تعليم اللغة العربية
إشارات إلى الواقع ومنطلقات إلى المستقبل
مع الاشارة إلى دور دار العلوم فى ذلك
د. محمد عبد المجيد الطويل(*)
إذا كان التعليم قضية حياة واستمرار، فإن قضية تعليم
العربية قضية حتمية لا محيد عنها ولا بديل لها؛ فاللغة العربية كما تعلمون هي
اللغة القومية للبلاد العربية وهي بحكم الحاضر والمستقبل ـ رمز هويتنا في عالم
تتعالى فيه صيحات العولمة، وتتوالى فيه ـ بكل أنواع الضغوط ـ محاولات طمس ثقافتنا
الوطنية.
اللغة العربية
هي الرباط الذي يربطنا بتاريخ أمتنا العربية والإسلامية وبدورها الحضاري في نشر
العلم المدنية، وهي العامل المشترك الأعظم الذي يجمعنا بالعالم العربي، بها نتفاهم،
ونتعاون، ونتثاقف.
ولن يتحقق للعالم العربي نهضة تعليمية شاملة وتقدم علمي
معايش للتطور العلمي في الدول المتقدمة بغير لغتنا القومية، بل لا نعرف دولة تحققت
لها سيادتها واستقلالها بلغة غير لغتها القومية.
إن غياب الاستعمال الحيّ للغة العربية وعدم تداولها وضعف
البحث اللساني التطبيقي ونفور العرب من استخدام لغتهم في الشارع والتواصل اليومي
جعل اللغة العربية تتراجع يوما عن يوم. وليس وضع العربية في دور التعليم أحسن
حظًّا منه في أية بيئة أخرى عامة أو خاصة، كالهيئات والمؤسسات الرسمية وغير
الرسمية والمنـزلية والشارع ...إلخ فقد تعوّد المعلمون في كل المواد على تقديم موادّهم
وشرْحِها بخليط من الأداء اللغوي فيه من العامية والألفاظ المحرفة أكثر مما فيه من
الفصحى. وانضم إليهم في ذلك للأسف الشديد كثير من معلمي اللغة العربية، وتجري
المناقشة بينهم وبين الطلاب بهذا الخليط المشوَّه من الكلام.
يحدث هذا على الرغم مما تمثله دور التعليم من قدوة ومثل
أعلى يُرجى منه أن ينصلح حال اللسان العربي على يديه.
في الوقت الذي أمكن فيه التحكم في كثير من الظواهر بشكل
علمي فإن أمور حياتنا اللغوية ما تزال في أغلب جوانبها بعيدة عن الأسلوب العلمي
الجاد، ومن هنا نقول إن تعليم اللغة العربية في حاجة الآن إلى كثير من الدراسات
العلمية الواقعية المتنوعة التي تتناول بأسلوب علمي فلسفة تدريسها ومداخل تعليمها
وطرائق تدريسها.
وفي الوقت الذي تغيرت فيه النظرة إلى اللغة وإلى تعليمها
من كونها مجموعة من المعلومات والمعارف اللغوية الأكاديمية التي يتعلمها
التلميذ عن اللغة إلى كونها أداءً لغويًّا يستند إلى مجموعة من المهارات
اللغوية، و من المعلوم أن النظر إلى تعليم اللغة بوصفها مهارة يختلف تمامًا عن
تعليمها بوصفها مجموعة من المعلومات والمعارف المتفرقة، لذا نعجب من أننا نجد
أنفسنا ما زلنا ندور في الفلك التقليدي لتعليم لغتنا دون مدخل علمي وهو العرف الذي
استقرت عليه المناهج منذ سنوات طويلة في تعليم اللغة العربية في كل الدول العربية
تقريبًا، ونادت مؤتمرات التطوير بإعادة النظر فيه، هذا العرف الذي يفصِّل المادة
إلى فروع متوازية هي القراءة والنحو والأدب والنصوص والإملاء والتعبير...إلخ وهو
عرف لا يتمشى مع كون اللغة العربية كلاًّ متكاملاً وأن النمو اللغوي عملية تكاملية
تراكمية.
لذا فالرؤية المقترحة رؤية جديدة لتعليم اللغة في ضوئها
يمكن إعادة النظر بشكل جذري وثوري في تعليم اللغة العربية فيى مدارسنا بحيث تتغير
الصورة تمامًا إلى الدرجة التي يمكن أن نكتشف معها أننا لم نكن نُعلِّم اللغة على
الإطلاق لأننا كنا ننطلق في تعليمها من غير منطلق علمي، وفي غيبة منظور علمي يستند
إلى مبادئ وحقائق وأسس ومسلمات لا تقبل الجدل.
إن البداية الصحيحة لكل من يتصدّى لتعليم اللغة وتدريسها
أن يتعرَّف بوضوح وبشكلٍ إجرائي مدخلَه العلمي الفلسفي وطريقته وفنِّيَّاته
وإجراءاته لتدريس اللغة وتعليمها .
مع القرن العشرين وازدهار الثورة الصناعية و تطور
الاكتشافات العلمية والتقنية، أضحت اللغات الأجنبية وخاصة اللغة الإنجليزية ذات
قيمة كبرى في التواصل ونقل التكنولوجيا. واقترنت هذه اللغات بتطور الاقتصاد
الرأسمالي والمخترعات الحديثة وتقنيات التواصل الرقمي والفضائي والإعلامي، و ترتب على
هذا أن أصبحت اللغة الإنجليزية أداة للتدريس في الجامعات والتكوين والتراسل
والدخول في العولمة واستيراد الأسلحة ونقل نتائج الطب ونظريات العلوم والآداب. وهُمِّشَت
اللغات الوطنية للشعوب المغلوبة على أمرها كالدول العربية والإفريقية والآسيوية.
وكل من أراد أن يتحضر أو يريد الحصول على الشغل فلابد أن يتمكن من اللغات الأجنبية
لمسايرة متطلبات الانفتاح وجدلية التواصل وخصوصيات العالم الجديد الذي يسبح في
قرية صغيرة وعالم جديد ذي القطب الواحد.
إن مؤسساتنا ومعاهدنا وجامعاتنا التي لم تعد قادرة على
مواكبة التطورات العلمية الهائلة والمخترعات التقنية العديدة التي شهدتها العقود
الأخيرة وخاصة في مجال المعرفة الرقمية والاتصالات والاقتصاد. وأصبحت اللغة
العربية عاجزة عن منافسة اللغات الأجنبية ومن بينها الإنجليزية التي أصبحت لغة
العلم والتكنولوجيا. والسبب في ذلك قصور العرب والمسلمين عن الإبداع والاختراع
والاكتشاف، والاتكال على الغرب في استيراد النظريات ونقل التكنولوجيا والمعارف
العلمية التي استوجبت الإلمام بهذه اللغات للتدريس بها، والتعامل بها في الأسواق
والإدارة ومراكز التعليم. وكان من نتائج هذا أن تخلى الباحثون العرب والعلماء
المسلمون عن توظيف اللغة العربية لأنها لم تعد لغة العلم، كما أن جل المخترعات
والمنجزات المعرفية والفنية والأدبية تكتب باسم أصحابها وبمصطلحات أجنبية من الصعب
ترجمتها أو تعريبها أو تحويرها توليدا أو اشتقاقا. كما أن اللغة لها علاقة جدلية
بالفكر، فكلما كان هناك إبداع فكري متطور كانت اللغة على حال هذا الفكر، وكلما
انحط الفكر كانت اللغة على منواله منحطة ومتخلفة وعاجزة عن المواكبة والمسايرة.
إن من الأسباب التي تجعلنا أيضا غير قادرين على الإبداع
العلمي والإنتاج التكنولوجي والثقافي باللغة العربية تبعيتنا للغرب حيث أصبحنا
نسير في فلك دول المركز نستورد كل شيء من هذه الدول المتقدمة، ومن ثم صرنا عالة
على غير مستهلكين غير منتجين ولا مبدعين.كما أن انعدام الوعي وعدم الثقة في
قدراتنا وعدم الاعتزاز بلغاتنا يمنعنا من التعبير بالعربية ونلتجئ إلى اللغات
الأخرى قصد إعداد البحوث والمقالات والكتب قصد اللحاق بالركب الحضاري العالمي .
وقد دفعت العولمة كثيرا من اللغات الوطنية للشعوب الضعيفة
المغلوبة أوالتابعة لدول الشمال أو المنطوية على نفسها انغلاقا وحصارا إلى
الاندثار والموت، وبالتالي تعززت اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة الحضارة والحياة
المعاصرة والتواصل العالمي؛ مما أثر ذلك سلبا على الإنسان العربي ولغته التي لم
تعد قادرة على المواكبة الفورية للمستجدات المعرفية والعلمية والتقنية المعاصرة
الهائلة في زخمها الإنتاجي بعد تطور الوسائل الرقمية والأقمار الفضائية الاصطناعية
بسبب انعدام الاستراتيجيات السياسية والتربوية الحقيقية الكفيلة بتطوير اللغة
العربية وتهذيبها وجعلها لغة العلم والتقنية والتدريس والمعاملات الإدارية
والاقتصادية.
إن كلية دار العلوم جامعة القاهرة تحمل على عاتقها على مدى أكثر من مائة وأربعين عاما همومَ العربية وقضاياها،
وقد عقدنا عدة مؤتمرات وندوات تتدراس أمر اللغة العربية وواقعها ومستقبلها ومستقبل
تعليمها، وكان من آخرها مؤتمران لهما علاقة بما نتحدث عنه ؛ أما الأول فكان بعنوان
اللغة العربية في التعليم العام، وعقد عام 2004م، وأما الثاني فكان بعنوان التعليم
باللغات الأجنبية في العالم العربي، وعقد عام 2006 م، اجتمع في كل مؤتمر أربعون
باحثًا عربيًّا من الكويت وسوريا والأردن والسعودية واليمن و مصر والسودان و ليبيا
والمغرب، ومن علماء التربية والنفس والاجتماع واللغة.
وقد خرج المؤتمران بعدد من التوصيات من أهمها :
1) وجوب الانطلاق إلى منظومة الإصلاح اللغوي على المستوى
العربي من خلال الاتفاق على تبني آليات مناسبة في تطوير مناهج اللغة العربية في
التعليم العام والعالي، إلى جانب دراسة تجارب تعريب العلوم في بعض بلادنا العربية
من باب الدعم والتشجيع والإفادة، إلى جانب وجوب النظر في دور خريطة الإعلام في
سياق نشر لغتنا بين أبنائها على غرار ما تصنفه بعض المراكز المتخصصة من نشرها بين
الناطقين بغيرها بصور منهجية عصرية جادة.
2) تجاوز قضية التوصيات وثقافة الكلام إلى ثقافة الإنجاز
والعمل، والاتجاه إلى تحديد مشروعات، وصناعة برامج عمل عربية، تمثل إرهاصًا
حقيقيًّا للتكامل العربي المنشود باعتباره الخيار الوحيد لأبناء هذه الأمة حين
يصححون المسارات التعليمية عبر برامج الإصلاح من الداخل، مع رفض أي تدخل أجنبي أو
ضغوط من الخارج أيا كانت صورها ومصادرها في مناهجنا العربية، وإن حدث عرضًا، نتيجة
احتلال أو هيمنة مؤقتة، فمن المتوقع أن يظل الأمر بمثابة جملة اعتراضية لا تعطل
مسار الذاكرة القومية، حين تجنح إلى الاحتفاظ بأغلى ممتلكاتها وأبرز مقومات الهوية
والكيان لدى أبنائها بما يجب التنبه إلى ما ورائها من أخطار يجب تداركها على
الفور.
3) إعادة النظر في مناهج مدارس اللغات، وتنقيتها، وبسط
سيادة الدول العربية ممثلة في وزارات التربية والتعليم في الوطن العربي على مقررات
هذه المدارس، واساليب التقويم فيها، واعتماد درجاتها العلمية، وأن يكون للغة
العربية موضع الصدارة في هذه المدارس، ولا تُهمل أو تُحْصَر في زاوية ضيقة.
4) يُخاطَب القادرون والغيورون على العربية من أبناء هذا
الوطن وهم كُثْر، في محاولة إنشاء مدارس حديثة بمصروفات، تقوم بتدريس اللغة
العربية واللغات الأجنبية، ويُراعى فيها مظاهر الجذب الموجودة في المدارس الأجنبية،
ويقترح المؤتمر أن تدخل هذه المدارس تحت منظومة التعليم الموازي، ويخضع لإشراف
الدولة ووزارة التربية والتعليم، ويتمتع طلاب هذه المدارس بنفس الامتيازات
الممنوحة للطلاب في مدارس اللغات الأجنبية.
5) محاولة وضع منظومة تعليمية متكاملة ذات خطوات علمية
محددة تقود كل واحدة إلى الأخرى، ووضع الخطوات الإجرائية والتنفيذية لهذا المشروع،
ثم يُطبق على بعض الدول العربية، ويعمم فيما بعد.
6) للتعليم رافد واحد، ويترتب على تعدد الروافد التعليمية
ضياع شخصية اللغة ثم الأمة، ومن ثَمَّ يتأثر الرأي العام.
7) أن تتم الاستعانة بآلات التقنية الحديثة، والحاسوب،
ووسائل الجذب في شد انتباه التلاميذ، وإصلاح حال المعلم، والارتقاء به نفسيا
وماديا وعلميا وإلمامه بعلوم العصر وفنونه، فلابد من تزويد معلمي اللغة العربية
بثقافة العصر وتدريبهم على استخدام أحدث التقنيات في تدريس العربية .
8) ضرورة الاهتمام بالترجمة بوصفها أداة للتفاعل بين
الثقافات، ونقل معارفنا وعاداتنا وقيمنا إلى الآخر، وكما نأخذ نعطي، ويصل إلينا
فكر الآخر، ومظاهر تقدمه العلمي، ويراعى إسهام الكليات المعنية بدراسة اللغات
والترجمة في هذا الجانب، وبيان البحوث الحديثة، ووسائل التشويق والجذب، والعوامل
التي تلقي في نفوس الطلاب حب لغتهم القومية، والأخذ بقدر مقبول من اللغات الأخرى.
9) على وسائل الإعلام بث الوعي، ونمو الشعور القومي في نفوس
أبناء العربية وإقناعهم بأنها لا تقل أهمية عن غيرها من اللغات التي يعتز بها
أهلها، ويستعملونها في تدريس العلوم النظرية والتجريبية.
10) زيادة مساحة عدد الساعات التي تستخدم العربية في وسائل الإعلام
لترسيخ ملكات النمو اللغوي والمهارات اللغوية والقدرة على الإبداع لدى الطلاب.
11) بناء أهداف تعليم اللغة العربية في مراحل التعليم العام
على نحو محدد قابل للتطبيق، مع مراعاة النظر المستقبلي في إعداد هذه الأهداف.
12) جعل اللغة العربية لغة التعليم الجامعي والعام في جميع
التخصصات في البلاد العربية؛ حفظًا للهوية العربية والإسلامية، وتفعيلا لإبداع
العقلية العربية.
13) الدعوة الملحة إلى تكامل الجهود العلمية في البلاد
العربية في سبيل إنشاء مركز لعلم اللغة التطبيقي، يقوم بمهام البحوث التطبيقية، ويعمل
على الإفادة من بعض المعطيات التي تتوافق مع لغتنا الشريفة، وذلك من أجل تجاوز
مبدأ التنظير إلى ميدان التطبيق في حقل تعليم اللغة العربية.
14) تخصيص بعض المدارس في المراحل التعليمية المختلفة لتجريب
طرائق التدريس الجيدة، ومن أهمها التعلم التعاوني، حل المشكلات، التعلم بالنشاط.
15) بناء جسور من العلاقات بين وزارات التربية والتعليم، وبين
أقسام اللغة العربية في الجامعات العربية؛ للإفادة من الكفايات الأكاديمية في تلك
الأقسام عند بناء المناهج وتأليف الكتب الدراسية. إن تعاون اللغويين والتربويين
والعاملين بالتعليم أمر ضروري لتحقيق أهداف العملية التعليمية وتطويرها باستمرار.
16) إن اللغة العربية ليست ـ ولا ينبغي أن تُعَدّ ـ فحسب
مادة دراسية كغيرها من المواد التي تدرَّس بالتعليم يمتحن فيها الطالب ويقدر على
استظهارها، بل هي أداة للتعليم في كل مراحل حياة الطالب في المدرسة وفي الجامعة، وفي
العمل وفي كل شئون الحياة . إنها أداة يفكر بها ويعبر بها ويؤثر بها، بل قل يقضي
كثيرًا من حاجاته بها.
17) إذا كان للغة العربية هذا الدور المؤثر في حياتنا
التعليمية والعلمية والثقافية فلابد أن تلقى دعمًا وعناية من كل أفراد المجتمع
وهيئاته ومؤسساته جميعًا لا مسئولية الوزارة المعنيَّة فحسب أو مسئولية معلم
العربية وحده، وينبغي ألا تُزاحَم بالعامية أو يُسْتَبْدَل بها غيرها من اللغات.
****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك