الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

الطاهر مكي.. الوجه الآخر !





الطاهر مكي.. الوجه الآخر !

د. حلمي محمد القاعود(*)

- 1 –
لا أذكر في أية سنة من الستينيات في القرن الماضي عرفت أستاذي الدكتور الطاهر أحمد مكي (1924 -.. ). ولكني رأيته لأول مرة بعيدا عن المحاضرات ومدرجات الدراسة في حديقة دار العلوم بالمنيرة ( المبتديان )، وحوله مجموعة من الطلاب والطالبات، وكان يتكلم في الشأن العام بجرأة غير معهودة في عصر كان شعاره " الحيطة لها ودان !". كان يتكلم عن الحرية وحق المواطن في التعبير عن رأيه وأشياء أخرى تصب في هذا السياق لا أذكر عباراتها بدقة. كنت في ذلك الحين أكتب بعض المقالات والموضوعات وأنشرها في بيروت، وأحاول بطريقة ما أن أعبر عن أشواق الإنسان المصري الذي سحقته الثورة " المباركة "، وأذلته أمام العدو النازي اليهودي في فلسطين، وجاء لقاء الطاهر مكي في حديقة دار العلوم ليعطيني مددا غير مسبوق في الجرأة عند الحديث عن قضايا الأمة المكلومة.
لم يكن الرجل مثل الآخرين الذين ينكفئون على موادهم وكتبهم العلمية لا يخرجون عنها ولو بكلمة، ويحترسون في كل لفظ يفوهون به، أو يضعون بينهم وبين طلابهم متاريس من الفوقية والجهامة كي لا يقترب منهم أحد، وربما عوّضوا ذلك باستعراض مفتعل في مناقشات الماجستير والدكتوراه يقهر الطالب ويؤذيه. كان الرجل قريبا من كل طلابه، بسيطا في ملبسه وكلامه الذي مازالت تسيطر عليه آثار من اللهجة الصعيدية المحبّبة، ويجيب على كل سؤال يوجه إليه من أي سائل، ويبدو في كل الأحوال ابن الناس الذي يمشي على الأرض دون مرح أو خيلاء.
اقتربت منه كثيرا في المناقشات العلمية والسفر الطويل إلي بعضها في أسيوط والمنيا، وتداولت معه كثيرا من القضايا والحكايا والأسرار ،واستمتعت بروحه الإنسانية البسيطة ،وتشربت منه حب المعرفة والرحلة، ولا أظنني مللت سماعه، ولا سئمت لقاءه، ولولا ظروفي الصحية التي أقعدتني عن الحركة إلآ لضرورة ملحّة ما انقطعت عن التواصل معه والنهل من معينه العذب.
وحين طلب مني الكتابة عنه لتكريمة كانت سعادتي كبيرة لأقدم إليه بعض السطور عرفانا بفضله، وحبا لشخصه، واعتذارا عن تقصير السلطة في تقديره، مع أنها تقدر من أهم أقل منه قامة وقيمة وما أكثرهم، فنحن طلابه وتلاميذه نعرف قيمته الحقيقية ونقدره حق قدره أفضل من أية سلطة لا تلتفت إلا إلى نوعية معينة وفصائل خاصة.
أقدم الوجه الآخر لأستاذ الجامعة الذي لا يكتفي بأضابيره وبحوثه، أو الأستاذ الذي يقود أمته للنجاة من قيود الرق، وسطوة الطغاة، والمثقفين الذين يخدمونهم ويضللون الشعوب ويدلسون عليها.
يمكن لغيري أن يقدم جهد الرجل في المجال العلمي باستفاضة باحثا في الأندلسيات أو محققا لكتب التراث أو مترجما لبعض الأعمال الأجنبية المهمة، أو استاذًا في مجال التخصص مع طلابه في مرحلة الليسانس أو الدراسات العليا وهو مجال تفوق فيه وأثبت أستاذية يدين بالفضل من خلالها عدد كبير من ألوف الطلاب والباحثين في مشارق الوطن العربي ومغاربه، فضلا عن بلاد إسلامية عديدة.
يمكن القول إن الوجه الآخر للطاهر مكي في هذا المجال هو التضحية بتكوين أسرة لينجب أبناء أعزاء يعرفهم العالم العربي والإسلامي. وهو مواجهة الأوضاع الفاسدة في التعليم والثقافة والسياسة والمجتمع. وهو التنبيه إلى الأخطار التي تحدق بالأمة والوطن والناس.
في مجال البحث هناك أبناؤه:
امرؤ القيس: حياته وشعره (1968).
دراسة في مصادر الأدب (8 196 ).
بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال (1974).
دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة (1976).
القصة القصيرة: دراسة ومختارات (1977).
مع شعراء الأندلس والمتنبي (1978).
الشعر العربي المعاصر: روائعه ومدخل لقراءته (0 198 ).
دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة (1980).
الفن العربي في إسبانيا وصقلية ( 1980).
الشعر الأندلسي في مصر(1990).
الأدب الأندلسي من منظور إسباني (1991).
الشعر العربي في إسبانيا وصقلية ( 1991).
مناهج النقد الأدبي (1991).
الشعر العربي المعاصر: روائعه ومدخل لقراءته (1996).
في الأدب المقارن : دراسات نظرية وتطبيقية (1988).
الأدب المقارن: أصوله وتطوره ومناهجه ( 1989).
مقدمة في الأدب الإسلامي المقارن (2002).
أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوروبي الوسيط (2005).
وفي مجال التحقيق هناك ابناه بالتبني :
طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي (1977).
"الأخلاق والسير في مداواة النفوس" لابن حزم الأندلسي ( 1985).
وفي ميدان الترجمة هناك أبناء روحيون :
ملحمة السّيد (1970)
الحضارة العربية في إسبانيا ـ ليفي بروفنسال - عن الفرنسية (1980).
الشعر الأندلسي في عصر الطوائف - عن الفرنسية( 1990).
التربية الإسلامية في الأندلس: أصولها المشرقية وتأثيراتها الغربية ـ خوليان ريبيرا (1980).
الوجه الآخر للطاهر مكي هو دوره العملي في الدفاع عن الحرية والكرامة الإنسانية وحق الوطن في الاستقلال والانضمام إلى قافلة بناة الحضارة والمنتجين للثقافة الأصيلة.

- 2 -
ما أردت أن أشير إليه هنا هو دوره الثقافي في توجيه النخبة إلى مواجهة الواقع المتردي للأمة العربية، ومقاومة عوامل التحلل والاندثار والفساد، وخاصة الفساد السياسي والثقافي الذي تسرب في خلايا الأمة بتقديم الفكر الزائف والأدب الرخيص والفن الهابط.
لقد بدأ دوره في الشأن العام مذ كان طالبا صغيرا في ربعه الريفي بكيمان المطاعنة التي كانت تابعة يومئذ لمديرية قنا، وصارت الآن تابعة لمحافظة الأقصر، بقراءة الصحف اليومية لأهل قريته وإن لم يفهم معظم ما يقرأ، ولكنه يؤدي دورا مهما يعني الناس ويشغلهم، ويسعون إلى فهم أبعاده، ثم مشاركته وهو طالب في المعهد الدينى بقنا في النشاط المعادي لدولة الاحتلال الانجليزي بالخروج في المظاهرات والهتاف ضد المحتل المتوحش، وتتاح له الفرصة في قريته ليقابل شخصية من أهم شخصيات زمانه وهو الإمام الشهيد - بإذن الله - حسن البنا فيصاحبه ويتعرف عليه وهو في مقتبل حياته، ويعجب بمنهجه وسلوكه ودقته ونظامه، وحين ينتقل إلى القاهرة للدراسة في المعهد الديني الثانوي يزداد معرفة به، وهو ما أهله ليكتب عنه أجمل مقال يترجم له في مجلة " الدوحة " القطرية، وسنعرض له بعد قليل إن شاء الله، ثم يتابع نشاطه في الانخراط ضمن المظاهرات الرافضة للاحتلال والاستبداد، وتشغله الدراسة والتخرج في دار العلوم والانبعاث إلى الخارج ( إسبانيا خاصة ) ويعود ليؤدي دوره معلما في الجامعة، ولكنه ليس أي معلم، إنه رائد في توجيه الشباب نحو المعاني الكبيرة والمثل العليا وبناء الأوطان على أسس الحرية والديمقراطية والعدل.
كانت مشاركاته في الحياة العامة خارج أسوار الجامعة سعيا لتحقيق هذه المثل وتلك المعاني لدرجة أنه انضم لحزب التجمع الذي يضم خليطا من اليسار واليمين والقوميين، ولكنه غادره قبل أن تصل به الحال ( أي الحزب ) إلى تحكم القيادة الشيوعية فيه وهروب آلاف المنتسبين إليه حين اكتشفوا ولاءه الحميم للنظام المستبد الفاشي نظير مكاسب تافهة مثل تعيين بعض قياداته في مجلس الشورى أو مجلس الشعب.
كانت رغبة أستاذي الطاهر مكي في الإصلاح والتغيير وبناء نظام ديمقراطي حقيقي من وراء هذه التجربة الحزبية التي لم تستمر، فقد جرّب أن يترشح لمجلس الشعب، ولكنه اكتشف طبيعة النظام الذي لم يكن مخلصا في حديثه عن الديمقراطية، وكان محترفا في تزوير الانتخابات وتمرير من يريدهم من النواب المصفقين والهتيفة حتى لو لم يحصلوا إلا على أصواتهم وأصوات المحيطين بهم دون أن يحصلوا على الأغلبية.
شارك الدكتور الطاهر في نشاط الحزب الثقافي وكانت هذه نقطة إيجابية إلى حد ما، وتولى تأسيس مجلة الحزب الأدبية واسمها " أدب ونقد "، وأخذت المجلة تمضي قدما في ظل تسامحه ورحابة صدره، وإيمانه بتعدد الآراء والاتجاهات، ولكن القوم - وكانوا يتولون إدارة التحرير والتنفيذ - غلب عليهم طبعهم الإقصائي، فحوّلوها إلى مجلة ذات اتجاه واحد، وانغلقت على دائرة معينة، وما كان من الرجل إلا أن ترك الجمل بما حمل، وأعتقد أن هذا كان آخر عهده بحزب التجمع الذي انهار بعدئذ انهيارا غير مسبوق !
واكتفى الرجل بعدئذ بكتاباته في بعض المجلات والصحف، يعبر عن أرائه في الشأن العام والشأن الثقافي، ويطرح أمنياته لتحسين الأوضاع هنا وهناك، وكانت السن المتقدمة تفرض نوعا من تقليل النشاط خارج الجامعة ليتركز حول التدريس ومناقشة بحوث الماجستير والدكتوراه والمشاركة في بعض اللجان الثقافية النوعية، فضلا عن المشاركة – بحكم العضوية - في نشاط المجمع اللغوي بالقاهرة.
ولا حظت أن آراءه التي تظهر في أحاديثه الصحفية ومقالاته التي ينشرها في العقدين الأخيرين تواجه ما يجري في الحقل الثقافي بوضوح قاطع، مما ترك أثرا أو رد فعل تمثل في تجاهله وعدم مشاركته في الأنشطة الثقافية الرسمية، وعدم منحه الجائزة الكبرى التي كانت تسمى جائزة مبارك وصارت تسمى جائزة النيل بينما حصل عليها من أهم أقل منه قامة وقيمة، صحيح أنه نال جائزة الدولة التقديرية، ولكن حين ينال الجائزة من هم أقل منه بكثير ؛ فمعنى ذلك أن الأمور مقلوبة، وليست سوية على صراط مستقيم. الرجل في كل الأحوال لا يعبأ بمثل هذه الأمور، فقد نذر نفسه للعلم، ويرى فيه لذة لا تعادلها لذة أخرى.
- 3 -
لا تتناقض مواقفه في القضايا العامة والثقافية مع سلوكه العام، ولا يبتعد عما يمليه الضمير الحي الذي يعرف مصالح وطنه وقومه، ويفقه طبيعة الفطرة والإنسانية في الصورة النقية، ويرفض الفساد والظلم والقهر، ويقف إلى جانب الطهارة والعدل والكرامة. وفي الوقت نفسه يتابع ما يجري على الساحتين المحلية والعالمية متابعة دقيقة، ليعرف أبعاد ما يحدث ونتائجه، ولذا تأتي آراؤه واقعية واضحة.
في العام الماضي صدر قانون يتيح لليهود العودة إلى إسبانيا بعد قرون من طردهم منها ولا يتيح للعرب والمسلمين الفرصة نفسها. وبـحكم أنه عاش في إسبانيا فترة طويلة في شبابه، وتابع تطورات الحياة فيها بعدئذ وعلاقته المستمرة عن طريق السفر لحضور المؤتمرات أو المناسبات، والاطلاع المستمر على أحداثها وأمورها كان جوابه العميق التالي مع بعض الإيجاز. يقول :
" من معجزات فرانكو أنه كان يرى أن سوءات العالم ثلاث: الصهيونية، والشيوعية، والماسونية. وكان يعتقد أن الصهيونية هي التي صنعت الشيوعية وصنعت الماسونية، لتصل إلى أهدافها، وتحقق مرادها. وبرغم كل الهجوم الأوروبي عليه، ورغم حملات حصاره، فإنه لم يسمح لهذه المؤسسات الثلاث أن يكون لها نفوذ في إسبانيا. لأنه كان يرى أن الصهيونية دعوة مخربة، وهي التي غذّت العالم بكل الأفكار التخريبية.
 وقال د. مكي : إن اليهود لهم طريقتهم في التسرب إلى الشعوب، وعندما علموا أن الإسبان يهتمون بثقافتهم، ويعتزون بها إلى أقصى مدى، أرادوا أن يتقربوا من الإسبان، فعيّنوا سفيرهم في البرتغال المشهود له بالثقافة سفيرا لهم في إسبانيا، ودخل قلوب الإسبان ليس بوصفه سفيرا، ولكن بوصفه مثقفا، فاستطاع أن يجمع الإسبان حوله.
استطاع السفير الإسرائيلي أن يحصل على موافقة رئيس الأكاديمية الإسبانية بزيارة الأسر اليهودية في إسرائيل التي كانت تتكلم الإسبانية القديمة وطردت.
بعد أن عاد رئيس الأكاديمية الإسبانية إلى وطنه إسبانيا كانت أول كلمة يقولها “إن من الغباء ألاّ تعترف إسبانيا بإسرائيل وهي مركز من مراكز نشر الثقافة الإسبانية في الشرق الأوسط”. وأردف أن من الأسباب التي أثارت حفيظة اليهود ظهور حركة في إسبانيا تدعو للاهتمام بالتراث الإسلامي، بدأت في أوائل القرن الماضي، وبدأت بشكل سهل، واستطاعت الحركة أن تنصف قليلا الحضارة العربية. وعلى إثرها صار الإسبان يدرسون الفترة العربية على أنها ليست استعمارا، و بدأوا يدرسون " الحكم الثاني " رجلا عظيما، و"عبد الرحمن الناصر" أعظم خليفة، و" مسجد قرطبة " أعظم مساجد العالم.
كل هذا أزعج اليهود وهم لا ينتظرون حتى تفاجئهم الأحداث، فبدأوا من خلال الكنيسة لتحقيق ما يريدون، مستغلين أن إسبانيا توجد بها حرية للدخول والخروج في ظل القانون الإسباني. وانتقد الدكتور مكي ركون العرب وكسلهم تجاه ما يحاك ضدهم من اليهود الذين لا يكادون يهمدون في سبيل توطيد مصالحهم ونفوذهم في العالم كله، برغم أن النصارى في إسبانيا يكرهون اليهود أكثر مما يكرهون المسلمين.
في ذلك الوقت كان لمصر معهد تنفق عليه، كان يرأسه رجل لا يؤمن إلاّ بنفسه، حتى إن إسبانيا شكت من أنه جمّد العلاقات الثقافية بين مصر وإسبانيا، وحال بين التواصل الثقافي بين إسبانيا ومصر. ( رأي اليوم 4/3/2014).
وفي حواره السابق يشخص أزمة الثقافة في مصر، بأزمة مثقفيها الذين جاء ثلاثة أرباعهم من القري حفاة، وبعد أن فتح الله عليهم وذاقوا طعم الترف، نسوا كل المبادئ التي كانوا يؤمنون بها، ويضيف: ما زلت مؤمنا أن من يتولون مسئولية الثقافة هم كارثة هذا الوطن، مشيرا إلى أن ظاهرة "عبده مشتاق" انتشرت انتشارا كبيرا في أوساط المثقفين، لذلك فهو يحس بشيء من الأمل عندما أقرأ أن فلانا اعتذر عن عدم قبول أحد المناصب.
وانتقد الدكتور مكي غالبية المثقفين الذين هم جاهزون ومستعدون في سبيل الوصول لغايتهم أن يرضوا بكل شيء، ويوافقواعلى كل شيء، ويدوسوا على كل شيء.
ويضرب مثلا على تراجع حركة النشر الثقافي بمؤسسة دار المعارف التي تركها سيد أبو النجا رئيس مجلس الإدارة في السنة التي أنشئت فيها مجلة أكتوبر، وكان بها من الرصيد نحو سبعة ملايين جنيه استرليني. وجاءوا بأنيس منصور الذي عيّنه السادات رئيسا لتحرير " أكتوبر "، فتراجعت دار المعارف وانهارت، وتوقفت كل السلاسل الناجحة مثل : تراث الاسلام، ذخائر العرب، المكتبة الأدبية وغيرها.
 أما مؤسسات النشر التابعة لوزارة الثقافة فهي لا تنشر إلا للصحافيين رهبة منهم، وسعيا لكسب رضاهم. وكانت النتيجة أن انهارت الهيئات الثقافية الحكومية، وبدا أنها غير جادة في نشر الثقافة. وأصبحت تطبع الأعمال الكاملة لمؤلفين لا تقرأ كتبهم.
وقال بأسى : توجد عندي وثائق بين مقاطعة كاتالونيا الإسبانية والدول العربية والإسلامية في القرن الرابع عشر، ولا أجد من ينشرها.
وردا على سؤال: كيف ترى تعثر ثورات الربيع العربي؟ أجاب د. الطاهر:
برغم أن خصوم الثورات العربية كثر وأقوياء، وعندهم خبرة في إفساد الثورات الطيبة،وبرغم كل المتاعب والبلاء، فإنني متفائل، ولكن الثمن قد يكون غاليا.
وفي حديث إلى صحيفة الجريدة الكويتية 5/8/ 2013 ،حدد الثقافة بأنها موقف ومن لا موقف له فهو ليس مثقفاً بل تاجر كلام. اليوم لم تعد ثمة مبادئ أو غايات محددة، وإنما ثمة من يبيع ويشتري ويستفيد، وتجده يرقص على كل الأنغام ويأكل على كل الموائد. إجمالا اختفى المثقف الحقيقي في مصر منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، والذين بقوا في الساحة إما اعتزلوا إذا كانوا من القدامى أو رحلوا، فيما تنقص الشباب خبرة وتجربة وقدوة.
وأجاب عن رأيه في قصيدة النثر بأنها مصطلح ينقض بعضه بعضاً، فالقصيدة لا تنسجم، قطعاً، مع النثر.
ويدلي برايه في أحوال الترجمة في الوقت الراهن فيرى أنها توقفت مع الجيل الماضي، مع محمد عبد الهادي أبو ريدة والدكتور محمد عوض وهما مترجمان عظيمان. ويشير إلى إحدى المؤسسات التي يفترض أنها أنشئت للترجمة خصيصاً حيث العجب العجاب، كأن يُنشر كتاب نشر في مكتبة الأسرة أو آخر مترجم منذ عشر سنوات أعاد مترجم آخر ترجمته، وأحياناً نجد المراجع يتقاضى أضعاف ما يتقاضاه المترجم.
ويجيب على سؤال لمجلة ( الوعي الإسلامي، العدد 570 – ديسمبر / يناير 2013 ) عن واقع الأدب العربي في الوقت الحالي بأننا نعيش على أدب أزمان خلت، حين كان العرب عربًا، أمَّا ما يملأ الساحة الآن فضجيج فارغ، وطبل أجوف، وسراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.. وعلى المستوى النقدي فطغيان الهزيل على الإبداع الجيد لا يفرز إلاَّ نقدًا مشوهًا.
ويرى ألا أحد هناك يحترم وقته وجهده يريد أن يهدر قواه فيما لا يفيد، أما السطحيون والتافهون فيكوّنون عصبة بالغة الخطر عظيمة الشر، وعلى من يتصدى لهم أن يعاني وأن يمضي وقته يدفع عداوتهم، هذا إلى جانب عدم وجود مجلة أدبية متخصصة ومحايدة وموضوعية تنشر لك ما تريده، حتى وإنْ أنفقت عليها الحكومة، ثم هي على أية حال محدودة التوزيع.. فما أهمية أن نكتب في مجلة يقتصر توزيعها على كتابها ومن يتوقعون أن ينشروا فيها مقالتهم؟!

- 4 -
كنت أود الاستطراد لبيان كثير من مواقف الرجل في القضايا العامة والثقافية، ولكن استعجال المطبعة لأنتهي من الموضوع يجعلني أكتفي بهذا القدر، وهو عظيم بالنسبة لرجل عظيم في زمن عز فيه المثقف العضوي الذي تحدث عنه الشيوعي الإيطالي جرامشي، أو المثقف الملتزم الذي صوره ونادي به الوجودي الفرنسي سارتر، أو المثقف المسلم ذو الضمير الحي كما دعا إليه القرآن الكريم.
لقد انتمى الرجل العظيم إلى دينه وقومه ووطنه، وكان مثلا في الشجاعة الأدبية ومواجهة الحقيقة المرة في بلاده بالتعبير الصريح عنها غير هيّاب ولا وجل.
لقد تحدث في مؤتمر للتواصل الثقافي مع إسبانيا ودول أمريكا اللاتينية، انعقد باتحاد كُتاب مصر منذ فترة عن ثمن الحرية للمثقفين والأدباء فأشار إلى ماجرى في أميركا اللاتيبنية وقال :
" إن ما حدث في الدول اللاتينية من أعمال قتل ونهب، هو أرخص ثمن للحرية الأدبية، وإن وضع أمريكا اللاتينية كان أسوأ من وضعنا الحالي بكثير، كانتشار الفساد المالي والإداري وجرائم القتل والنهب والسلب.
إن أمريكا اللاتينية من أكثر البلاد ديمقراطية الآن، ويؤمنون بالحرية الفرنسية، ويقدسونها، ما أدى إلى وجود عدد كبير من الشعراء والأدباء، وذلك لعدم وجود قيود عليهم، فكل منهم يستطيع أن يقول ما يؤمن به.
والدول اللاتينية تحترم الثقافة كثيرًا، فمعظم السفراء من المثقفين والأدباء، والثقافة عندهم أهم من الثروة، فدولة البرازيل التي كانت تقتل الأطفال الفقراء لتنظيف المدينة، هي الآن بلد ديمقراطي من الدرجة الأولى ".
لقد ظل عدة سنوات أستاذًا زائرًا بجامعة بوجوتا الكولومبية، وعايش آداب أميركا اللاتينية، وتعرف إلى الأدب المكتوب بالإسبانية في دولها، ورأى كيف دافع أدباء ومثقفو " جمهوريات الموز " كما كان تسمى هذه الدول احتقارا لحكامها الطغاة، عن الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، ودفعوا من أجل ذلك ثمنا باهظا حتى غدت معظم بلادهم اليوم في مصاف الدول الديمقراطية الحرة، وبعضها حقق تقدما اقتصاديا ملموسا.
 هذا الوعي بقيمة الحرية آمن به الدكتور مكي إيمانا كاملا في الوقت الذي تحول فيه كثير من المثقفين المصريين والعرب إلى مجرد بهلوانات وأراجوزات وصبيان عوالم يمسحون أحذية الديكتاتوريات والاستبداد، بل تحول بعضهم إلى مستوى لا يليق بشخص يحمل أمانة القلم لدرجة أن أعلن وزير أسبق بفخر مخادع أنه أدخل معظم المثقفين الحظيرة !
أما الدكتور مكي فقد ظل وفيا للعلم والمعرفة ثابتا على رأيه لا يرهب ولا يرغب، وكان في تواضعه ومروءته وشهامته مثالا للعالم الجليل والمثقف العظيم، الذي يحبه المنصفون، ويحسده الظالمون، ويجمع على قيمته أهل العلم والفضل، وهو ما جعله يستحق عن جدارة جائزة التميز من جامعة القاهرة (2009).
بارك الله في عمره وعلمه، مثالا للمعلم العالم العامل.
12/4/2015م
****



(*) أستاذ الأدب والنقد - كلية الآداب  –  جامعة  طنطا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك