الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

الجانب الإنساني في حياة الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي... د. عبد المرضي زكريا.





الجانب الإنساني
 في حياة الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي

د. عبد المرضي زكريا(*)

نحمد الله الذي ينتهي إليه حمد الشاكرين، ونصلي ونسلم على نبينا محمد بن عبد الله الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته النجباء البررة الكرام وبعد ؛
فهذه أسطر متواضعة أكتبها وفاء وولاء وحبا وإعزازا لعالم جليل وأستاذ قدير يصعب على مثلي أن يكتب عن مسيرة حياته، ورحلة أيامه . وأصارح القارئ الكريم أني حين هممت بالكتابة وجدتني في حيرة في أمري، من أين أبدأ ؟! وكيف ألج إلى هذه الشخصية؟! فشخصيته تحتاج مفاتيح عدة ؛ بيد أني اهتديت إلى الكتابة من الجانب الإنساني في حياة أستاذنا الجليل الذي تتلمذت على يديه في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية التربية في جامعة عين شمس، وحين عينت معيدا في مطلع الثمانينيات كنت في شرف استقباله دوما أستظل بظله وأستضيء بنصائحه وأنهل من علمه، فقد سعد القسم – الذي أشرف برئاسته اليوم – أن يكون أستاذنا صاحب يد طولي في التدريس والإشراف على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه .
رأيت أستاذنا ذا ذكاء نادر وعبقرية فذة ونشاط دائب من أجل النهوض بالعلم، والارتقاء به، ونشره في ربوع مصرنا الحبيبة وسائر البلدان العربية والإسلامية والأوروبية، إضافة إلى ما أقامه من نشاط داخل أروقة كليته العزيزة عليه – كلية دار العلوم بجامعة القاهرة – من ندوات شعرية وأمسيات أدبية وفكرية وثقافية، يضاف إلى ذلك كله ما نشره من مقالات في مجالات عديدة، وأحاديث إذاعية وتلفازية في العديم من المحطات والقنوات، وما زال عطاؤه مستمرا، وأتمنى له دوام العطاء وطول العمر مع حسن العمل ؛ كي ينتفع به طلاب العلم والمعرفة في شتى الأنحاء والأرجاء .
لا أغالي إذا قلت إن أستاذنا بحر زاخر متلاطم الأمواج متعدد الجوانب، بعيد غوره، عميق قاعه، طويل باعه، وحسبي أن أرتشف منه بعض قطرات تبل الصدى .
سأركز على الجانب الإنساني في حياة عالمنا الجليل، فما تلقاه إلا مبتسما هاشا لك باشا يسارع بالقيام من مجلسه خلف مكتبه، يرحب بك في تواضع جم، يمد ذراعيه، ويفتح صدره في حب جارف ؛ وكأنه بذلك يعبر عن مكانتك في قلبه الودود مشعا بهذا السلوك جوا من السعادة والبشر بمقدمك إليه، ثم يجلسك مكملا ترحيبه بالاطمئنان عليك، وسؤالك عن أخبارك وأخبار زملائك، ثم يبادلك الحديث مؤانسة ؛ فإذا شكوت له هما أو حزنا من سلوك صديق أو نفاقه أو عدم انضباطه أو تعطيل مصالح طلابه أو ما يشاكل ذلك، وقال لك : يا ولدي لدينا في كل جامعاتنا مثل هذه النماذج السلبية الهدامة التي تجذب إلى الوراء وتحقد على نجاح الآخرين، فتخرج من لقائه مستصغرا بعض المشكلات .
هو إذن الجانب الإنساني الذي يفيض بكل معاني الإنسانية ولا أدل على ذلك مما ردده لي كثيرا : بمقدور كل واحد من طلاب العلم تحصيل العلم من مصادره ومراجعه، والأهم من ذلك كله أن يسهم الأستاذ في تعليم طلابه ما ليس بمقدورهم فعله أو تحصيله من المصادر والمراجع قاصدا بذلك المعاني الإنسانية التي تكتسب من الممارسة الحقيقية .
ومما نلمسه في هذا السياق أن أستاذنا إذا تحدث مع أحد طلابه تراه يخاطبه بلسان الأب أو الأخ الأكبر يوجه تلامذته في غير تعال وينصحهم في غير مغالاة، والأكثر من ذلك إبان وجودي بمكتب سعادته إبان وكالته لكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وكنت مدرسا مساعدا – بصحبة أحد تلامذته ومريديه المرحوم أ. د. شوقي المعاملي من محاسبته لعامل أخطأ وجدته يخاطبه في هدوء ورفق موضحا له أثر ما ارتكبه من خطأ ؛ فكان صدى الرفق أشد من خصم يوم أو يومين، وكأنه يتمثل حديث النبي r: ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما نزع الرفق من شيء إلا شانه ..
حكى أمامي مرة – بحزن شفيف – عن صلف أستاذ جامعي (توفي رحمه الله)، كان أستاذنا الدكتور الطاهر قد اقترحه محكما لرسالة دكتوراه لأحد تلامذته من صعيد مصر، وأمره بتوصيل الرسالة لهذا الأستاذ في يوم قائظ الحر، وقال له : قل له إن أستاذنا يقرئك السلام، ويقترح مناقشة الرسالة في غضون شهر ونصف من الآن، فما كان من هذا الأستاذ إلا السخط والغضب، وقذف بالرسالة في وجه الطالب، فأنكر أستاذنا هذا السلوك الذي يتنافى وأخلاق العلماء ذاكرا أنه كان بوسع هذا الأستاذ تقديم كوب من الماء البارد لهذا الطالب والاعتذار عن مناقشته ؟!
هذا غيض من فيض وكل من كثر مما تزخر به حياة هذا الرجل الرائع، إنه كما أسلفت بحر صاف يضاف إلى ذلك ما أهداه للمكتبة العربية من كنوز نفيسة ودرر غالية ولآلئ نفيسة، فما أحوجنا إلى مثل هذه النماذج المشرفة في جامعاتنا ومحافلنا العلمية .

****



(*) أستاذ الأدب العربي والنقد، رئيس قسم اللغة العربية، تربية عين شمس.

الخميس، 30 نوفمبر 2017

الطاهر مكي ... الطائر المحكى ...د. أحمد حسين عبد الحليم سعفان.





الطاهر مكي ... الطائر المحكى

د. أحمد حسين عبد الحليم سعفان(*)

في السابع من شهر إبريل، عام أربعة وعشرين وتسعمائة وألف. فى إحدى قرى صعيد مصر، جاء إلى الحياة الطاهر أحمد مكى محمد سلطان. ولما شب عن الطوق. دفع به أبوه - عليه رحمة الله - إلى كتاب القرية، وراح الصبي يتحلق مع لداته، حول شيخ الكتاب، فيحفظ كما يحفظون.
انخرط الطاهر مكى فى سلك التعليم. حتى حصل على الليسانس الممتازة. مع مرتبة الشرف الثانية فى اللغة العربية وآدابها والدراسات الإسلامية، عام 1952م ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا للمعلمين بتقدير عام (جيد جدًا) عام 1956، ثم ابتعث إلى أسبانيا، فحصل على دكتوراه الدولة فى الأدب والفلسفة بتقدير (ممتاز) من كلية الآداب – الجامعة المركزية عام 1961م. (مدريد - إسبانيا).
بدأ الطاهر مكى حياته العملية، مدرسًا بوزارة التربية والتعليم حتى عام 1956، ثم ابتعثته الوزارة للحصول على الدكتوراه من إسبانيا، وحصل عليها كما ذكرت فى عام 1961م، عمل بعدها أستاذا منتدبًا من وزارة التعليم العالي، لتدريس الأدب العربي والحضارة الإسلامية، في جامعتي (كولومبيا الوطنية) و(الجزويت) باللغة الإسبانية فى كولومبيا حتى عام 1964م، ثم عاد إلى مصر، وعمل مدرسًا بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وتدرج في السلك الجامعي أستاذًا مساعدًا عام 1970، ثم أستاذا بذات القسم، حتى عام 1976م، ثم رئيسًا للقسم حتى عام 1984م، ثم وكيلاً للكلية للدراسات العليا والبحوث حتى عام 1989م.
الطاهر مكى هو رأس المدرسة الأندلسية فى عالمنا العربى الآن، وهو قليل النظراء فى الدرس الأدبى الأندلسي، وله منجزات علمية فى شتى الفروع والناظر فى نتاجه العلمى يجده وفيرًا. ويمثل صُورة بارزة فى تاريخنا الأدبى.
أولاً : التأليف :
1- امرؤ القيس، حياته وشعره، ط9، 2002م.
2- دراسة فى مصادر الأدب، ط8، 2001م.
3- ملحمة السيد، دراسة مقارنة لأقدم ملحمة إسبانية، مع ترجمة النص إلى اللغة العربية، ط3، 1983م.
4- دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة، ط4، 1992م.
5- الشعر العربى المعاصر : روائعه، ومدخل لقراءته، ط5، 1996م.
6- القصة القصيرة : دراسة ومختارات، ط8، 1999م.
7- دراسات أندلسية فى الأدب والتاريخ والفلسفة، ط4، 2005م.
8- الأدب المقارن : أصوله وتطوره ومناهجه، ط4، 2002م.
9- فى الأدب المقارن : دراسات نظرية وتطبيقية، ط4، 2002م.
10-  الأدب الأندلسى من منظور إسباني، 1999م.
11-  مقدمة فى الأدب الإسلامى المقارن، ط2، 2002م..
12-  أصداء عربية وإسلامية فى الفكر الأوروبى الوسيط، 2005م.
ثانيًا : التحقيق :
1- تحقيق طوق الحمامة لابن حزم، ط8، 2001م.
2- الأخلاق والسير فى مداواة النفوس، ط2، 1992م.
ثالثًا : الإبداع :
1- السلطان يستفتى شعبه، وحكايات أخرى، عام 2000م.
2- بابلو نيرودا : شاعر الحب والنضال Biographie صدر عن دار روز اليوسف، 1974م.
رابعًا : الترجمة :
1- عن الفرنسية :
‌أ)      الشعر الأندلسى فى عصر الطوائف، لحضرى بيرلس، دار المعارف، 1990م.
‌ب) الحضارة العربية فى إسبانيا، لليفى بروفنسال، ط2، 1985م.
‌ج)   هذه المرأة لى، رواية لجورج سيمتون مع مقدمة عن حياته وفنه، والرواية البوليسية بعامة، كتاب الهلال، نوفمبر 1989م.
2- عن الإسبانية :
أ) مع شعراء الأندلس والمتنبي، للمستشرق إميليو غرسية غومث، ط7، 2004م.
ب) الفن العربى فى إسبانيا وصقلية، للمستشرق فون شاك، ط2، 1985م.
ج) التربية الإسلامية فى الأندلس، أصولها الشرقية، وتأثيراتها الغربية، للمستشرق خوليان ريبيرا، ط2، 1985م.
د) الشعر العربي فى إسبانيا وصقلية، تأليف فون شاك، الجزء الأول، ط، 1999م.
هـ) مناهج النقد الأدبي، تأليف إنريكى أندرسون، ط4، 2001م.
و) الرمزية، دراسة تقويمية، تأليف : آنا بلكاين، عن اللغة الإنجليزية (بالاشتراك)، دار المعارف 1995م.
خامسًا : الأبحاث :
1- العالم الإسلامى فى مطلع القرن التاسع عشر كما رآه الرحالة الإسبانى دومينجو باديا (على بك العباسى)، نشرت على أجزاء فى الفكر العربى فى بيروت، ومجلة (المجلة) والكتب وجهات نظر فى مصر.
2- المثقفون والهزيمة فى كتاب أصدرته جريدة الأهرام عام 1997م، بعنوان "حرب يونيو 1967م بعد 30 سنة)، وشارك فى تحريره نخبة من المفكرين المصريين.
3- دراسة عن الحرب الأهلية الإسبانية (جـ4 ص 71 – 165) فى موسوعة أحداث القرن العشرين، دار المستقبل العربي، القاهرة، 2000م.
4- حين كانت إسبانيا تتكلم العربية وتدين بالإسلام، الكتب وجهات نظر، العدد 60، يناير 2004م.
5- مخطوطة عربية واثنا عشر عالمًا أوروبيًا، الكتب وجهات نظر، العدد 32، 3 سبتمبر 2001م.
6- مادة (امرؤ القيس) فى:
Dictionary of Literary Biography, volume 311, Arabic literary culture, 500 – 925 – P. 212 - 224.
ملحوظة :
كان الأستاذ الطاهر مكي، هو الأستاذ الوحيد من جامعات مصر الذى اختير ليسهم فى تحرير هذه المادة، مع غيره من المشاركين.
سادسًا : المقالات :
كتب الأستاذ مجموعة كثيرة من المقالات، موزعة على شتى المجلات فى العالم العربي: الهلال، الملحق الأدبي للأهرام، المجلة، الرسالة، آفاق عربية، العربي، الدوحة، الثقافة العربية، الفيصل، الفكر العربي، البحث العلمي وغيرها ...
سابعًا : النشاط الثقافي:
1- عضو مجمع اللغة العربية.
2- عضو المجلس القومى للثقافة والفنون والآداب والإعلام.
3- عضو مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية.
4- رئيس جماعة دار العلوم (تأسست 1934م).
5- رئيس تحرير صحيفة دار العلوم، مجلة فصلية محكمة، تصدرها جماعة دار العلوم بالقاهرة منذ عام 1934م.
6- رئيس تحرير مجلة (أدب ونقد) من عام 1982 إلى 1987م.
7- عضو لجنة الأدب واللغة بالمجالس القومية.
8- عضو لجنة منح جوائز التفوق بالمجلس الأعلى للثقافة.
9- عضو فى لجان منح الجوائز العربية : العويس فى الإمارات، والبابطين فى الكويت، وجوائز التقدم العلمي التي تمنحها حكومة الكويت.
10-  أمين لجنة ترقية الأساتذة بالجامعات المصرية فى الفترة من 1983 إلى 1990م.
11- أشرف على أكثر من 40 رسالة دكتوراه فى الجامعات المختلفة، وعلى أكثر من 45 رسالة ماجستير، وكان عضوًا فى لجان علمية لمناقشة أكثر من مائة رسالة ماجستير، ودكتوراه.
ثامنًا : الجوائز والأوسمة :
1- وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1990م.
2- جائزة الدولة التقديرية لعام 1992م.
3- وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1992م.
4- دروع تكريم من جامعات ومحافظات : المنيا، وجنوب الوادى.
تاسعًا : شارك فى أكثر من ثلاثين مؤتمرًا حول التربية، والقضايا النقدية والأدبية، فى عمان، والأردن، وسوريا، والرياض، والمغرب، والجزائر، وإسبانيا.
هذا هو الطاهر مكي، عالم معجون بالتراث العربي، منقوع في شرابه، ولازال باحثًا وقارئًا ومرشدًا ومعلمًا، ستظل تآليفه صُوَّى بارزة فى تاريخنا الأدبى الضخم، وستبقى ترجماته تناصى الأصول التى ترجم عنها الطاهر مكى رأس المدرسة الأندلسية فى عالمنا العربى الآن، وهو قليل النظير فى الدرس الأدبي، لم تقعده الأستاذية يومًا عن متابعة الدرس والتحصيل.
لقد شرفت بصحبته منذ ما يزيد على ربع قرن، وكثيرًا ما شرفنا به بآداب المنصورة، مشرفًا ورئيسًا للجان العلمية لمناقشة طلاب الماجستير والدكتوراه، ودائمًا يلقانا لمناقشة طلاب الماجستير والدكتوراه، ودائمًا يلقانا في حنو بالغ، وبشاشة عذبة، لم نجد فيه سوى الأستاذ الأحوذى الحنذيذ، والأب الحانى. كل ذلك فى ودادة منخولة، وحب مصفى.
استوعب الطاهر مكى تراثنا الأدبي، ووقف على مسالكه وخبر دروبه، وهو حريص على أن يعمل طلابه كما يعمل هو حتى الآن.
إن الطاهر مكى رجل دفع به الزمن من الأعصر الأول إلى زمننا هذا، لنرى فيه الفارس النبيل والخلق الرفيع، والعلم الغزير.
وليسمح لى شيخى وأستاذى بعد هذه العجالة، أن أرفع إليه أرفع آيات التجلة والإكبار.
وأسأل المولى – رب العزة والجلال – أن يهبه الصحة والعافية، وأن يمد في عمره، وأن يجزيه عن العلم وطلابه كل خير ...

****




(*) أستاذ الأدب العربي القديم – كلية الآداب – جامعة المنصورة.

الاثنين، 20 نوفمبر 2017

الطاهر أحمد مكي عن قرب ....وديع فلسطين.





الطاهر أحمد مكي عن قرب

وديع فلسطين(*)

سمعت للمرة الأولى باسم الدكتور الطاهر أحمد مكي قبل أوبته من البعثة الدراسية في إسبانيا محرزًا درجة الدكتوراه باستحقاق كبير، ذلك أن شقيقي الأكبر الفنان التشكيلي لويس فلسطين الذي استوطن إسبانيا وصار يحتفي بالطلاب المصريين الذين يدرسون هناك وكأنه سفير شعبي لهم ، بعث إلى برسالة بشرني فيها بقرب عودة الدكتور الطاهر أحمد مكي إلى مصر واصفًا إياه بأنه قمة في الخلق والعلم وحسن المعشر وقال إنني سأكتسب فيه صديق عمر لأنه خير من تكسب مودته ولاسيما لأنه ينتمي إلى محافظة قنا مثلنا.
لم أعرف في شقيقي لويس أي مبالغات تشككني في صفات هذا العالم الشاب ، بل أكدت الأيام أنه الطاهر أحمد مكي خليق بكل تقدير وجدير بالمودة والرفقة الإنسانية ، فلما التقيت بالطاهر أحمد مكي بعد ذلك صدق الخبر الخبر.
لم يباعد بيننا إننا ننتمي إلى نظامين جامعيين مختلفين ، فالطاهر ينتمي إلى جامعة القاهرة في حين إنني انتمى إلى الجامعة الأمريكية ، ومع ذلك لم يشعر كلانا بأنه غريب عن الساحة الثقافية أو أن الدرعمة تعادى النظام الأمريكي فقد كان من أساتذتنا الكبار في الجامعة السيد شحاتة والسباعي بيومي ، أي أنه كان هناك نسب بين جامعتينا يقرب بين الطرفين ولا يباعد بينهما.
صحيح إنني لم أتتلمذ على الدكتور الطاهر أحمد مكي بمعنى أن أجلس منه مجلس التلميذ في الفصل ، ولكن الطاهر بسلوكه وشخصيته جعلني مجرد واحد من طلابه المعجبين بأدبه وعلمه وخلقه وشخصيته الودود.
وقد أتيح لي غير مرة أن أشهد جلسات مناقشة الرسائل الجامعية لنيل درجة الماجستير أو الدكتوراة في الكليات المختلفة وهى مناقشات شارك فيها الدكتور الطاهر أحمد مكي إما بوصفه مشرفا على الرسائل الجامعية أو بوصفه أستاذاً ممتحنًا ، وهو في الحالين صارم في عمله صادق في حكم يزود عن طلابه إذا ما قسا عليهم أستاذ ممتحن إذا ما بدا له أن الأستاذ الممتحن يتجنى على الطالب. وكم أعجبت بهذا السلوك الجميل من جانب الدكتور الطاهر أحمد مكي في جميع امتحانات الماجستير والدكتوراه التي شهدتها، وكنت أفاجأ بتحية كريمة منه إذا ما لمحنى بين الجالسين فتتجه كل الأنظار إلى شخصي.
وفى اعتقادي أن الطاهر أحمد مكي لم يظفر بما يستحق من التقدير الأدبي والمادي ، وهو ما تنبه إليه معالي الشيخ عبد المقصود خوجة راعى ندوة "الاثنينيية" في جدة حيث قام بتكريم الدكتور مكي في مهرجان كبير شهده المئات من المدعوين وتحدثت عنه الصحف السعودية بتوسع.
وقد طوق الدكتور مكي عنقي إلى يوم الدين عندما جاسر بترشيحي لعضوية مجمع اللغة العربية في مصر بعدما انتخبت عضوًا بمجمعي دمشق والأردن. ولئن لم أظفر بالنصاب القانوني للفوز بالعضوية ، فقد ظفرت بثقة هذا الأستاذ الكبير الجليل ، وهى ثقة عندي توازى الفوز بالعضوية.
وإذا دق الهاتف وكان الدكتور مكي هو المتحدث فضفضنا عما في قلوبنا وتصارحنا عما يجول في خواطرنا ولم نتكاتم كما يفعل الدبلوماسيون وتناولنا كل ما يتصل بالثقافة والمجتمع الثقافي من أحداث.
إن الدكتور الطاهر أحمد مكي راهب في محراب العلم ، فلن تراه في مهرجان للهو، لن تظفر به في حلبة كرة ، وهو سلوك أشفق فيه عليه بصرامته الموروثة من كونه صعيدياً قح.
هذه كليمات أردت بها تصوير الطاهر أحمد مكي عن قرب ، وليتني ازددت قرباً منه لاستفيض في تصوير هذه الشخصية النادرة بخلقها وعلمها وسلوكها وكل حياتها.
وما أجمل ما يتسم به الطاهر مكي من شموخ التواضع!
****



(*)  كاتب وناقد وصحفي.

السبت، 7 أكتوبر 2017

الطاهر مكي .. مُـشرفـًا ...د. كاميليا محمد خضر.







الطاهر مكي .. مُـشرفـًا

د. كاميليا محمد خضر(*)


)إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(، العالم هو من مَنَّ الله عليه بالعلم وحسن الخلق، حتى يكون أمين الله في الأرض على هذا العلم، ويعرف به الطريق إلى الله، وأستاذي الدكتور الطاهر مكي من هؤلاء العلماء، فقد مَنَّ الله عليه بسعة العلم والمعرفة وحُـسن الـُخلق، فعـرفتُ من خلاله كيف يكون العالم المتواضع.
مربع نص: ـَطريق طويل من الجهد والمعرفة سلكته يا أستاذي، وحان وقت حصاد ثمار هذا الجهد، فأنت أهلُ ُ للتقدير والعرفان من تلميذتكم التي عرفت ماذا يعنى البحث العلمي على يديكم، وكيف تكون القراءة الثاقبة والبحث الدقيق. فمنذ أن شغلت وظيفة معيدة بقسم اللغة العربية وآدابها بكلية البنات، جامعة عين شمس، وتوجهت إلى أستاذي; لكي يُـشرف على رسالتي للماجستير، وقد كلفني القسم بالبحث في مجال الأدب الأندلسي، وجهني أستاذي إلى تعلم اللغة الإسبانية، وقال لي: من يدرس في الأدب الأندلسي لابد من أن يتعلم اللغة الإسبانية، وقد تحملت جامعة عين شمس التكاليف المادية التي تطلبتها هذه الدراسة، وقد أكملت دراسة اللغة الإسبانية في المركز الثقافي الإسباني بالقاهرة، حتى حصلت على دبلومة اللغة الإسبانية كلغة أجنبية (DELE) . كل هذا وكان أستاذي يشجعني ويشد من أزرى ويحثني على الاستمرار في الدرب، وصمَّ عن آذاني الأصوات التي أرادت أن تحط من همتي، وكأنه كان يرسم لي مستقبلي في مجال الدراسات المقارنة، فجاءت رسالتي للدكتوراه، تحت إشرافه حول تأثير المقامة العربية في رواية الصعاليك الإسبانية، فأنا أدين بالفضل له في تعلمي للغة الإسبانية، التي تفتح أمامي الآن آفاقـًا واسعة في البحث الأندلسي والأدب المقارن، ولا يزال أستاذي يمدني حتى الآن بالنصيحة والعلم ويرعاني ويشعر نحوى بمسئولية الأستاذ نحو تلميذه .
اللقاء الأول، كان في محرابه بين ترانيم كتبه وألحان مؤلفاته، عـَّرفته بنفسي، وتحدثت عن رغبتي في العمل تحت إشرافه في بحث الماجستير، فكانت المفاجأة، إذ طلب منـِّى قبل أن أعرض عليه ما لدى من أفكار أن أذهب وأقوم بأمرين: الأول، وهو قراءة المصادر الأندلسية والاطلاع عليها ومعرفتها . والثاني، وهو أن أتعلم اللغة الإسبانية، وخرجت من هذا اللقاء أشعر بالحيرة، ورأيت الأمر من الصعوبة بمكان يُـتيح لي التغلب عليه، فعدت إلى أساتذتي بقسم اللغة العربية، بكلية البنات، وعرضت الأمر عليهم، وأعربت عن حيرتي وقلقي من صعوبة المهمة التي طلبها منى أستاذي، فإذا بأساتذتي يقولون لي: عودي إليه وافعلي ما تؤمرين به، نريدك أن تأخذي العلم عن يد هذا الشيخ العالم، وبدأت أبحث عن المصادر الأندلسية وأحاول القراءة، وتقدمت بطلب إلى الجامعة، حتى حصلت على الموافقة لدراسة اللغة الإسبانية في المركز الثقافي الإسباني بالقاهرة، وبدأ المشوار الذي خطه لي أستاذي، وأنا مازلت لا أعلم لم كل هذا .
عدت إليه وكان اللقاء الثاني، وأخبرته بما بدأت فعله، فشجعني ورحب بي، ثم رأيت أبـًا يرعى ابنته، تجاذب معي أطراف الحديث وكأنه شعر بجديتي في البحث، وطرح علىَّ أفكارًا، ودائمـًا كان يقول لي: لا تطلبي منى فكرة بحث، ولكن قولي لي: هيا لنفكر سويًّا . بث في روحي منذ اللحظة الأولى الطمأنينة والثقة بالذات، وشعرت باطمئنان لم أشعر به من قبل وزاد إصراري على متابعة ما قد كلفني به .
سجلت موضوع الماجستير، وكان بعنوان " الفكاهة والسخرية في الشعر الأندلسي في القرن الخامس الهجري " وظللت طـَوالَ العامين بعد التسجيل، لا أفعل سوى أمرين: تعلـُّـم الإسبانية، وقراءة المصادر الأندلسية، ولازلت لا أعرف لماذا أقوم بهذين الأمرين؟! وكأن أستاذي يرى بعين ثاقبة مستقبلي قابعـًا من بعيد ينتظرني، وعندما سألته: لماذا إصراركم على قراءتي للمصادر الأندلسية، ولماذا لا أقصد إلى الشعـر مادة البحث فحسب ؟ كان رده فيه فطنة تنم عن عالم يدرك قيمة العلم الحق والصدق مع الذات، فقال لي: متى تريدين قراءة هذه المصادر ؟!، عندما تحصلين على الدكتوراة وتصبحين مدرسـًا، لا ينبغي أن تدخلي إلى تلميذاتك في قاعة الدرس، وتحدثيهن عن مصادر أنت لم تعرفيها ولم تقرئيها، فهذا هو وقت القراءة والتكوين . نعم يا أستاذي صدقت، فأنا الآن كلما دخلت إلى قاعة الدرس، لأدرِّس النثر الأندلسي، وأحيل الطالبات إلى هذه المصادر وتفاجئني أسئلتـُهن، وأجد لدىَّ الإجابات التي أعدني لها أستاذي من قبل، فأبتسم بداخلي، وأقول صدقت يا أستاذي .
بعد أن أنهيت دراسة اللغة الإسبانية في المركز الثقافي الإسباني، طلب منى أستاذي أن اجتاز امتحان الدبلومة الإسبانية كلغة أجنبية، وهذا الامتحان هو في غاية الصعوبة، فقلت له: ألا يكفيني هذا القدر، فأجابني: إن هذه الشهادة ستتوجين بها جهدك السابق وهي الإثبات الحقيقي لهذا الجهد، فأتمنى أن تحصلي عليها وبدأت أنفذ ما طلبه منى، ودخلت الامتحان لأول مرة وخفقت ولم أجتزه، وعدت إليه أجر أذيال الخيبة، فاستقبلني برحابة وكأنني ملك عاد بانتصاراته ليتوجه قومه بأكاليل الغار، قلت له: لماذا يا أستاذي، فأنا لم أنجح .
قال لي: يكفيك شرف المحاولة، ثم اقترح علـَّى أن أدخل الامتحان مرة أخرى، وبدأ يقص علىَّ من تجاربه في تعلم اللغة الفرنسية والإسبانية والعبرية والإنجليزية ما مدَّني بالقوة، بل كان دائمـًا يقول لي: ستكونين أفضل منى، وأنا أقول له: يا أستاذي هذه مجاملة طيبة منكم فأنا أتمنى أن أسير على خطاكم فحسب، ولكن هذه الكلمات كانت تعطيني الثقة وتضعني أمام المسئولية وجهًا لوجه، وكل مرة كنت أخرج من لقائي معه وأنا أحمل روحـًا جديدة ً، وقلبـًا قويًّا، وعقلا ً ناضجـًا، وفكرًا حاضرًا، وذهنـًا متسعـًا لرحابة العالم .
دخلت الامتحان للمرة الثانية، وهذه المرة اجتزته وحصلت على هذه الشهادة، وكل نجاح كنت أحققه كان يُـشعرني بأنه نجاح له ويشاركني الفرحة ويمدني بمزيد من الطاقة الإيجابية.
انتهيت من الماجستير، وجاءت رغبتي في أن أكمل مع هذا الصرح من العلم رسالتي للدكتوراه، فذهبت إليه محمَّـلة بأفكار بحثيه تدور جميعها في دروب الأدب الأندلسي، فإذا به يُعد لي موضوعـًا مختلفـًا، وكانت هي المفاجأة الثانية . سألني: لماذا تعلمت الإسبانية؟، قلت له: أنتم طلبتم منى ذلك، وقلتم أن من يعمل في حقل الدراسات الأندلسية لابد من أن يتعلم الإسبانية، قال لي: وما بالك بمن يحملك إلى آفاق أبعد ؟، قلت: مثل ماذا؟!، قال: الأدب المقارن، توقفت لألتقط أنفاسي من مفاجأته التي طالما غمرني بها، وتعثرت الكلمات على لساني. قال لي: أريدك أن تستغلى اللغة التي تعلمتها، وأنا لدىَّ موضوع بحثك للدكتوراه وهو: أثر المقامة العربية في رواية الصعاليك الإسبانية . وكعادته يلقى لي بكلمات تدفعني للعمل، وفى الوقت نفسه تعطيني الثقة وتضع على كاهلي عبء المسؤولية، ووضعنا خطة البحث سويـًّا وسجلت الموضوع لدرجة الدكتوراه، وبعدها مضى ثلاثة أشهر، وأنا لا أعرف من أين وكيف تكون البداية ؟!، وعدت إليه أطلب منه أن أغير هذا الموضوع، فقال لي بكل ثقة: أنا قلت أن هذا الموضوع لم ينجزه سوى كاميليا، فلا تخذليني، والمرة القادمة عندما تهاتفينى قولي لي: قد أنجزت فصلا ً أو مبحثـًا وأريد أن أطلعك عليه، وأعربَ عن رغبة حقيقية في أن أتم هذا الموضوع، ولم يتركني، عاش معي في هذا البحث كلمة بكلمة، وفصلا ً فصلا ً، كنت على اتصال دائم به ; لأخبره بما أنجزت، ويقترح علىَّ بعض الكتب التي لا بد أن أرجع إليها سواء بالعربية أو الإسبانية، وكنت كلما وقعت على ملامح للتشابه بين المقامات وروايات الصعاليك الإسبانية في الموضوعات أو الأفكار أو الشخصيات، كنت أهرول إليه وأنا سعيدة وأخبره بهذا الأمر، وكان يقترح علىَّ كيف نوظف هذا التشابه في البحث، وأين يكون موضعه بين ثـنايا الفصول، وقرأ رسالتي كلمة ً كلمة ً، وكنت أشعر- أحيانـًا- بالضجر والملل; من صعوبة الموضوع، ولم أخجل يومـًا من أن أكاشفه بذلك، فهو عودني الصراحة معه، كان يربط – دائمـًا – على قلبي، ويقول لي: عندما تنتهين صدقيني سيخرج عملاً رائعـًا لا مثيل له، وسيفتح أمامك مستقبلا ً باهـرًا في مجال البحث الأندلسي والدراسات المقارنة، ثم يقص على تجربته في كتابه" الأدب المقارن: أصوله وتطوَّره ومناهجه " وكيف أخذ هذا الكتاب من جهده، وطاقته، ووقته قـُرابة الثمانية عشر عامـًا، فقد كتبه بدمه وروحه ليؤرِّخ للأدب المقارن في الآداب العالمية والعالم العربي، وغيره من الكتب التي ترجمها مثل: كتاب " مع شعراء الأندلس والمتنبي "، فقد عانى في توثيق الأبيات الشعرية الواردة في نص إميليو غرسيه غومث من مصادرها العربية، والمشقة التي عرفها وعرف معناها في ترجمته لكتاب " الشعر الأندلسي في عصر الطوائف " لـ هنرى بيريس، وترجمته لـ ( ملحمة السـِّيد ) وغيرها، وكان يقول لي: من يريد أن يصنع مستقبله لا يدَّخر حاضره ولا يـبخل به، اذهبي للعمل، وأعود لعملي بعد أن أتصفح بعض الصفحات والفصول من هذه الكتب التي صنعت الطاهر مكي، وأعود بعدها للعمل بطاقة جديدة متوهجه، وظللت هكذا معه طوال الست سنوات يدفعني، يشجعني، يقرأ لي، يصحح لي، ينصحني، يمهلني، لم يردني يومًا، لم يبخل علىَّ بوقت، ولا جهد، ولا علم، ولا نصيحة . فكانت رسالتي للدكتوراه بمثابة الطفل الذي ولد على يديه وتعهده هو بالرعاية حتى صار شابـًا يافعـًا ناضجـًا يسر الناظرين .
 وتحققت النبوءة يا أستاذي، وجاء يوم الفصل، يوم المناقشة، وشعرت بعزة وقوة لم أشعر بها من قبل استعرتها من أستاذي الطاهر مكي هذا العالم الكبير، والفصيح المفوَّه، العزيز بين قومه، الغالي بين أحبائه والرءوف بين خصومه، الحنون بين محبيه ومريديه، العظيم في تواضعه وسلامه، هذا الرجل الذي يحمل في ملامحه أديم الأرض الطيبة .
سمعت من د. سليمان العطار ود. على البمبى يوم المناقشة كلمات عن بحثى للدكتوراه، حلــقت بي في عالم لطالما كنت أصبو إليه، عالم ٍ من الرحابة وشعرت بمعنى كل كلمة سبق أن قالها لي أستاذي، وأنه كان يقصدها قصدًا، وما كنت أعرف معناها في حينها، فقد كان لي كما كان الخضر لسيدنا موسى – عليه السلام –تنبأ بأشياء لم أعرف ماهيتها حين قالها، وحصلت على درجة الدكتوراه مع التوصية بالطبع والتداول بين الجامعات المصرية، وشعرت في عيون كل من عرف رسالتي وقرأها معنى الانبهار وتقدير العلم .
تجربتي مع أستاذي الطاهر مكي، هي تجربة عمري ستظل كل كلماته ونصائحه محفورة بقلبي وعقلي، وهى نبراس حياتي، وستظل نـُصب عيني، وسيظل هو في وجداني; لأنه لم يتركني، يفكر معي كيف أحافظ على هذا النجاح، وكيف أستمر فيه، ونتشاور في أفكار كثيرة للبحث الأدبي، وهو ما زال يرعاني ويمدني بالعلم والنصيحة والمشورة .
فأنا يا أستاذي غرس يديك، وصنع عقلك، وتكوين وجدانك، فأنا أعد نفسي جزءًا قد انسلخ منكم، وأتمنى أن أظل بأبحاثي كما عهدتني وكما ربيتني، وكما علمتني، وأوصى أن ترقى هذه الشهادة إلى إعداد كتاب يحمل عنوان (الطاهر مكي مشرفـًا) .
الـُّطهر في اسمه وشخصه معروف، والعلم عند بابه مقصود .

****






(*) المدرس بقسم اللغة العربية وآدابها – كلية البنات- جامعة عين شمس.