الدكتور
الطاهر مكي
العمق
والبساطة .. وكسر الحواجز
يمر
الآن نحو خمسين عامًا، منذ سعدت بمعرفة الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي، حين وفد
إلينا في منتصف الستينات من القرن الماضي عائدًا من بعثته الدراسية في أسبانيا
متوجًا بالدكتوراه وبمعرفة غزيرة مبهرة وشخصية عميقة وبسيطة في آن واحد. وكنا ما
نزال طلابًا في منتصف مرحلة الدراسة الجامعية، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة.
تزامنت
عودته مع عودة مجموعة من شباب العلماء المبعوثين العائدين من جامعاتهم وراء البحار،
بعلم جديد وروح جديدة، ومناهج جديدة، ولغات أجنبية تشع مناهجها وبعض كلماتها من
وراء محاضراتهم، كان من بينهم آنذاك السعيد بدوى عائدًا من إنجلترا متخصصًا في
علوم اللغة، ومحمود الربيعي في النقد الأدبي من جامعة لندن، وحمدي السكوت في تاريخ
الأدب من جامعة كمبردج، وأحمد مختار في علم اللغة، وعبد الحكيم حسان في الأدب
المقارن من الجامعات الإنجليزية، والطاهر مكي في تاريخ الأدب من الجامعات
الأسبانية. ولحق بهم بعد فترة وجيزة محمد إسماعيل عبده ورجاء جبر من جامعة السربون
بفرنسا.
ومثل
هؤلاء العائدون في مجملهم كتيبة علمية تضخ دماء جديدة في مناهج دار العلوم، وتبعث
روحًا متوثبة بين أبنائها الطموحين، وتحلق بهم في المناخ نفسه لهذه الجامعات، يحلمون
باللحاق بها يومًا والارتشاف المباشر من ينابيعها. وكان لكل واحد منهم مذاقه
المختلف وطريقته المميزة في الأداء العلمي والسلوكي، وموقعه من طلابه وزملائه في
دار العلوم. وهى مذاقات تتفاوت فيما بينها، في درجات العلو، بقدر ما تتفاوت في
أنماطه، وكلها في نهاية المطاف كانت مفيدة ومدهشة.
شعرنا
في نموذج الطاهر مكي آنذاك، أنه يقدم مذاقًا جديدًا في العمق والبساطة وكسر
الحواجز، بينه وبين طلابه وخاصة النابهين منهم، ولم تكن هذه الصفات مألوفة في نظرتنا
إلى "جهابذة" الأساتذة الذين عرفت بهم دار العلوم في بداية النصف الثاني
في القرن العشرين، يغرسون المهابة في نفوسنا، وهم جديرون بها، ويقدمون نمط الخطاب المثالي
في الدرس والمحاضرة والتأليف والسلوك، وهو نموذج على أهميته. يجعل الحواجز قائمة
والمسافات مرعية والتواصل في غير الجوانب العلمية الخاصة شبه غائب، ومن ثم تقتصر
اللقاءات على قاعات الدرس. ومسائل المقرر درسا وتلقيًا. واستذكارًا وأداء في
الامتحانات، وتطلعًا إلى النتائج في نهاية العام. ولا يكاد اللقاء بين الطلاب
وأساتذتهم يتجاوز هذه الأطر.
وجاء
نموذج الطاهر مكي ليقدم لنا نموذج أستاذ يأكل الطعام ويمشى في الأسواق – ويلتقي مع
طلابه داخل الكلية أو خارجها ويدعوهم أحيانًا إلى اللقاء خارج الجامعة في
المنتديات الأدبية أو المقاهي الثقافية، فرادى أو مجتمعين، وكان هذا السلوك جديدًا
تمامًا على نمط العلاقات السائدة بين الأستاذة وطلابهم، وكان لذلك أثر بارز على
غرس الثقة في نفوس الطلاب المتميزين، والتحليق بطموحاتهم لكي يصبحوا يومًا ما مثل
هؤلاء الأساتذة الأجلاء المتواضعين.
أذكر
إنني ذات يوم في صيف عام 1967م، وكنت وقتها طالبًا في السنة النهائية بكلية دار
العلوم، اجتاز امتحانات نهاية العام، وأثناء خروجي من أداء امتحان أحد المقررات
بمبنى الكلية القديم بحي المنيرة، أو من "دار العلوم المنيرة" كما يحلو لي
أن أطلق عليها، التقيت بالدكتور الطاهر مكي في طريق الخروج من الكلية، فتكرم
بالمصافحة والمفاتحة، سائلاً عن الامتحانات وأحوالها، والنتائج وتوقعاتها، واحتمالات
الالتحاق بهيئة التدريس والقسم الذي أتوجه إليه لاستكمال الدراسات العليا وكلها
أسئلة تصب موجة من التفاؤل والترويح في أيام الامتحانات العصيبة تم عرض على في
أريحية وبساطة أن أقبل دعوته للغذاء معه في أحد مطاعم "وسط المدينة"
وعلمت أنه مطعم "الأمريكين" الذي يقع في ملتقى شارع 26 يوليو وطلعت حرب،
ويرى العابرون الجالسين فيه من علية القوم من وراء الجدران الزجاجية، فازدادت دهشتي
وسعادتي وضاعفها أن الأستاذ اقترح كعادته في هذه الأيام أن نقطع الطريق إلى المطعم
مشيًا على الأقدام من موقع دارالعلوم بالمنيرة إلى موقع المطعم، نتحدث كأي صديقين في
شتى شئون الحياة، وأدركت وقتها أن الأستاذ أيضًا قد يأكل الطعام ويمشي في الأسواق،
وأننا نحن البسطاء الذين نفعل ذلك بحكم موقعنا من الحياة، قد نكون أساتذة يومًا ما
.. وذلك جزء مما تمنحه دروس التواضع والبساطة عند الكبار عندما يمدون أيديهم إلى
تلاميذهم للصعود بها على أولى درجات السلم الطويل.
صورة
أخرى غرسها نموذج الطاهر مكي في نفوس الطلاب المتطلعين إلى الانخراط في سلك هيئات
الباحثين والعلماء، وتتمثل هذه الصورة في غرس بعض جوانب المرونة والواقعية، بل
وأكاد أقول "البساطة والإنسانية" المقبولة، ذلك أن الصورة التقليدية
للعالم "المهيب" كانت تمثل في أنه يشير إلى أكثر المسائل صعوبة، فيخترقها،
وإلى أكثر المراجع استعصاء فيشير إليها، وإلى أكثر التعبيرات تعقيدًا فيهيمن عليها
وهو تغير كثيرًا بأن لا يقع فى شبهة واحدة من شبهات اللغة.
ويفضل
بعضهم أن يكون الشكل شديد الصحة والتماسك، حتى وإن خلا الموضوع من كثير من ملامح
الجدة والتنوع والطرافة.
وجاء
نموذج الطاهر مكي، مكي يعدل كثيرًا من هذه الصورة النمطية التي كانت لها مزاياها
وما تزال، ولكنه أضاف إلى جانبها الصورة المرنة الواقعية التي تركز كثيرًا على جدة
وطرافة وتشعب الموضوع المثار وقد نقلت منها بعض جوانب الأحكام المألوفة من قبل في
أشكال الأداء.
ومن
هنا بدأت قضايا كالصحافة والإعلام تدخل عنده إلى مجال الدراسات الأدبية والنقدية، سواء
باعتبارها جوانب من مصادرها، أو جزءًا من قنوات توصيلها أو مادة مطروحة للدرس
والتنقيب فيها.
وفى
هذا الإطار قد يكون الطاهر مكي من بين أبناء دار العلوم، أول رئيس لتحرير مجلة
أدبية ثقافية معاصرة، ذات لون سياسي أو فكرى تقدمي أو يساري على حسب المصطلح الذي
يرضاه هذا الفريق أو ذاك.
ولم
يكن ذلك من المجالات التي رادها الدراعمة من قبل.
ويبقى من نقاط الصورة العامة التي رسمتها شخصية الدكتور الطاهر مكي
خلال مسيرته العلمية التي تجاوزت نصف القرن. أمد الله في عمره، ومتعه بالصحة
والعافية، يبقى من هذه النقاط مسألة التقابل الذي يطرح عادة، بين منهجين "
هما "منهجية توسيع المجال ومنهج تعميق الدائرة"، وهما منهجان لكل منهما
مزاياه، ونقاطه التي تحسب له أو عليه، ولقد اختار الدكتور الطاهر مكي المنهج الموسوعي،
في مؤلفاته المتعددة، ولم يقف عند حدود ما يمكن أن يسمى بإطار "الأدب الأندلسي"
الذي يتوجه إليه عادة القادمون من الجامعات الأسبانية، وإنما امتدت جهوده تأليفًا
وتحقيقًا وترجمته إلى معظم مجالات الأدب العربي والأدب المقارن، فأنت تراه مع
"امرئ القيس" مدافعًا عن إمارته للشعر الجاهلي، مهاجمًا من شكك في صحة
ما نسب إليه، ولو كان طه حسين، وأنت تراه مع المفضل الضبى، وحماد الراوية وابن قتيبة
وابن عبد ربه وأبى الفرج في "مصادر الأدب"، وتراه مع "ابن
حزم" في طوق الحمامة، ومع الأندلسيين عمومًا، حيث تتسع الدائرة الضيقة فينقل
إلينا من أخبارهم وخصائص أدبهم ما لم نكن نعهده من قبل، ونراه في العصر الحديث مع
القصة القصيرة ومختاراتها والشعر المعاصر وفرائده، ويقف أحيانًا مع شاعر كالبردوني
معليا كثيرًا من شأنه، ومع شعراء تجربة التفعيلة مقللاً كثيرًا من شأنهم، ولا يكاد
يترك لمسة إلا وله فيها رأى توافقه عليه أو تخالفه فيه، ولكنه لا يكاد ينتهي من
واد، حتى ينتجع واديًا جديدًا.
ولم
تكن مواقفه مع اللغات التي ينقل فيها أو يترجم أقل موسوعية فهو يعرف الأسبانية
معرفة جيدة، ويفيد منها ويترجم عنها، ولكنه لا يتوقف عندها، فلديها نوافذ تطل على
أخواتها من عائلة اللغات اللاتينية كالفرنسية والبرتغالية والإيطالية ولن تنعدم
محاولات له للترجمة عن بعضها، لكن هذه المحاولات تمتد أحيانًا إلى خارج هذه
الدائرة، فتجد روائع الإنجليزية والهولندية وغيرها تفوح هنا أو هناك وأمام هذه
الدائرة الموسوعية الواسعة التي تتحلى بالعمق مع الاتصال باللغات الغربية
والشرقية. نتوقع أن تكون إثارة الموضوعات، وفتح نوافذ الحوار، وتقديم ألوان مختلفة
من الفكر، هي الهدف المرجو. والذي لاشك قد أتى أكله وثماره لمئات الباحثين وآلاف
القراء، كما أتت الجهود الأخرى للدكتور الطاهر مكي ثمارها في مختلف المجالات.
متع
الله العالم الكبير بالصحة والعافية والعمر المديد، وجزاه خيرًا عن عالم الأدب والأدباء.
****