الطاهر مكي كما عرفته
د. محمد أبو الفضل بدران(*)
1.
«... كَادَ مِن شُهرةِ اسمِهِ لا يُسَمّى» البرودني.
ها هو البردوني متحدثا عن المتنبي، البردوني الذي ما
عرفناه لولا أستاذنا الدكتور الطاهر مكي ؛ فلماذا لا أستعير شطر بيته هذا لنبدأ
الحديث عن الطاهر مكي الذي «كَادَ مِن شُهرةِ اسمِهِ لا يُسَمّى» ؛ عندما كنت
طالبا في الفرقة الأولى بالجامعة تمنيت أن أراه بعد أن قرأت كتابه الرائد عن امرئ
القيس في مرحلة الثانوية، وشدّني هذا الكتاب إلى عالم أمير الشعراء لا منازع، ورحت
أقرأ ما كتبه عن دارة جلجل، ولأول مرة أحس حلاوة المعلقات، لقد أهداني بكتابه هذا
عشق الشعر الجاهلي، كيف يتجشم عناء السفر من القاهرة إلى قنا بالقطار، كان القطار
يصل إلى المحطة في الخامسة مساء ،
ها هو قادم كالرمح في مشيته المميزة، دخل القاعة في إباء وتواضع الكبرياء، وقال لنا :
ها هو قادم كالرمح في مشيته المميزة، دخل القاعة في إباء وتواضع الكبرياء، وقال لنا :
معذرة يا أبنائي فقد تأخر القطار، يا إلهي : الطاهر مكي
يعتذر لصبية قادمين من الثانوية، وكان هذا الاعتذار درسا في تواضع العلماء، ربما
لا يدري الأستاذ كم يؤثر في طلابه!
وبدأ الطاهر مكي يتحدث عن مصادر الأدب وراح يقدم لنا أبا
الفرج الأصفهاني وكتابه الأغاني، وكأنه كان صاحبه وملازمه، يضحك على المواقف التي
تعرض لها المجنون قيس، ثم يردف مبتسما : لم تكن ليلى جميلة ولا حاجة!! ولكنه العشق،
يفند الروايات ويحاكم الرواة والأسانيد، تخرج من المحاضرة وقد قرأت الكتاب دون أن
تلمسه.
2.
تدعوه لأمسية شعرية وقد أسسنا نادي الأدب والفكر بالكلية،
يأتي مكي ويستمع إلينا جميعا شعراء ومتشاعرين ثم ينقذنا في رفق وتشجيع، هنا كسر
عروضي، وهناك صورة غريبة لو ... ينتصف الليل، نمشى معه في شوارع قنا التي يحفظها
فقد درس بها فتى، يشرح لنا هنا سكنتُ وهنا تعرفت على المدينة إذ كان قادما من
المطاعنة وهي قرية بإسنا، فنداعبه في احترام "يا مرحبا بقنا وإسنا"
فيقول لنا ليس حفني ناصف وحده المنفي إلى الصعيد، يا ولدي ما يزال الصعيد منفى!!
يتحدث عن الصعيد بوله، وكأنه عمدة الصعيد، يحل مشكلاتهم ويجلس معهم في القرية، ويلاحقونه
في القاهرة، يضحك وهو يحكي لي، يجيئون إليَّ بالقاهرة؛ واستأذنت منهم في الصباح كي
أطبع امتحانا سيُوَزع بالكلية في التاسعة صباح اليوم، عندما عاد لم يجدهم بالشقة
في العجوزة حيث كان يقطن، ويعرف من أخيه المستشار عبد الستار رحمه الله تعالى أنهم
غادروا غاضبين "الطاهر سابنا في الشقة ومشى للشغل"!
3.
فى مدخل الحمراء كان لقاؤنا
ما
أطيب اللقيا بلا ميعاد
نجلس مندهشين في القاعة بقنا ؛ ونحن نتجول في قاعات قصر
الحمراء بالأندلس الذي يصفه لنا حجرا حجرا، بيتا بيتا، هذه الأبيات الشعرية، والمقولات
"لا غالب إلا الله" فوق جدران الحمراء، يحول قصيدة نزار قباني إلى لوحة
عشق وأسى للأندلس، نتخيل هذا الحوار الذي يقرّبه لنا ويصفه لنا وكأنه الراوي
العليم الذي صاحَب نزار قباني في الحمراء وفي جنة العريف، عندما زرتُ غرناطة ودخلت
الحمراء كان دليلي هناك الطاهر مكي، ورحتُ أردد قصيدة نزار "بصوت مكي في قاعة
الكلية:
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا
|
|
ما أطيب اللقيا بلا ميعاد
|
عينان سوداوان في حجريهما
|
|
تتوالد الأبعاد من أبعاد
|
هل أنت إسبانية؟ ساءلتها
|
|
قالت: وفي غرناطة ميلادي
|
غرناطة؟ وصحت قرون سبعة
|
|
في تينك العينين .. بعد رقاد
|
وأمية راياتها مرفوعة
|
|
وجيادها موصولة بجياد
|
ما أغرب التاريخ كيف أعادني
|
|
لحفيدة سمراء من أحفادي
|
وجه دمشقي رأيت خلاله
|
|
أجفان بلقيس وجيد سعاد
|
ورأيت منزلنا القديم وحجرة
|
|
كانت بها أمي تمد وسادي
|
سارت معى .. والشعر يلهث
|
|
خلفها كسنابل تركت بغير حصاد
|
يتألق القرط الطويل بجيدها
|
|
مثل الشموع بليلة الميلاد
|
ومشيت مثل الطفل خلف دليلتي
|
|
وورائي التاريخ كوم رماد
|
قالت : هنا "الحمراء" زهو
جدودنا
|
|
فاقرأ على جدرانها أمجادي
|
أمجادها؟ ومسحت جرحاً نازفاً
|
|
ومسحت جرحاً ثانياً بفؤادي
|
يا ليت وارثتي الجملية أدركت
|
|
أن الذين عنتهم أجدادي
|
عانقت فيها عندما ودعتها
|
|
رجلاً يسمى "طارق بن زياد"
|
4.
في عشقنا اعتمدنا على ابن حزم وطوق الحمامة بتحقيق
الطاهر مكي وكنا نتجول في قرطبة ونحن في قنا ونقول عن المحبوبة نقلا من شعر ابن
حزم :
أغارُ عليكِ من إدراكِ طرفي وأشفقُ أنْ يُذيبك لَمسُ كفَّي ...
ثم يقول لنا : تذكّروا أن قائل هذه الأبيات الفقيه ابن
حزم، كان يقول ذلك في الثمانيات فماذا يقول اليوم؟!
5.
يدعونا الأمير الفضل بن العباس الدندراوي للحوار والغذاء
على ضفاف النيل ببيته "ساحة النور" بدندرة، يتحول الطاهر مكي في حواره
من زعيم في حزب التجمع إلى صوفي حتى النخاع، كنتُ معيدا آنذاك، رأيته يناقش في
الأحوال والمقامات، ورأيت على وجهه سيم الرضا، تحدث الأمير الفضل عن أحوال
المسلمين في العالم ؛ وعما ينبغي أن يكونوا عليه، كان الأكل شهيا لكن الحوار أشهى
وألذ.
في أثناء عودتنا ترجّل مكي فوق كوبري دندرة الذي يربط
بين قنا الشرق ودندرة والترامسة الغرب، مشينا في معيته وكأننا المريدون في إثر
شيخهم، أو الحلاج وأتباعه على نهر الفرات مرددا :
واللهِ ما شرقتْ ولا غربتْ
|
|
إلا وذكركَ مقرونًا بأنفاسي
|
وما خلوتُ إلى قومٍ أحدَّثهم
|
|
إلا وأنتَ حديثي بين جُلاَّسي
|
وما هممتُ لشربِ الكأْس مِنْ ظمأ
|
|
إلا رأيتٌ خيالاً منكَ في كأسي
|
6.
استشرته قبل سفري إلى ألمانيا، نصحني بالسفر وأن تكون
أحلامك باللغة الألمانية، لكن لا تنس موضوع كتابك عن "الخَضِر"، كان
يتابع أبحاثي وأشعاري ويقوّمها في أبوة حانية أحيانا وقاسية في أحايين أخرى، وهو
يتمثل بالبيت الشهير :
فقسا
ليزدجروا ومن يك حازما فليقس
أحيانا على من يرحمُ
7.
حدثني عن الأدب الإسلامي المقارن، أستطيع أن أقول إنه
دلّنا على كنزل لم ننتبه إليه، هل كنا مندوهين بنداهة الغرب في الأدب المقارن، وكأن
مركزية الغرب في كل شيء حتى في الأدب المقارن، كيف لم نتجه إلى الأدب الإفريقي والأوردي
والتركي والفارسي وغير ذلك مما يجاورنا ونعيش في معيته دون أن نلتفت إليه، أرى أن
ذلك كان فتحا جديدا في الدراسات المقارنة ؛ وكم فرح بكتابي "الخضر في الآداب
العالمية" الذي قال لي : "هذا هو الكتاب الذي تمنيت أن أكتبه" فرحي
بمقولته فرح لا يوصف، كيف لأستاذ في قامته يشجع تلميذه بهذا الكلام، وكأنه نسي أن
هذا الكتاب وليد محاورات معه ونبت كتابه عن الأدب الإسلامي المقارن.
8.
يقرر أن يرشح نفسه لانتخابات مجلس الشعب عن محافظة قنا
ضد أمين حزب مصر الحاكم آنذاك، أقيمُ له أمسية في حبه بقريتي العويضات بقفط، يتجمع
أهلي والقرى المجاورة في مشهد لم تره القرية من قبل ؛ الجميع يتدافع للسلام عليه، الأطفال
يفترشون الأرض تحت جميزة المَلقَه كما نسمي ميدان القرية، يربط مكي بين مَلَقَة
العويضات و"ملقا" الأندلس وينشد الشعراء قصائد في مدحه يحثونه كي يمضي
في الترشح حتى يخلصنا ؛ يقول له الشاعر العامي ربيع فريد :
"يا
نور المنادرْ
يا
طاهر يا طاهرْ
يا
نائب بلادنا
كفاية
وجودكْ
وعلمك
وجودك
يا
نور المنادر"
ويقف الطاهر مكي وقد هاله هذا الجمع وهذا الحب ليقول :
"لقد كان أحمد شوقي يقصدني عندما قال :
قد
يهون العمرُ إلا ساعةَ وتهون الأرضُ
إلا موضعا
ويصفق له الحضور فيعلق على صِبية تسلقوا شجرة الجميز
العريقة أمام مندرتنا وهم يصفقون له فيطلب منهم أن يمسكوا بأطراف الشجرة حتى لا
يسقطوا وأنه مقدر حضورهم وفرحهم به راجيا في مودة أن يتركوا أمر التصفيق للأرضيين،
وتضج الملقة بالتصفيق والبهجة.
يأخذ من الأصوات ما يحقق له الفوز ولكن النتيجة نجاح
الآخر !!!
9.
عندما كنا طلابا في السبعينيات كتب الطاهر مكي في الصحف
والمجلات مطالبا بإنشاء جامعة في قنا، قابل المسئولين في حماس، وكان معه الدكتور
إسماعيل معتوق رحمه الله، ولم يكن أحد يعتقد في جدوى ما يكتب لكن تحولت الكليات
الثلاثة إلى فرع لجامعة أسيوط ؛ ولم تفتر همته بل دافع حتى تحقق له في 1995 إنشاء
جامعة جنوب الوادي في قنا، كلنا في الجامعة مدينون لهذا الرجل.
10.
تعدّ طالبتي منى عبد العظيم رسالة ماجستير عن الطاهر مكي
مبدعا وناقدا، يكتب لها سيرته الذاتية في صفحات قليلة، فأقول لها : ليته ما سكت، إنه
لا يود أن يتكلم عن نفسه، لديه مخزون من المعلومات والأسرار، متى يبوح به، ومتى
يكتب سيرته الذاتية؟ ستكون مرجعا لحقب لم نعشها وخبايا لمّا تكتشف بعد، متى تبدأ؟
11.
كم كان فرحا وهو يقرأ مقالاتي عنه في الحياة ودراسات
ثقافية وفي "العرب" اللندنية، وغيرها يهاتفنى شاكرا، وهو لا يعرف أني
اتخذته قدوة لي منذ أن قرأته، عندما أتصفح ما كتب أوقن أن هذا الرجل قد جاء في زمن
ليأخذ أمثالنا إلى العلم، وعندما أرى نصف مليون من الشباب تخرّج من جامعة جنوب
الوادي منذ كانت فرعا لجامعة أسيوط أوقن أن هذه هي الصداقة الجارية والعلم الصالح
الذي ينتفع به، وأن أبي عندما قال له «لا تنسنا من دعائك» كان في قلبه أن «العلماء
ورثة الأنبياء».
****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك