الثلاثاء، 18 أبريل 2017

الطاهر مكي .. والتراث القومي والجوائز ... أ.د.إلهام سيف الدولة حمدان

المصدر: مصدر المقال
من الأهمية بمكان أن نستطلع رأى شيخنا الجليل الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي فى العمل التراثى وما يعتريه من أزمات .. ونرى شيخنا حريصًا أشد الحرص على التوثيق بالمستندات لحفظ هذا التراث الرائع لأنه عقل الإنسانية ومرجعها الأبدى فيقول بلسانه فى مقال عن أزمة العمل التراثى /الملامح والأبعاد والمسئولية .. ولعلى هنا أستدعى ماقاله شيخنا ( بحذافيره ) لأنها مسئولية تاريخيه تستوجب الأمانة فى النقل والتعريف بها : ” يضم التراث القومي العربي عنصرين أساسيين متكاملين لا يغني أحدهما عن الآخر: التراث المادي ممثلاً في المساجد والقلاع والحصون والمدارس والمشافي والأسبلة، وغيرها من المقتنيات الفنية ويبقى شاهدًا ملموسًا على منجزات الحضارة العربية، وما أسهمت به في مختلف العصور الإسلامية في تقدم الحضارة الإنسانية. ويتمثل العنصر الثاني في التراث الثقافي الذي أبدعه أسلافنا ، درسًا أو تأليفًا ، في مجالات الفكر والعلم والأدب ، وتحمله آلاف المخطوطات العربية القابعة في المكتبات، على امتداد العالم ؛ طبعت أو لمَّا تزل مخطوطة، في مكتبات عامة، معروفة ومفهرسة، أو في مكتبات خاصة، نعرف الكثير منها، ولكننا نجهل الكثير أيضا.وهذا التراث المادي، وربما كانت حاجته إلى هذه أكثر، لأنه أكثر تعرضَا للتلف والهلاك والضياع “… “في التراث العربي المكتوب تتجلى حضارتنا واضحة، هذه التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، كانت في البدء حضارات شتى، ثم انصهرت جميعها، عبر القرون، في الحضارة الإسلامية، التي جمعت شمل هذه الأمة وجنبتها الفرقة والضياع”….”وفي هذا التراث تلتقي القضية المثارة الآن: الأصالة والمعاصرة بشقَّيها.فالوجه الأول: وهو الأصالة، يتمثل جليًا واضحًا في تراثنا المكتوب، ونملك منه قدرًا هائلاً استقر في عشرات الآلاف من المخطوطات، موزعة في حواضر المدن الإسلامية كلها، لا نستثنى منها مدينة كبيرة، رغم ما اندثر من هذه المخطوطات نتيجة الفتن والاضطرابات والحروب، خلال الغزوين المغولي والصليبي، وما أحدثاه من تدمير في مكتبات العراق والشام، وما سببته الفتن خلال عصر الطوائف في الأندلس، أو ما أحرقه الإسبان غداة انتصارهم النهائي في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي إلى جانب ما سُرق أو نهب من أعداد ضخمة، وانتهى به المطاف في المكتبات والمتاحف الأوربية بخاصة”…”وأما المعاصرة، وهي الوجه الثاني، فتتمثل في أننا يجب أن نصل إلى هذا التراث الضخم بكل ما استجد في عصرنا الحديث من أجهزة ومناهج، تصويرًا وبحثًا وتحقيقًا ونشرًا، حتى نزيل عنها غبار النسيان، ونردها إلى صورتها الأصيلة، ونجعل منها موضعًا للدراسة الجادة، فتصبح جسرًا إلى الحاضر، وتربط بين ماض مجيد، ومستقبل نأمل أن يكون زاهرًا، وتصبح سجلاً للتطور الفكري والثقافي وحصاد مئات السنين من المعرفة الجادة المتعمقة، وأن نبعث الحياة في القوة الكامنة فيها، لتكون لنا مرشدًا وهاديًا”… “أول ما يجب أن يسترعى اهتمامنا في المخطوطات التي نملكها، عامة وخاصة، أنها في حاجة قصوى إلى مزيد من الصيانة والحفظ السليم، وأن يرمم علميًا ما وهَن منها، لأن المخطوطات حساسة بطبيعتها، ويؤثر عليها مرور الأيام تأثيرَا سيئَا فيعرضها للتلف، ولعوامل ضارة متعددة، تعمل منفردة أو مجتمعة، وتربط بالتفاعلات التي تحدث بين مادة المخطوطات والبيئة المحيطة بها، ويبدو ذلك واضحَا حين تكون ظروف تخزينها أو عرضها غير ملائمة لطبيعتها، كعدم توفر درجة الحرارة الصالحة للحفظ، وعدم التحكم في الرطوبة والإضاءة غير المناسبة، وعدم تجديد الهواء، وتحليل الغازات، وكلها تترك أثرها في مادة المخطوط نفسه فتظهر فيه البقع، وتتحلل الأحبار”…” وقد يتعرض المخطوط لعوامل حيوية شديدة الخطر، تنجم عن تأثير الجراثيم والفطريات والحشرات.وكل هذه العوامل أوجد لها العلم الحديث علاجًا، ووسائل مقاومة، علينا أن نتابعها في مصادرها، وأن نأخذ بها”…” وهناك عوامل وليدة الإهمال والتقصير في التناول والعرض، والتعامل مع المخطوطات، يمكن القضاء عليها أو التخفيف منها، بتنمية الوعي بأهمية المخطوط وضرورة المحافظة عليه”.
وبرغم رحلة شيخنا الجليل الطويلة فى عالم الأدب والأدباء ، وما أنتجته قريحته مما نعده من أمَّهات الكتب التى حققت الثراء فى المكتبة العربية ؛ فإنه لم يسع لحصد الجوائز أو يتهافت للحصول عليها كما يفعل أرباع وأنصاف مدّعى الإبداع ، بل انه كان دائمًا على يقين أن الجوائز ستشق طريقها اليه رغم أيه عقبات أو عراقيل يضعها بعض الحاقدين فى طريقه، ولكن وبرغم كل المعوقات التى اعترضت سبيله سعت اليه جائزة الدولة التقديرية فى العام 1992 وجائزة التميز فى العام 2009 ، وكان رأيه دائمًا أن جوائز الشعر العربية قد انحرفت عن غايتها وتكالب علي الإشراف على لجانها المغرضون والفاشلون الذين أفسدوا الجوائز ففقدت رونقها وجمالها وقيمتها، ولكنه يشير إلى بعض الجوائز كجائزة ( اليماني) التى لاتزال تحتفظ بقيمتها الأدبية لجدية القائمين عليها واختيار محكِّميها بشكلٍ يليق بمن يرشح لنيلها .. ومعظم الجوائز تفشل وتفقد قيمتها وجمالها لأن من يقوم بدور ( المحكِّم ) أقل ثقافة من ( المحكـَّـم له ) ، فكيف يحكم على القصيدة من لايُحسن قراءتها وكيف يُبدى رأيه فى ديوان ولم يدرس علم العروض العربى؟ ورحل شيخ العلماء حاصدًا أعظم جائزة على الإطلاق وهي التقدير والاحترام والإجلال والمحبة في قلوب كل من عرفوه عن كثب أو عن طريق الدراسة والاستعانة بكتبه المائزة فقد زكَّى بعلمه ..ومضى!
أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون

الأربعاء، 12 أبريل 2017

الطاهر مكي.. موسوعة متحركة في حب التراث والأندلسيات والعربية.... سارة سعد.


موسوعة متنوعة تحتاج إلى دراسات.. استطاع أن يجمع بين العديد من العلوم الإنسانية، قلما تتوفر إلا فى د. الطاهر مكى باحث الاندلسيات وعاشق التراث العربي، الذي رحل عن عالمنا، تاركًا وراءه العديد من المؤلفات والمجلدات، في الأدب والنقد واللغة والفلسفة والتاريخ والتراث وغيرها. واستطاع عبر التحاقه بكلية دار العلوم أن تكون بدايته لينهل من كل فروع المعرفة ويتقنها، متشبعًا بحفظ القرآن وعلوم اللغة والشعر من خلال تعلمه بالمعهد الأزهري، ومواظبته على حضور المحاضرات بالجامعة الأمريكية للاستماع إلى كبار المثقفين والمستشرقين في قاعة «إيوارت»، التي استمع للمرة الأولى فيها إلى أديب الأدب العربي طه حسين.

ولم تمنعه نشأته الأزهرية من الانخراط في العالم اليساري، الذي دفعه للقراءة والتثقيف حتى صار رئيس تحرير أول مجلة نقد يسارية في السبعينيات، عندما ترأس تحرير مجلة أدب ونقد..

في الخمسينيات من القرن الماضي أراد الأديب المصري الحائز على جائزة الدولة التقديرية عام 1992، السفر لإسبانيا حيث نهل من الثقافة الجديدة، واطلع على الفكر الأوروبي القديم والحديث، والمناهج الغربية، وصار من أهم الكتاب في الأدب الأندلسي، وحصل على دكتوراه الدولة في الأدب والفلسفة بتقدير ممتاز من كلية الآداب، الجامعة المركزية بمدريد بإسبانيا عام 1961.

وأخذ «الطاهر مكي»محاربة تفشي اللغة الفرنسية في المغرب العربي على عاتقه، حيث بدأ في الجزائر بتكليف من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وكان من بعثة أساتذة الجامعات، ونجحوا في أن تكون دراسة اللغة والأدب والشريعة والأدب المقارن باللغة العربية في جامعة الجزائر، وقدم لهم الأثر العربي في الحضارة الغربية

البداية والميلاد

في صعيد مصر وتحديدا بمحافـظة قنا، ولد الطاهر أحمد مكي لعائلة تنتمي إلى قبائل عرب المطاعنة في قرية كيمان المطاعنة التابعة لمركز إسنا في 7 أبريل 1924، والتحق بالتعليم الأزهري فحصل على الابتدائية من المعهد الديني بقنا، ثم انتقل في المرحلة الثانوية إلى القاهرة في الأربعينيات من القرن العشرين، ثم تخرج مكي في كلية دار العلوم بالقاهرة عام 1952.

قضى «مكي «معظم سنوات حياته في عشق التدريس فعمل مدرسًا، فأستاذًا مساعدًا، فأستاذًا، فرئيسًا لقسم الدراسات الأدبية، فوكيلاً لكلية دار العلوم للدراسات العليا والبحوث حتى عام 1989، وقد شغل عدة وظائف في قطاعات التعليم العام والجامعي والدراسات العليا، حتى عمل أستاذًا متفرغًا بكلية دار العلوم.

من أشهر مؤلفاته: «امرؤ القيس»، و»بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال»، والأدب الأندلسي من منظور إسباني» و»الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه» و»مقدمة في الأدب الإسلامي المقارن» و»أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوروبي الوسيط» و»الشعر الأندلسي في عصر الطوائف والتربية الإسلامية في الأندلس» و»طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي».

شهادات وسرادق عزاء

وعقب وفاته تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى سرادق للعزاء من كافة أطياف المجتمعات العربية والإسبانية،ونعاه كل المثقفين فى المنطقة بالعديد من كلمات الرثاء والمواقف.

قال الكاتب وديع فلسطين في شهادته بكتاب تكريمي صدر بمناسبة بلوغ الطاهر مكي التسعين من عمره، باعتباره حدثًا ثقافيًا رفيعًا، «صحيح أنني لم أتتلمذ على الدكتور الطاهر أحمد مكي، بمعنى الجلوس منه مجلس التلميذ في الفصل، ولكن الطاهر بسلوكه، وشخصيته جعلني مجرد واحد من طلابه المعجبين بأدبه، وعلمه، وخلقه.. وفي اعتقادي؛ أن الطاهر لم يظفر بما يستحق من التقدير الأدبي والمادي، وهو ما تنبَّه إليه عبدالمقصود خوجة راعي الإثنينية في جدة، حيث قام بتكريم الدكتور مكي في مهرجان كبير، شهده المئات من المدعوين.

أما الناقد محمد عبدالمطلب فقال عنه: «من يقرأ تحقيقات الدكتور الطاهر يدرك على الفور أنه واحد من أعلام المحققين الكبار الذين قدموا لنا التراث تقديمًا علميًا موثقًا، وأشرف بأن كثيرًا من إنجازاتي، ودراساتي في الأدب، واللغة، والثقافة، والبلاغة، كانت محتكمة إلى كثير من توجيهاته، وربما كانت أهم هذه التوجيهات احترام التراث.


المصدر: http://www.al-madina.com/article/518515

السبت، 8 أبريل 2017

أ.د/ الطاهر مكي كان يشعر باقتراب أجله


      فلهذا حول بيته في بلدته إلى ديوان للعائلة، وكُتاب لتحفيظ القرآن الكريم، وقد أعد الدور الثاني من الديوان ليكون مكتبة عامة لأبناء قريته، تُنقل إليها مكتبته الخاصة بعد وفاته، وقد قرر أهله إضافة إلى ما أوصى به هو (عليه رحمة الله)، عمل جائزة باسمه لحفظة القرآن الكريم، وعمل جائزة بحثية لأحسن عمل أدبي أو أحسن عمل نقدي أو أحسن رسالة ماجستير أو دكتوراه بوديعة من ماله الخاص (عليه رحمة الله تعالى).

قصيدة عرفان ... د. منى ربيع بسطاوي (عميدة كلية الآداب بقنا)




د. منى ربيع بسطاوي(*)

إن من أجل القيم وأعظمها العرفان بالجميل وإني لأشرف الشرف جميعه، وأعتز الاعتزاز كله لأعترف لصاحب فضل عليَّ وعلى جميع أبناء وبنات الجيل، له يد طولي شخص وإليه الفضل كل الفضل على مسيرتي في الحياة.
إلى صاحب اليمينين العربية والإسبانية
إلى حجة الأدبين العربي والإسباني
إلى رائد الأدب الأندلسي بلا منازع في الشرق والغرب.
إلى أبي وأستاذي وقدوتي ومثلي الأعلى.
إلى العالم الجليل أ.د. الطاهر أحمد مكي...

1- وها هو شِعْري يخط البيانَ 


بكل ابتهاج إليكَ دَنَاَ

2- وقد كان يُهمِلُ مَدْحَ الأنامِ


وعند مديحِكَ أنت اعتنى
 
3- أعَدَ الصِحَافَ، أتى بالمِدادِ


ومن كلّ شَهدِ اليرَاعِ اجتني

4- ومن ذا سواكَ استحقّ الثناءَ


وأهدي الرّيَاحِينَ لأِرْواحنَا

5- سَتَبْقى شهَابًا لكل العُصُور


وتاجًا تمنّاه أعْلامُنَا

6- أتيتَ، ولولاك حَلّ الظّلامُ


فكانَ الإلهُ لطيفًا بنَا

7- تَكَلّفْتَ بالعلمِ أنّ تَزْدَهيهِ


بديلَ الدّمَاءِ بأجْسَادنَا

8- وما الجهلُ إّلا ظلامُ شديدُ


وأنتَ المَنَارةُ، أنتَ السّنَا

9- فيا من تريدُ اجتماع العلوم


إلى الطّاهِريّ تَعَالَ هُنَا

10- ستنهلُ علْمًا يُغَذي العقولَ


وَتَمْحَقُ جَهْلَّا وتَنْسَي العنَا

11- أرى الدهرَ صَعْبَ المِراس ولكنّهُ

إذا ما رآكَ إليكَ انحنى

12- أرى العلمَ يمضي لنفع الوَرَى

إذا اختصَّ منكَ ببعض الثّنَا

13- سأدعو إليكَ بعُمْر مَدِيدٍ


تَقبّل دعائيَ يَا ربّنَا

         
تلميذتك



(*) رئيس قسم اللغة العربية، كلية الآداب- جامعة جنوب الوادي بقنا، والمستشار الثقافي المصري لسفارة جمهورية مصر العربية بدولة الكويت الشقيقة سابقًا.

الجمعة، 7 أبريل 2017

الدكتور محمد أبو الفضل بدران يكتب: الطاهر مكى العائد إلى الجنوب.


1.
لماذا أوصى أن يُدفن فى قريته؟ كيف يحرّك الإنسان فى عقله صديقا من دائرة الأحياء إلى دائرة الموتى؟ وأى مشقة يتكبدها المرء وهو يبحث فى أسماء معارفه بالهاتف فلا يبصر إلا رقم عزيز راحل، فينظر مليّا فى حروف اسمه وتنهال الذكريات عسى أن يرجعه مرة أخرى من خلال مواقف وذكريات لا تنسى؟
كيف لأستاذ الأساتذة  الطاهر مكى، كما وصفه الصديق الدكتور علاء رأفت، أن يمضى دونما وداع، ما دار فى خلدى أنى سأرثيه! فكيف لحروف اللغة التى علمنى إياها أن تكون عصيّة على الرثاء؟
2.
"...
كَادَ مِن شُهرةِ اسمِهِ لا يُسَمّى"   البردوني
ها هو البردونى متحدثا عن المتنبى، البردونى الذى ما عرفناه لولا أستاذنا الدكتور الطاهر مكى، فلماذا لا أستعير شطر بيته هذا لنبدأ الحديث عن الطاهر مكى الذى "كادَ مِن شُهرةِ اسمِهِ لا يُسَمّى"،  عندما كنت طالبا فى الفرقة الأولى بالجامعة تمنيت أن أراه بعد أن قرأت كتابه الرائد عن امرئ القيس فى مرحلة الثانوية، وشدّنى هذا الكتاب إلى عالم أمير الشعراء لا منازع، ورحت أقرأ ما كتبه عن دارة جلجل، ولأول مرة أحس حلاوة المعلقات، لقد أهدانى بكتابه هذا عشق الشعر الجاهلى، كيف يتجشم عناء السفر من القاهرة إلى قنا بالقطار، كان القطار يصل إلى المحطة فى الخامسة مساء، ها هو قادم كالرمح فى مشيته المميزة، دخل القاعة فى إباء وتواضع الكبرياء، وقال لنا:
معذرة يا أبنائى فقد تأخر القطار، يا إلهى: الطاهر مكى يعتذر لصبية قادمين من الثانوية، وكان هذا الاعتذار درسا فى تواضع العلماء، ربما لا يدرى الأستاذ كم يؤثر فى طلابه!
وبدأ الطاهر مكى يتحدث عن مصادر الأدب وراح يقدم لنا أبا الفرج الأصفهانى وكتابه الأغانى، وكأنه كان صاحبه وملازمه، يضحك على المواقف التى تعرض لها المجنون قيس، ثم يردف مبتسما: لم تكن ليلى جميلة  ولا حاجة!! ولكنه العشق، يفند الروايات ويحاكم الرواة والأسانيد، تخرج من المحاضرة وقد قرأت الكتاب دون أن تلمسه.
2.
ندعوه لأمسية شعرية وقد أسسنا نادى الأدب والفكر بالكلية، يأتى مكى ويستمع إلينا جميعا شعراء ومتشاعرين ثم ينقدنا فى رفق وتشجيع، هنا كسر عروضى، وهناك صورة غريبة لو... ينتصف الليل، نمشى معه فى شوارع قنا التى يحفظها فقد درس بها فتى، يشرح لنا هنا سكنتُ وهنا تعرفت على المدينة إذ كان قادما من المطاعنة وهى قرية بإسنا، فنداعبه فى احترام "يا مرحبا بقنا وإسنا" فيقول لنا ليس حفنى ناصف وحده المنفى إلى الصعيد، يا ولدى ما يزال الصعيد منفى!! يتحدث عن الصعيد بوله، وكأنه عمدة الصعيد، يحل مشكلاتهم ويجلس معهم فى القرية، ويلاحقونه فى القاهرة، يضحك وهو يحكى لى، يجيئون إلى بالقاهرة، واستأذنت منهم فى الصباح كى أطبع امتحانا سيُوَزع بالكلية فى التاسعة صباح اليوم، عندما عاد لم يجدهم بالشقة فى العجوزة حيث كان يقطن، ويعرف من أخيه المستشار عبد الستار رحمه الله تعالى أنهم غادروا غاضبين "الطاهر سابنا فى الشقة ومشى للشغل"!.
3.
فى مدخل الحمراء كان لقاؤنا
                     ما أطيب اللقيا بلا ميعاد
نجلس مندهشين فى القاعة بقنا؛ ونحن نتجول فى قاعات قصر الحمراء بالأندلس الذى يصفه لنا حجرا حجرا، بيتا بيتا، هذه الأبيات الشعرية، والمقولات "لا غالب إلا الله" فوق جدران الحمراء، يحوّل قصيدة نزار قبانى إلى لوحة عشق وأسى للأندلس، نتخيل هذا الحوار الذى يقرّبه لنا ويصفه لنا وكأنه الراوى العليم الذى صاحَب نزار قبانى فى الحمراء وفى جنة العريف، عندما زرتُ غرناطة ودخلت الحمراء كان دليلى هناك الطاهر مكى، ورحتُ أردد قصيدة نزار بصوت مكى فى قاعة الكلية:
فى مدخل الحمراء كان لقاؤنا ,,,,,, ما أطـيب اللقـيا بلا ميعاد
عينان سوداوان فى حجريهما ,,,,,, تتوالـد الأبعاد مـن أبعـاد
هل أنت إسبانية؟ ساءلـتها ,,,,,, قالت: وفى غـرناطة ميلادى
غرناطة؟ وصحت قرون سبعة ,,,,,, فى تينـك العينين.. بعد رقاد
وأمـية راياتـها مرفوعـة ,,,,,, وجيـادها موصـولة بجيـاد
ما أغرب التاريخ كيف أعادنى ,,,,,, لحفيـدة سـمراء من أحفادي
وجه دمشـقى رأيت خـلاله ,,,,,, أجفان بلقيس وجيـد سعـاد
ورأيت منـزلنا القديم وحجرة ,,,,,, كانـت بها أمى تمد وسـادي
سارت معي.. والشعر يلهث,,, خلفها كسنابـل تركـت بغيـر حصاد
يتألـق القـرط الطـويل بجيدها ,,,,,, مثـل الشموع بليلـة الميـلاد..
ومـشيت مثل الطفل خلف دليلتى ,,,,,, وورائى التاريـخ كـوم رمـاد
 قالت: هنا "الحمراء" زهو جدودنا ,,,,,, فاقـرأ على جـدرانها أمجـادي
أمجادها؟ ومسحت جرحاً نـازفاً ,,,,,, ومسحت جرحاً ثانيـاً بفـؤادي
يا ليت وارثتى الجمـيلة أدركـت،،،،، أن الـذين عـنتـهم أجـدادي
عانـقت فيهـا عنـدما ودعتها ,,,,,, رجلاً يسمـى "طـارق بن زياد"

4.
فى عشقنا اعتمدنا على ابن حزم وطوق الحمامة بتحقيق الطاهر مكى وكنا نتجول فى قرطبة ونحن فى قنا ونقول عن المحبوبة نقلا من شعر ابن حزم :
أغارُ عليكِ من إدراكِ طرفي             وأشفقُ أنْ يُذيبك لَمسُ كفِّى  ...
ثم يقول لنا: تذكّروا أن قائل هذه الأبيات الفقيه ابن حزم، كان يقول ذلك فى الثمانينيات فماذا يقول اليوم؟؟
5.
يدعونا الأمير الفضل بن العباس الدندراوى للحوار والغداء على ضفاف النيل ببيته "ساحة النور" بدندرة، يتحول الطاهر مكى فى حواره من زعيم فى حزب التجمع إلى صوفى حتى النخاع، كنتُ معيدا آنذاك، رأيته يناقش فى الأحوال والمقامات، ورأيت على وجهه سيم الرضا، تحدث الأمير الفضل عن أحوال المسلمين فى العالم، وعما ينبغى أن يكونوا عليه، كان الأكل شهيا لكن الحوار أشهى وألذ.
فى أثناء عودتنا ترجّل مكى فوق كوبرى دندرة الذى يربط بين قنا الشرق ودندرة والترامسة الغرب، مشينا فى معيته وكأننا المريدون فى إثر شيخهم، أو الحلاج وأتباعه على نهر الفرات مرددا:
و اللهِ ما شرقتْ شمسٌ و لا غربتْ             إلاَّ  وذكركَ  مقرونًا  بأنفاسي
 وما خلوتُ إلى قومٍ أحدِّثهم                   إلاَّ وأنتَ حديثى بين جُلاَّسى
و ما هممتُ لشربِ الكأْس مِنْ ظمأ           إلاَّ رأيتُ خيالاً منكَ فى كاسي

6.
استشرته قبل سفرى إلى ألمانيا، نصحنى بالسفر وأن تكون أحلامك باللغة الألمانية، لكن لا تنس موضوع كتابك عن "الخَضِر"، كان يتابع أبحاثى وأشعارى ويقوّمها فى أبوة حانية أحيانا وقاسية فى أحايين أخرى، وهو يتمثل بالبيت الشهير:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما     فليقس أحيانا على من يرحمُ
7.
حدثنى عن الأدب الإسلامى المقارن، أستطيع أن أقول إنه دلّنا على كنز لم ننتبه إليه، هل كنا مندوهين بنداهة الغرب فى الأدب المقارن، وكأن مركزية الغرب فى كل شىء حتى فى الأدب المقارن، كيف لم نتجه إلى الأدب الإفريقى والأوردى والتركى والفارسى وغير ذلك مما يجاورنا ونعيش فى معيته دون أن نلتفت إليه، أرى أن ذلك كان فتحا جديدا فى الدراسات المقارنة؛ وكم فرح بكتابى "الخضر فى الآداب العالمية" الذى قال لى: "هذا هو الكتاب الذى تمنيت أن أكتبه" فرحى بمقولته فرح لا يوصف، كيف لأستاذ فى قامته يشجع تلميذه بهذا الكلام، وكأنه نسى أن هذا الكتاب وليد محاورات معه ونبت كتابه عن الأدب الإسلامى المقارن.
8.
يقرر أن يرشح نفسه لانتخابات مجلس الشعب عن محافظة قنا ضد أمين حزب مصر الحاكم آنذاك، أقيمُ له أمسية فى حبه بقريتى العويضات بقفط، يتجمع أهلى والقرى المجاورة فى مشهد لم تره القرية من قبل، الجميع يتدافع للسلام عليه، الأطفال يفترشون الأرض تحت جميزة المَلَقَه كما نسمى ميدان القرية، يربط مكى بين مَلَقَة العويضات و"ملقا" الأندلس وينشد الشعراء قصائد فى مدحه يحثونه كى يمضى فى الترشح حتى يخلصنا؛ يقول له الشاعر العامى ربيع فريد:
"
يا نور المنادرْ
يا طاهر يا طاهرْ
يا نائب بلادنا
كفاية وجودكْ
وعلمك وجودك
يا نور المنادر"
ويقف الطاهر مكى وقد هاله هذا الجمع وهذا الحب ليقول "لقد كان أحمد شوقى يقصدنى عندما قال: قد يهون العمرُ إلا ساعةَ     وتهون الأرضُ إلا موضعا
ويصفق له الحضور فيعلق على صِبية تسلقوا شجرة الجميز العريقة أمام مندرتنا وهم يصفقون له فيطلب منهم أن يمسكوا بأطراف الشجرة حتى لا يسقطوا وأنه مقدر حضورهم وفرحهم به راجيا فى مودة أن يتركوا أمر التصفيق للأرضيين، وتضج الملقه بالتصفيق والبهجة.
يأخذ من الأصوات ما يحقق له الفوز ولكن النتيجة نجاح الآخر!!!!
9.
عندما كنا طلابا فى السبعينيات كتب الطاهر مكى فى الصحف والمجلات مطالبا بإنشاء جامعة فى قنا، قابل المسئولين فى حماس، وكان معه الدكتور إسماعيل معتوق رحمه الله، ولم يكن أحد يعتقد فى جدوى ما يكتب لكن تحولت الكليات الثلاث إلى فرع لجامعة أسيوط، ولم تفتر همته بل دافع حتى تحقق له فى 1995 إنشاء جامعة جنوب الوادى فى قنا، كلنا فى الجامعة مدينون لهذا الرجل.
10.
تعدّ  طالبتى منى عبد العظيم رسالة ماجستير عن الطاهر مكى مبدعا وناقدا، يكتب لها سيرته الذاتية فى صفحات قليلة، فأقول لها: ليته ما سكت، إنه لا يود أن يتكلم عن نفسه، لديه مخزون من المعلومات والأسرار، متى يبوح به، ومتى يكتب سيرته الذاتية؟ ستكون مرجعا لحقب لم نعشها وخبايا لمّا تكتشف بعد، متى تبدأ؟
11.
كم كان فرحا وهو يقرأ مقالاتى عنه فى الحياة ودراسات ثقافية وفى "العرب" اللندنية، وغيرها يهاتفنى شاكرا، وهو لا يعرف أنى اتخذته قدوة لى منذ أن قرأته، عندما أتصفح ما كتب أوقن أن هذا الرجل قد جاء فى زمن ليأخذ أمثالنا إلى العلم، وعندما أرى نصف مليون من الشباب تخرّج من جامعة جنوب الوادى مذ كانت فرعا لجامعة أسيوط أوقن أن هذه هى الصدقة الجارية والعلم الصالح الذى ينتفع به، وأن أبى عندما قال له "لا تنسنا من دعائك" كان فى قلبه أن "العلماء ورثة الأنبياء".
12.
أستاذى الدكتور الطاهر مكى وداعا كم يفزع القلب بآماله إلى تكذيب حقيقة موتك عندما يجزع فى وفاة عالم كبير وأستاذ عزيز على القلب والعقل لكنها مشيئة الله تعالى فلك الخلد ولنا أجر الصبر، كان الطاهر مكى الأستاذ الذى جمع بين التدريس والتأليف والترجمة والتنظير والتحقيق.. كان موسوعة فى علمه وخلقه فقد تخرج من كلية دار العلوم مع مرتبة الشرف فى 1952 وحصل على دكتوراه الدولة بامتياز من جامعة مدريد 1961 وعمل أستاذا بجامعات أمريكا اللاتينية وتونس والمغرب والجزائر والإمارات العربية المتحدة وغيرها ويعد رائدا من رواد الأدب الأندلسى، آمل أن نجدد مكتبته العامرة بإسنا وأن يكون له قصر ثقافة يحمل اسمه وأن نحافظ على مكتبته بالقاهرة وأن تنشئ جامعة القاهرة حقل دراسات باسمه فى الأدب والنقد ومن الجدير بالذكر أن جامعة جنوب الوادى قد رشحته هذا العام لنيل جائزة النيل.

 أستاذى الطاهر مكى: إلى لقاء
المصدر: اليوم السابع

الخميس، 6 أبريل 2017

كتب الأستاذ الدكتور محمد أبو الفضل بدران.



أستاذي د. الطاهر مكي.. وداعاً
كم يفزع القلب بآماله إلي تكذيب حقيقة الموت عندما يجزع في وفاة عالم كبير وأستاذ عزيز علي القلب والعقل! لكنها مشيئة الله تعالي فلك الخلد ولنا أجر الصبر.
كان الطاهر مكي الأستاذ الذي جمع بين التدريس والتأليف والترجمة والتنظير والتحقيق.. كان موسوعة في علمه وخلقه فقد تخرج في كلية دار العلوم مع مرتبة الشرف في عام 1952 وحصل علي دكتوراه الدولة بامتياز من جامعة مدريد 1961 وعمل أستاذا بجامعات أمريكا اللاتينية وتونس والمغرب والجزائر والإمارات العربية المتحدة وغيرها
ويعد رائدا من رواد الأدب الأندلسي.
أستاذي الطاهر مكي: إلي لقاء..


المصدر: جريدة الأخبار.         واقرأ له على البوابة نيوز

الأربعاء، 5 أبريل 2017

البقاء لله

إنا لله وإنا إليه راجعون
ياااه يا دكتورنا ...........
ياااه يا أستاذنا الدكتور الطاهر مكي
والله العظيم هتوحشنا
هيوحشنا لطفك معنا ، يا سلام لما كان يقول: (حاضر يا ولدي...)
ولما كان يسألني على بحوثي التي انتهيت منها ... وأنا هيبة منه أزود واحد عما أنهيت ... كنت أكذب، وكان يقول لي (شد حيلك يا ولدي ....)
لو رأيته وسنه تسعين سنة وهو يقوم بنفسه ليقدم لك واجب الضيافة... طوال عمره كان يفرح بزيارتنا له .... اللهم فرحه بلقائك يا رب العالمين
اللهم فقد كان رجلا كريما فأكرمه يا رب العالمين
اللهم إني أشهد أمامك وأمام جميع خلقك أنني لم أر منه إلا كل خير .. اللهم أنت أكرم منه وأعظ ولك المثل الأعلى اللهم عامله أفضل من معاملته لنا وقابله أفضل مما كان يقابلنا به يا رب العلمين.
الدكتور الطاهر مكي (رحمه الله) له مهابة في نفوس تلاميذه وأبنائه، فلم أستطع محادثته في الهاتف وأنا جالس أبدا، فقد كنت أقف بغير إرادة مني، والغريب أنني سمعت مثل هذا من أكثر تلاميذه ... فاللهم إنا نسألك أن تجعل له مكانا في جنتك أكبر مما له في نفوسنا وأعظم، فأنت العلي الأكرم يا رب العالمين.
ياااه مما كنت أحكيه عنه لأولادي وزوجتي، تمنوا رؤيته، فأخذت بعضهم إليه، فأكرمهم بي، وأكبرني أمامهم... فاللهم لا تخذله أما أحد من ملائكتك  في حياته الآخرة يا رب العالمين.
ماذا أقول....
أستحي من الإطالة أمامك...
ولكنه كلام بعيد عن النفاق
فقد مات الرجل
رحمه الله
لا إله إلا الله ...

  تلميذه رحمه الله د. محمود النوبي أحمد
آداب قنا - جامعة جنوب الوادي


البقاء لله وحده


ببالغ الأسى والحزن أنعي إليكم فقيد العلم والمعرفة والدنا جميعاً الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي .... البقاء لله وحده

الأستاذ الدكتور الطاهر مكي