكانت تتبع جامعة القاهرة أستاذنا الدكتور تمام حسان وكلاهما عالم جليل، وكنت الثالث مرشحًا من دار العلوم، وأرفقت آداب القاهرة بترشيح الدكتور محمود على مكي سيرته الذاتية في أكثر من 60 صفحة، وسيرة الدكتور تمام على نحو أقل، وأنا ولا سطر واحد. وكانت نتيجة الانتخاب على النحو التالي نال طاهر مكي 34 صوتًا، ومحمود على مكي 5 أصوات، وتمام حسان 4 أصوات، وكان لهذا دوى مرتفع، فكلا العالمين يتمتع بسمعة جيدة، وخاصة الدكتور محمود مكي، وكان التقارب في الأسماء، والتشابه في التخصص، والوحدة في الموطن، يعطى بعض الزملاء الفرصة لتشويه سمعتي أحيانًا، والتقليل من شأني أحيانًا أخرى : إذا أصابني خير قالوا إن المقصود محمود مكي، وذهبت إليّ خطأ، وإذا كانت شرًا وأصاب الدكتور محمود قالوا إن المقصود طاهر مكي، ولكنها أخطأت الطريق إلى محمود. أما في هذه المرة فلم يكن ثمة مجال لإدعاء الخطأ، فالمنافسة بيننا علانية، وفى مواجهة رسمية، وفزت بنسبة عالية.
بعد ظهور النتيجة تلقيت أول تهنئة هاتفية من أستاذنا محمد خلف الله أحمد، ولما قلت له إن النتيجة لما تحسم بعد، فهناك المجلس الأعلى للثقافة، رد على : عندما يرشح مجلس جامعة القاهرة، وهم أربعون قمة علمية، على أعلى مستوى في كل التخصصات، فقد نلت الجائزة أدبيًا، المجلس الأعلى للثقافة يدفع "الفلوس" وهى رزق مقدر لا صلة له بالتقدير العلمي.
واعترف بأن هذا التفسير أشاع الرضا في داخلي.
وأرسلت الجامعة الترشيح للمجلس الأعلى للثقافة، ماذا أرسلت معه، وبماذا أوصت؟
لا أدرى! لكن مجموعة من طلابي، وأصدقائي جاءوني في بيتي، ومعهم قائمة بأعضاء هذا المجلس، يريدون أن يتدارسوا الأمر معي، وأن يوزعوا أنفسهم على من يعرفون من أعضائه، يعرفونهم بي، ويدعونهم إلى اختباري.
ابتسمت، وقلت : بهذه الطريقة تتحول من جائزة تقدير إلى جائزة تسول! شكرًا لمشاعركم، من يصنع شيئًا كهذا، مهما كانت صلته بعضو المجلس يسئ إلى. التقدير – كما أفهمه – أن يجئ من يطرق بابك، على غير طلب منك، ويقول لك: شكرًا لقد أديت واجبك!
وانتظرت النتيجة كغيري، وكان أملى في الفوز معدومًا، قياسًا على سوابق الأعوام الماضية، رغم أن الفساد لم يكن قد اجتاح وزارة الثقافة، وحولها إلى مستنقع، كما حدث فيما بعد.
مرة أخرى، جاءت النتيجة مذهلة، وغير متوقعة!
أثناء اجتماع المجلس، حوالي الساعة الثانية ظهرًا، اتصل بي هاتفيًا الدكتور ناصر الأنصاري، ولم تكن لي به سابق معرفة شخصية، وقدم لي التهنئة بنيل الجائزة، لم أصدق، وسألته : هل أنت متأكد؟ أنا لا أعرف أحدًا في المجلس، ورد: ليس هذا مهمًا، فكلهم قرأ لك شيئًا مما تكتب، واحتفظ لك بالتقدير، وجاءت لحظة التعبير عنه!
في المساء، أعلن فاروق حسنى وزير الثقافة النتيجة، وكان حديث عهد بالوزارة، وقوبل عند اختياره باعتراض شديد من جانب كبار المثقفين، خاصة جماعة "عبده المشتاق"، وكان تتهمه في سلوكه، وإزاء قسوة الاتهام وشيوعه، اضطر عاطف صدقي أن يدافع عن نفسه، فذكر أنه لم يكن المرشح الوحيد، وإنما كان ترتيبه السادس، والأخير، فيمن تقدم بهم إلى رئاسة الجمهورية، وأن حسنى مبارك هو الذي اختاره شخصيًا.
كانت المفاجأة الأولى انسحاب الدكتور إسماعيل صبري عضو المجلس احتجاجًا على ترشح عاطف صدقي رئيس الوزراء لإحدى الجوائز، والدكتور فتحي سرور رئيس مجلس الشعب لجائزة أخرى، وكلاهما يشغل منصبًا يجعل من المستحيل تحقيق العدالة في الحكم بينه وبين الآخرين.
وتقدم الوزير ليعلن أسماء الفائزين بجائزة الدولة التقديرية مرتبين بحسب الأصوات التي حصلوا عليها، فبدأ بالدكتور عاطف صدقي رئيس الوزراء، وحصل من التصويت الأول على 30 صوتًا، والطاهر أحمد مكي، وجردني من لقبي العلمي على 31 صوتًا، وارتبك وهو يقرأ الرقم، يبدو أنه فوجئ به، ولم يكن يتصور أن ينال أحد أصواتًا أكثر من رئيس الوزراء!، والدكتور فتحي سرور ونال في التصويت الثاني 28، والدكتور علي لطفي رئيس الوزراء الأسبق، ونال في التصويت الثالث 26، وهذا الرقم هو الحد الأدنى، من يقل عنه لا ينجح.
وكان هذا آخر عهدي بالجوائز، فقد أتيح لي أن أسهم بجهد قليل في لجان وزارة الثقافة، وأدركت الكثير من أسرارها، مما أدى إلى اعتزالي كل شيء، وانتهى الحال بسقوط الجوائز نفسها، تدر شيئًا من المال، ولكنها لا تعنى شيئًا من التقدير، حتى أن أحد أمناء المجلس الأعلى اللامعين لم يجد حرجًا في أن يحصل على جائزة معمر القذافي في أسوأ لحظات حكمه، وأن يذهب إلى طرابلس – ليبيا في طائرة خاصة تقله وكوكبة من أتباعه وصبيانه، وشاء الله أن يفضحهم جميعًا فأسقط الثائرون في البلد الشقيق، حكم هذا الطاغية بعد قليل، وانتهى به الحال، هو وجوائزه ومن نالوها إلى مزبلة التاريخ!
·      تعريبك أطروحة الدكتورة لويز أرمين أروين عن : "التعليم واللغة والثقافة في مصر الحديثة (1872 – 1923) ودور دار العلوم وخريجيها في تحديثها" خدمة كريمة للكلية، وتطلب بالتأكيد جهدًا كبيرًا لضخامة الرسالة، ماذا وراء هذا العمل؟
أنا أدين في ثقافتي وتطوري الفكري والأدبي لأمرين، لولاهما لما كنت شيئًا على الإطلاق : دار العلوم وإسبانيا.
في دار العلوم وجدت مناهج حديثة، وعلماء جادين في النحو والصرف والأدب والنقد، والفلسفة والاجتماع. كان هذا العلم الأخير جديدًا علينا، وعلى المنطقة العربية بأكملها، من أوله إلى آخره. كان أستاذنا الدكتور على عبد الواحد وافى : يحاضرنا في نشأة هذا العلم، وتاريخه ومناهجه – وكان حديثًا من نتاج آخر القرن الثامن عشر – وندرس معه أربعة كتب تتناول أهم قضاياه، ألفها الدكتور وافى نفسه، في لغة سهلة، وأسلوب مبسط وهى : اللغة والمجتمع، والمسئولية والجزاء والاقتصاد السياسي، والأسرة والمجتمع، ولازلت احتفظ بهذه الكتب، لم تفقد شيئًا من بريقها وأهميتها، وأعود إليها من حين إلى آخر.
أما إسبانيا فإليها يعود الفضل في الفوز بالبعثة التي كنت أحلم بها، فهي مقدمة منها، وربما لولا المستشار الثقافي الإسباني في القاهرة، وكان عضوًا في لجنة الاختيار لذهبت لغيري، ولكن ما إن ترجم له العارفون بالإسبانية أنني حاصل على شهادتي "مع مرتبة الشرف" حتى هب واقفًا ومبتسمًا وقال في عربية تحمل ملامح أجنبية : "مبروك إنت يروح"!، وشد على يدي مهنئًا!
وذهبت بعد صعوبات بيروقراطية مضنية، وأمضيت في إسبانيا سبعة أعوام متتالية متصلة، لم أشك خلالها من أي شيء، ولم تحجب عنى أي خير ثقافي، وفى نهاية البعثة، عندما أخذت الطائرة عائدًا مكرها، وأنا في المطار دمعت عيناي بغزارة عرفانًا، على غير إرادة منى، فليست لي تجارب سابقة في البكاء.
ورغم كل ما قدمت للثقافة الإسبانية عرفانًا بهذا الجميل، أشعر بأن ما قمت به قليل، ودون ما يجب، ولكن حسبي أنني ما تركت من جهدي شيئًا!
·  لمستُ ترحيب تلاميذك وزملائك في الجامعة عند ذكرك والحديث عنك، ويتجلى ذلك واضحًا فيما قدموه من أبحاث وشهادات سوف تنشر في عدد خاص من صحيفة "دار العلوم"، فماذا تقول لهم؟
احترف الكتابة من زمن طويل، ومع ذلك أشعر بأني لا أملك من البيان ما أعبر به عن امتناني وتقديري لهذه المشاعر الصادقة الفياضة، وما تحمله من ود وحب وعرفان، جزاهم الله عنى غير الجزاء!
·  توليت أمر جماعة دار العلوم بحب وشغف وتوليت رئاستها عبر سنوات بمقدرة واقتدار، وتطورت صحيفة دار العلوم على يديك، فأصبحت محكمة ينشدها الدارسون من الجامعات المصرية والعربية. حدثنا عن رؤيتك في هذا المجال الرحيب؟
لم أنشئ شيئًا من عدم، تسلمتها بناء قائمًا شامخًا، يتفاعل مع الظروف حوله، كأي شيء إنساني، مع رفقة إليهم يعود الفضل، فيد الله مع الجماعة، وكل فرد أعطانا شيئًا من وقته وجهده وفكره أسهم في بنائه، وأتمنى أن يأتي بعدى من يحرص على أن تواصل الجماعة مسيرتها، وأن تساعده الظروف على أن يبلغ بها بر الأمان، وأن يتقدم بها إلى الأمام إن شاء الله وأن يجد من يقدر جهده، كما وجدت :
فالناس للناس، من بدو وحاضرة، بعض لبعض، وإن لم يشعروا خدم
كما يقول شاعرنا العربي.

****



(*) وكيل الجماعة، ونائب رئيس تحرير الصحيفة. (رحمه الله)