الجانب الإنساني
في حياة الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي
نحمد
الله الذي ينتهي إليه حمد الشاكرين، ونصلي ونسلم على نبينا محمد بن عبد الله الصادق
الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته النجباء البررة الكرام وبعد ؛
فهذه
أسطر متواضعة أكتبها وفاء وولاء وحبا وإعزازا لعالم جليل وأستاذ قدير يصعب على مثلي
أن يكتب عن مسيرة حياته، ورحلة أيامه . وأصارح القارئ الكريم أني حين هممت بالكتابة
وجدتني في حيرة في أمري، من أين أبدأ ؟! وكيف ألج إلى هذه الشخصية؟! فشخصيته تحتاج
مفاتيح عدة ؛ بيد أني اهتديت إلى الكتابة من الجانب الإنساني في حياة أستاذنا الجليل
الذي تتلمذت على يديه في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية التربية في جامعة
عين شمس، وحين عينت معيدا في مطلع الثمانينيات كنت في شرف استقباله دوما أستظل بظله
وأستضيء بنصائحه وأنهل من علمه، فقد سعد القسم – الذي أشرف برئاسته اليوم – أن يكون
أستاذنا صاحب يد طولي في التدريس والإشراف على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه
.
رأيت
أستاذنا ذا ذكاء نادر وعبقرية فذة ونشاط دائب من أجل النهوض بالعلم، والارتقاء به،
ونشره في ربوع مصرنا الحبيبة وسائر البلدان العربية والإسلامية والأوروبية، إضافة إلى
ما أقامه من نشاط داخل أروقة كليته العزيزة عليه – كلية دار العلوم بجامعة القاهرة
– من ندوات شعرية وأمسيات أدبية وفكرية وثقافية، يضاف إلى ذلك كله ما نشره من مقالات
في مجالات عديدة، وأحاديث إذاعية وتلفازية في العديم من المحطات والقنوات، وما زال
عطاؤه مستمرا، وأتمنى له دوام العطاء وطول العمر مع حسن العمل ؛ كي ينتفع به طلاب العلم
والمعرفة في شتى الأنحاء والأرجاء .
لا
أغالي إذا قلت إن أستاذنا بحر زاخر متلاطم الأمواج متعدد الجوانب، بعيد غوره، عميق
قاعه، طويل باعه، وحسبي أن أرتشف منه بعض قطرات تبل الصدى .
سأركز
على الجانب الإنساني في حياة عالمنا الجليل، فما تلقاه إلا مبتسما هاشا لك باشا يسارع
بالقيام من مجلسه خلف مكتبه، يرحب بك في تواضع جم، يمد ذراعيه، ويفتح صدره في حب جارف
؛ وكأنه بذلك يعبر عن مكانتك في قلبه الودود مشعا بهذا السلوك جوا من السعادة والبشر
بمقدمك إليه، ثم يجلسك مكملا ترحيبه بالاطمئنان عليك، وسؤالك عن أخبارك وأخبار زملائك،
ثم يبادلك الحديث مؤانسة ؛ فإذا شكوت له هما أو حزنا من سلوك صديق أو نفاقه أو عدم
انضباطه أو تعطيل مصالح طلابه أو ما يشاكل ذلك، وقال لك : يا ولدي لدينا في كل جامعاتنا
مثل هذه النماذج السلبية الهدامة التي تجذب إلى الوراء وتحقد على نجاح الآخرين، فتخرج
من لقائه مستصغرا بعض المشكلات .
هو
إذن الجانب الإنساني الذي يفيض بكل معاني الإنسانية ولا أدل على ذلك مما ردده لي كثيرا
: بمقدور كل واحد من طلاب العلم تحصيل العلم من مصادره ومراجعه، والأهم من ذلك كله
أن يسهم الأستاذ في تعليم طلابه ما ليس بمقدورهم فعله أو تحصيله من المصادر والمراجع
قاصدا بذلك المعاني الإنسانية التي تكتسب من الممارسة الحقيقية .
ومما
نلمسه في هذا السياق أن أستاذنا إذا تحدث مع أحد طلابه تراه يخاطبه بلسان الأب أو الأخ
الأكبر يوجه تلامذته في غير تعال وينصحهم في غير مغالاة، والأكثر من ذلك إبان وجودي
بمكتب سعادته إبان وكالته لكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وكنت مدرسا مساعدا – بصحبة
أحد تلامذته ومريديه المرحوم أ. د. شوقي المعاملي من محاسبته لعامل أخطأ وجدته يخاطبه
في هدوء ورفق موضحا له أثر ما ارتكبه من خطأ ؛ فكان صدى الرفق أشد من خصم يوم أو يومين،
وكأنه يتمثل حديث النبي r: ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما نزع الرفق
من شيء إلا شانه ..
حكى
أمامي مرة – بحزن شفيف – عن صلف أستاذ جامعي (توفي رحمه الله)، كان أستاذنا الدكتور
الطاهر قد اقترحه محكما لرسالة دكتوراه لأحد تلامذته من صعيد مصر، وأمره بتوصيل الرسالة
لهذا الأستاذ في يوم قائظ الحر، وقال له : قل له إن أستاذنا يقرئك السلام، ويقترح مناقشة
الرسالة في غضون شهر ونصف من الآن، فما كان من هذا الأستاذ إلا السخط والغضب، وقذف
بالرسالة في وجه الطالب، فأنكر أستاذنا هذا السلوك الذي يتنافى وأخلاق العلماء ذاكرا
أنه كان بوسع هذا الأستاذ تقديم كوب من الماء البارد لهذا الطالب والاعتذار عن مناقشته
؟!
هذا
غيض من فيض وكل من كثر مما تزخر به حياة هذا الرجل الرائع، إنه كما أسلفت بحر صاف يضاف
إلى ذلك ما أهداه للمكتبة العربية من كنوز نفيسة ودرر غالية ولآلئ نفيسة، فما أحوجنا
إلى مثل هذه النماذج المشرفة في جامعاتنا ومحافلنا العلمية .
****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك