الخميس، 17 أغسطس 2017

الطاهر أحمد مكي مشرفًا ... د. رشا غانم.





الطاهر أحمد مكي مشرفًا

                                                                                              د. رشا غانم(*)

هناك أناس معهم تعرف قيمة الحياة فهم يبثون الحمية في النفوس، ويوطدون دعائم الثقة والإرادة لك ولغيرك من طلابهم الذين يحظون بصحبتهم، وخاصة في مرحلتي الماجستير والدكتوراه؛ لأنهم يساعدون كل طالب على بناء أطر جديدة من الأمل والتفاؤل والحزم، والمسئولية، تجعلك تشعر بقيمتك وتحدد أهدافك بعناية شديدة.
وعندما أتحدث عن أستاذي العالم الجليل الطاهر أحمد مكي وقد تكرَّم بالإشراف على رسالتي في الدكتوراه المعنونة (الشعر في شرقيِّ الأندلس"755-1238م" دراسة تحليلية) التي حصلت عليها منذ ثلاث سنوات بتقدير مرتبة الشرف الأولى، أجد ذاكرتي تضم مواقف كثيرة معه ولكن مهما أطلقت لساني في سردها لن أحصيها لأنها ببساطة لم تكن مجرد كلام يقال، بل أفعال يقف الضمير أمامها مثنيا على الإخلاص والتفاني والحرص على منفعة الطالب، وتزويده بالكتب المطلوبة من مكتبته العامرة حتى أنه كان يحملها لنا من منزله إلى مكتبه بالكلية، وقد ينتظر منا أن نأتي ونأخذها؛ لتيسر لنا ما نحتاج تفسيره، وتضئ أفكارنا ونحن في معية العلم، وهو في كل ذلك لا يمل ولا يسأم بل يعطي لا ينتظر عطاء.
وقد جمعتني مواقف كثيرة بأستاذي الكريم طيلة مدة دراستي للدكتوراه، وعلى الرغم من حصولي عليها والانتهاء من إشراف أستاذي لي إلا أنني ما زلت أذهب لكليتي دارالعلوم لاستشارته في أمور كثيرة جُلَّها في البحث والدراسة، وهو لا يبخل علي أبدا، ولا على أيٍ من طلابه بالنصيحة الصادقة التي تكن مصباحا لدروبنا .
وأسرد موقفا واحدا خشية الإطالة لأكشف فيه عن الأخلاق والعلم اجتمعا في شيخي الأجل فعندما جئت من كلية البنات جامعة عين شمس بعد حصولي على الماجستير وقد عقدت العزم بتسجيل موضوعي للدكتوراه في الأدب الأندلسي في كلية دار العلوم جامعة القاهرة فوجدتني أطرق باب مكتبه على استحياء فقام من مكانه محييًا لي، وأمرني بالجلوس، فبدأت أدخل في الموضوع الذي جئت بشأنه؛ لأنني أعلم قيمة وقته الثمين فهناك عشرات من الطلبة ينتظرون الاستئذان لهم بالحديث، وطلبت منه الإشراف على رسالتي للدكتوراه فصمت قليلا وقال لي هل قرأت في الأدب الأندلسي ؟ فقلت له قليلا فردّ قائلا اذهبي اقرئي أكثر، فوثبت قائمة استشعر بصيصا من أمل أن أنفذ ما طلبه مني بجدية بالغة حتى أفوذ بإشرافه علي فهو شيخ الأندلسين والعالم الكبير الذي أزال الغبار عن جواهر ولآلئ التراث الأندلسي، فخرجت من مكتبه عاقدة العزم على القراءة والمثابرة عليها في دواوين الشعر الأندلسي، وكل ما يخص الحديث عن الأندلس وأسجل ملاحظاتي التي أكتنزها لتقديمها له بعد، ومكثت سنة كاملة أتنقل بين بساتين الأندلس ورحيق عبيرها الفواح، ثم أخذتني خطواتي مرة أخرى للذهاب إلى مقابلته ومعي دفتر ملئ بالملاحظات، وتذكرني ببصيرته التي حفظها الله من النسيان ووجه لي سؤالا لي، هل قرأت؟ فأسرعت بالإجابة نعم أستاذي وفتحت دفتر أوراقي وانطلقت أسترسل في الحديث فأعجب بتدويني الدقيق لكثير من النقاط المهمة عن الأدب الأندلسي، ونظر لي مبتسما قبلت الإشراف عليك لأنك باحثة جادة، وكدت أن أرقص فرحا من سماعي هذا الخبر السار، وتعهدت أمامه أنني سأكون عند حسن ثقته بي، وخرجت وأنا أشعر بالتفاؤل والسعادة بأمل مشرق يطل على مستقبلي المهني مع عالم موسوعي وكما ذكر الأستاذ الدكتور محمود مكي هذا الجانب الإنساني وهو حنوه على تلاميذه، ورعايته لهم حنوًّا أبويًّا صادقًا عرفه له تلاميذه ومحبوه ومريدوه فأصبحوا متعلقين به تعليقًا كبيرًا، وهذا الوفاء الذي نراه في كثير من تلاميذه هو الشيء الذي نفتقده أحيانًا، في من يحيط بنا من تلاميذنا، وقد أكرمه الله بهذه الميزة التي نرجو أن يديمها عليه.
أما عن إنتاجه العلمي فله من المؤلفات الكثيرة والجهود المضنية لخدمة التراث، ومن لا يعرف الطاهر مكي فإنه ولد في 7 إبريل 1924م، هو أكاديمي وباحث في الأندلسيات ومترجم ومحقق وناقد مصري، وهو في عائلة تنتمي لقبائل عرب المطاعنة في قرية كيمان المطاعنة التابعة لمركز إسنا بمحافظة الأقصر، التحق بالتعليم الأزهري فحصل على الابتدائية من المعهد الديني بقنا، ثم انتقل في المرحلة الثانوية إلى القاهرة.
تخرج مكي في كلية دار العلوم بالقاهرة عام 1952م.
وفي عام 1961م حصل على دكتوراه الدولة في الأدب والفلسفة بتقدير ممتاز من كلية الآداب بالجامعة المركزية بالعاصمة الإسبانية مدريد.
عاد إلى مصر فعمل في كلية دار العلوم مدرسًا فأستاذًا مساعدًا فأستاذًا، ثم رئيسًا لقسم الدراسات الأدبية ووكيلاً للكلية للدراسات العليا والبحوث، وقضى الطاهر مكي سنوات أستاذًا زائرًا في جامعة بوجوتا عاصمة كولومبيا ومكنته هذه الإقامة والاتصال المباشر بشعب من شعوب أمريكا اللاتينية إلى جانب اهتمامه بآداب تلك البلاد، من التعرف الوثيق من الأدب المكتوب بالإسبانية في هذه القارة، حتى أصبح واحدًا من تخصصاته الأدبية الكثيرة، كما أنه دعى أستاذًا زائرًا في جامعات كثيرة في العالم العربي أذكر منها: تونس والمغرب والجزائر والإمارات العربية المتحدة، إلى جانب الدعوات التي توجه إليه من جامعات إسبانيا ومؤسساتها العلمية .
له من الكتب المحققة:
1- طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي
2- "الأخلاق والسير في مداواة النفوس" لابن حزم الأندلسي.
فقد أثرى المكتبة العربية بالعديد من الأعمال القيمة وتنوعت بين التأليف والترجمة والإبداع وقد استفدت منها كثيرا في دراستي للدكتوراه من أشهرها: "امرؤ القيس حياته وشعره"، و"دراسات في مصادر الأدب"، و"القصة القصيرة: دراسات ومختارات"، و"الشعر العربي المعاصر، روائعه ومدخل لقراءته"، الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه.
ولا تقف مؤلفات أستاذنا الجليل فقد أبان لنا عن إصداره قريبا مؤلف له بعنوان "صلاح الدين الأيوبي في الأدب الأوروبي الوسيط" خلص فيه إلى أن الأوروبيين يجعلون من صلاح الدين مثالا للشهامة والبطولة والمروءة، وتذهب بعض أساطيرهم إلى أن صلاح الدين اعتنق المسيحية، ويحاولون سرقته منّا وقد كان هذا ردًا على وزير التعليم المصري الذي يريد تخفيف المناهج من قصص البطولة والفروسية، وقال أيضا ما أقدم عليه وزير التعليم ما هو إلا مخطط قديم يهدف إلى حذف المناهج التي تحض على البطولة والفروسية والشجاعة، مشيرا إلى أنهم من قبل حذفوا كتاب العقاد الذي كان مقررا على المدارس الثانوية "عبقرية خالد". وأضاف أنهم يبحثون عن المناهج التي تربي الشباب على الميوعة والخنوع والاستسلام، أنهى د. الطاهر قائلا: هم يسرقونه منا، ونحن نحذفه من نصوصنا، إنها جريمة في حق التاريخ والوطن.
ويقول أستاذنا عندما يحكي عن الأندلس:
"هي تمثل محطة فاصلة في تاريخ حياتي، رأيت عالمًا جديدًا، فشغلت بمعرفة الأسباب التي جعلته يصل إلى هذا الرقى والتي تمنيتها لوطني، واحترام الإنسان هناك شيئا أساسيًا مع أن احترام الإنسان في الأصل مبدأ إسلامي: (ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم فى البر والبحر) ولكن وجدت احترام الإنسان واقعًا موجودًا هناك مما هو موجود فى بلادنا، هذا الانفتاح غذى ما عندي، وطعمه بزاد ما كان يمكن أن يتوفر لي لو لم أذهب إلى "أسبانيا"..
وفي حوار لأستاذنا الدكتور الطاهر مكي مع مجلة الخليج كانت الأسئلة والأجوبة المطروحة كالآتي :
في كتابك "الشعر العربي المعاصر روائعه ومداخل لقراءته"، تركت أمر حسم نجاح قصيدة التفعيلة للتاريخ هل ما زال إيمانك أكبر بالقصيدة العمودية؟
- الشعر الجيد في رأيي هو الشعر العمودي، وما هو خارج هذا النمط ليس شعراً في نظري، وأعظم قاعدة لدي للحكم على صلاحية النص من عدمه، هو عدم تركه إلا بعد انتهاء قراءته، فالقصيدة الجميلة أحفظها من المرة الأولى، فيما عدا ذلك أجده كلاماً يفتقد الإيقاع الجيد والموسيقى، الفكرة تفرض نفسها على ذوقي، وأنا أندهش من تصورات بعض الشباب أنه حتى يصبح عظيما لا بد أن يكون شاعرا .
هل تتخذ موقفا مناوئا لقصيدة النثر لأنها تخترق التابوهات؟
- فيما يتصل بالعقائد أنا ضد تناولها في أعمال أدبية، تسيء للناس، أنا مع رفع مستوى الوعي الثقافي للجميع، ولست مع مهاجمة عادات الناس وتقاليدهم، هناك من يريد أن يحدث ضجيجاً حول نفسه بفعل ذلك، وليس أدبًا أو إبداعا أن تتناول المقدسات، بما يجرح مشاعر الآخرين، يمكن للإنسان أن يعبر عن أدق الأشياء بلغة خاصة، مثلما فعل نجيب محفوظ، على سبيل المثال .
كيف ترى ما تكتبه الأجيال الجديدة؟
- هذا الجيل يتمتع بإمكانات لم يتمتع بها أي جيل سابق، ولكن هناك تدهور ملحوظ ومن أسبابه سهولة النشر، خصوصاً في الهيئات الرسمية، التي تنشر مستويات لا تليق بالحركة الأدبية في مصر، هذا الجيل يريد أن يكتب قبل أن يقرأ، وأن يعبر قبل أن يعيش التجربة، فالقراءة والتجربة طريقان أساسيان لقدرة الكاتب على التعبير .
لكن يكثر الحديث عن أزمة موازية في مجال النقد؟
- ازدهار النقد مرتبط برقي الأدب، ولا يمكن أن يكون لدينا حركة نقدية نشطة ومزدهرة مادام الإبداع في أدنى درجاته، فكيف تقوم حركة نقدية مع الأدب المكتوب بالعامية، وليست لدينا قواعد للنقد، فاللجوء للمصطلحات الأجنبية واللهجة العامية موجود بشكل كبير في كتابات الأجيال الجديدة، ومن ثم لا يمكن أن نتوقع نقدا حقيقيا إلا إذا دعونا إلى نقد لا يخشى المجاملات وقول الحق، الإبداع والنقد وجهان لعملة واحدة، بمعنى أن العمل العظيم ينتج ناقدا عظيما؛ لأن الناقد إذا لم يجد عملا قويا ينتقده فماذا يكتب!
هل تبرئ النقد؟
- أنا لا أبرئ النقاد لأنهم لعبوا دورا كبيرا في تمييع الحياة الثقافية، كما أن بعض النقد الصحفي أفسد الحياة الأدبية، لأنه لا يفرق بين التخديم والتقديم، التخديم أن تقدم المبدع من وجهة إعلامية للجمهور، بينما التقديم أن يأخذ الناقد الكتاب ويقيمه ويبرز جميع جوانبه للمبدع قبل القارئ، لا أحد يقوم بمهمة الناقد الحقيقي، فاختلط الأمر، ومن جانب آخر لا توجد لدينا مجلة أدبية تفتح صفحاتها لمن يريد أن يكتب نقداً منهجيا علميا.
وكتبت تهاني صلاح في جريدة الأهرام عن رسالة د.يمنى المعنونة «منهج الطاهر مكي في الدراسات المقارنة تنظيرا وتطبيقا»، تناولت الباحثة مفهوم الأدب المقارن حسب منهج المدرسة الفرنسية في المقارنة وكيف تطور هذا المفهوم إلي شكل آخر هو الأدب العام بالمفهوم الأمريكي الحديث الذي يعد أكثر انفتاحا من المفهوم الفرنسي القديم, كما عرضت وجهة نظر الطاهر مكي ومحاولته التوفيق بين المفهومين بشكل يلائم الدراسة الأدبية مع المقارنة الحديثة.
وأشارت الباحثة إلي أن دراسة الطاهر مكي التطبيقية المقارنة في موضوعات شعرية عديدة هي شعراء التروبادور, وملحمة السيد, وظاهرة الموت بين نازك الملائكة ولوركا, وأثر المعراج النبوي في الكوميديا الإلهية, وتأثيرات كتاب طوق الحمامة لابن حزم علي دانتي وكتاب تربية العلماء لبدرو الفونسو, وقصة ريح الأصدقاء لثربانتس وتأثرها بقصة عربية, وقصة صلاح الدين الأيوبي في الآداب الأوروبية.
وأبرزت الباحثة دور الطاهر مكي الرائد في حقل الترجمة من اللغات الاسبانية والفرنسية والألمانية والبرتغالية لإضافة الجديد والمفيد من الآراء والموضوعات في البيئة العربية, وإطلاع القارئ العربي علي أحدث النظريات في الأصقاع الغربية. إلي جانب بصمات د. الطاهر في ميدان الأدب المقارن وإبحاره في لغات الشعوب الإسلامية.. وعقد المقارنات بين اللغات والآداب العربية والفارسية والتركية والألبانية والسواحلية في كتابه الأول عربيا مقدمة في الأدب الإسلامي المقارن.
وأضافت د. منى رجب في رسالتها المعنونة "الطاهر مكي ناقدا ومبدعا" وفي دراسة (الطاهر مكي) الموضوعات ما يؤكد على الاهتمام بدراسة موضوعات الأدب الشعبي دراسة مقارنة. كما تشكل دراسة المواقف الأدبية، والنماذج الإنسانية، والأنواع الأدبية ميادين مهمة في مجال المقارنة؛ حيث يؤكد على أن دراسة الاتجاه العام للنموذج أفضل من دراسة نموذج بعينه. وتتعدد الأنواع الأدبية الشعرية والنثرية إلى أنواع عدة، يدرسها دراسة مقارنة منذ نشأتها وتطورها، ثم تحولها إلى شكلٍ جديد. وقد عرضتُ للملحمة، والمسرح، والرواية.
-   يعدّ (الطاهر مكي) من أوائل مَنْ تحدثوا عن التأثيرات المتبادلة بين الفنون في الأدب المقارن في العالم العربي. وتعدّ دراسة التأثيرات المتبادلة بين الفنون ميداناً حديثاً في الأدب المقارن. ويتضح من خلال البحث: حاجة ميدان التأثيرات المتبادلة بين الفنون إلى مزيد من الاهتمام؛ حيث يتم رصد التحولات التي تطرأ على الرواية أو القصيدة بعد تأثرها بمجالاتٍ عديدة مثل: الرسم، أو النحت، أو الموسيقا، أو السينما. حيث تبدو اللوحة، أو التمثال، أو الفيلم السينمائي ميداناً شيقاً وثرياً للمقارنة.
كما أشار الأستاذ الدكتور محمود مكي في ندوة له في مجمع اللغة العربية عند الترحيب بالدكتور الطاهر مكي كعضو جديد في هذا الصرح العلمي، "وعن ميدان الترجمة الذي شق فيه قلم الطاهر مكي معالم مضيئة في لون من الكتابة، لا يثبت فيه إلا قلم الراسخ في العلم، وهو الترجمة، والترجمة فن لا يقل الإبداع فيه عن الأعمال المؤلفة، وكثيرًا ما يغري من ليس مؤهلاً له فيكون نكبة على صاحبه، وعلى من قام بالترجمة عنه، إذ هو أشبه ما يكون بالشعر:
الشعر صعب وطويل سُلمه
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
هوت به إلى الحضيض قدمه
يريد أن يعربه فيعجمه
وترجمات الطاهر مكي نموذج للإتقان والجمال الفني، نرى فيه التوازن الذي لابد أن يتوافر بين معرفة النص المترجم عنه وفهم مقاصده، وبين تمكنه من اللغة التي يترجم إليها، وأول ما أشير إليه من ترجماته نقله لملحمة السِّيد، وهي أول شعر إسباني يصل إلينا بكل ما تحمله إلينا من خشونة وبداوة في لغة بينة الصعوبة، ومع ذلك فقد قدَّم إلينا الطاهر مكي هذا النص العسير في لغة جزلة قويمة، استطاعت أن تحمل إلينا قيمه الجمالية وقد قدم للنص المترجم بدراسة وافية في حياة هذا المغامر القشتالي الذي عاش فيه بيئة عربية، وتأثر بحياة المسلمين الذين عايشهم، وكانوا يؤلفون شطرًا كبيرًا من جنوده، ثم استقر في نهاية حياته في بلنسية، وكأنه أحد ملوك الطوائف المسلمين، وقد نختلف مع الطاهر مكي في بعض تأويلاته مثل رده اللقب الذي عرف به هذا المغامر وهو (السِّيد) إلى معنى (الذئب) مخالفًا بذلك ما اتفق عليه أكثر الباحثين من أنه الصيغة الدارجة للقب السَّيد العربي، ولكن فيما عدا ذلك ترى في ترجمته مغامرة كبيرة تكللت بالنجاح والتوفيق .
وتلى ذلك ترجمات لعديد من دراسات المستشرقين الفرنسيين والإسبان حول مختلف الموضوعات الأندلسية، وعن الفرنسية ترجم الطاهر مكي كتابًا لبروفنسال (الحضارة العربية في إسبانيا)، وهو مجموعة محاضرات تتناول بعض جوانب الحضارة الأندلسية. وعن الفرنسية أيضًا ترجم كتاب (الشعر الأندلسي في عصر الطوائف)، ويعد أوفى دراسة ظهرت حتى الآن لفترة من أزهر فترات الشعر الأندلسي وهي عصر الطوائف الذي كان عصر تدهور سياسي واجتماعي؛ ولكنه كان على الرغم من ذلك، عصر نهضة كبيرة في سائر ألوان الثقافة، وفي الشعر بخاصة. وعن الألمانية كانت ترجمته لجزأين لمؤلف كبير للمستشرق فون شاك بعنوان (شعر العرب وفنهم في إسبانيا وصقلية) وهو كتاب يرجع تأليفه إلى سنة 1865م، وكانت طبعته الثانية سنة 1977م من القرن الماضي، وكان يعد عند ظهوره وحتى سنوات قليلة بعد ذلك أحسن ما كُتب عن الشعر الأندلسي، ولهذا فقد سارع بترجمته إلى الإسبانية أديب لم يكن مستشرقًا إلا أنه كان شاعرًا وكاتبًا ذواقًا للأدب الجيد هو خوان باليرا، وكان إلى جانب ذلك أندلسيًّا من مدينة قبرة مهد أول مبتكر للموشحات الأندلسية، مقدم ابن معافى أو محمد بن محمود القبري، فاستطاع أن يقدم ترجمة رائعة للنص الألماني، أعانه على ذلك أيضًا إعجابه وتقديره لحضارة المسلمين في الأندلس، وعلى الرغم من قدم هذا الكتاب الذي كان اعتماده في المقام الأول على كتابات المستشرق الهولندي دوزي، وأن ما نشر حتى أيامه من النصوص الأندلسية كان قليلا فإنه استطاع أن يحسن استخدام ما توافر له من مادة شعرية على نحو جدير بكل تقدير، ولهذا فإن الطاهر مكي لم ير بأسًا في الإقدام على ترجمة الكتاب لا عن أصله الألماني، وإنما عن ترجمته الإسبانية، ونحن نعلم ما يكتنف مثل هذه الترجمات عن لغة الوسيط من مخاطر، ومع ذلك فقد جاءت ترجمته لهذين القسمين من كتاب دوزي على ما عهدنا من سلامة وجمال أداء، وكان الجزآن اللذان نشرهما من هذا الكتاب هما القسم الأول من المجلد الخاص بالشعر، والمجلد الأخير الخاص بالفن، أما الجزء الخاص بالشعر فإنه عرض عام للشعر الأندلسي مع مختارات أحسن انتقاءها، وملاحظات لا تخلو من القيمة، وأما الجزء الخاص بفن العمارة ففيه ملاحظات لم تفقد جدتها حول الإسلام وموقفه من التصوير، وربما كان أهم ما في هذا الجزء ملاحظاته حول الفن الإسلامي في صقلية، ثم المعمار العربي الإسلامي في جزيرة ( مالطة)". فما أروع فرحة دكتور محمود مكي بصديقه الدءوب.
 وعندما أعرض لمشرفي وأستاذي أحد كتبه المترجمة وهو مترجم متقن فنان عندما يترجم عملا يزيد نصوصه توهجا ولمعانا، أذكر ترجمته لكتاب "مع شعراء الأندلس والمتنبي لمؤلفه "إميليو غرسيه غومث هذا المستشرق كما يقول عنه أستاذنا في مقدمة الكتاب :"أنه قد وقف حياته على دراسة التراث العربي في الأندلس في مختلف جوانبه تاريخا وأدبا وحضارة".
 وقد ضمَّ الكتاب خمس دراسات أضاف عليها أستاذنا الكبير دراسة أخرى لنفس المؤلف وقد حوى على الترتيب دراسة لستة شعراء:المتنبي شاعر العرب الأكبر-الشاعر الطليق، أبو إسحاق الإلبيري، ابن الزقاق، ابن قزمان، ابن زمرك .
ويقول أيضا عن الدافع من وراء ترجمته لهذا الكتاب"أن أضع بين يدي الدارس العربي الذي لا يعرف اللغة لإسبانية - وهم كثيرون!- وجهة نظر إسبانية مهما تكن عن الأدب العربي بعامة، وعن الأدب الأندلسي على وجه الخصوص، وأن أسهم في سد الفراغ ولو على طريق التعريب في المكتبة الأندلسية ويضيف قائلا: فلست أعرف أحدا درس أيًا من الشعراء الذين يضمهم الكتاب بهذا القدر من التعمق والإضافة والاستقصاء ..."
وهذه الدراسات الأدبية التي احتواها هذا الكتاب، تضم زخما كبيرا من الدراسات الإبداعية كما أشرنا.
فإذا نظرنا إلى الإنتاج العلمي للطاهر مكي فإنه يروعنا بغزارته وخصوبته دون أن ينال ذلك من جودته الفائقة وتنوعه الكبير، وجلّ هذه الدراسات التي قيلت في حقه لا تستوعب خبراته المتعددة وعلمه الوافر.

****



(*) مدرس النقد الأدبي- الجامعة الأمريكية – مصر.