السبت، 16 أبريل 2016

الدكتور الطاهر أحمد مكي كاتبًا





الدكتور الطاهر أحمد مكي كاتبًا

د. شعبان عبد الجيِّد(*)

الطلاب الذين يدرسون اللغة العربية في جامعاتنا، والقراء الذين يرغبون في فهم طبيعة الأدب والإلمام بموضوعاته وقضاياه، يصابون بخيبة أمل كبرى حين يلجأون إلى ما يكتبه أساتذة الأدب عندنا، علّهم يجدون لديهم ما يعينهم على تذوق النصوص الغامضة وحل المشكلات المستعصية، فيفاجأون بنمطٍ غريبٍ من الكلام، ولون عجيب من النقد، تُعقَل مفرداته ولا تفهم مركباته، فهو معقد وغامض، يدابر العربية ويخالف روحها، وإن تلبس بردتها واستعار أحرفها، وتعجب له : أأعجمي وعربي ؟! وتذكر معه قول ذلك الأعرابي الذي حضر مجلساً للأخفش: «أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا ما ليس من كلامنا».
وكنا نحسب أن الناقد شارحٌ كبير، وأن التفسير من مهمات النقد الأولى، فإذا به طلاسم وأحاجي، ينفِّرك بأرقامه وإحصاءاته، ويحيرك برسوماته وجداوله، ويدخلك في متاهة عقلية مربكة، ولا تفرغ منه حتى تشعر بالدوار والغثيان . أما من سلم من هذه الآفات والعاهات، فكلامه جافٌّ بارد، مثل جدول الضرب ؛ لا يثير حساً ولا يهيج خاطراً، وشذ من النقاد من صَفَتْ لغته، ورقَّ أسلوبه، واستقام بيانه، ووجدتَ في قراءته لذة ومتاعاً.
والدكتور الطاهر أحمد مكي، أستاذ الأدب والنقد في كلية دار العلوم، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، واحدٌ من أبرز هؤلاء النقاد الأدباء، وأسلوبه في الكتابة نسيجُ وحدِه ،وهو يمثل مدرسة في فن المقالة والدراسة الأدبية، تستحق أن نتوقف عندها، لنرصد بعض خطوطها ومعالمها، ونعرف بأبرز سماتها وخصائصها، وهذا ما تحاول هذه السطور الخجلي أن تضطلع به، وترجو أن توفق فيه .
ثمة حقيقة يجب أن نبدأ بها ونتفق عليها، وهي أن الأدب العربي، منذ أن كان إلى الآن، لم يعترف بغير الفصيح البليغ، وما كان فيه معقداً غامضاً، أو ركيكاً رذْلاً، عرف طريقه إلى الإهمال والنسيان، وذهب بذهاب أصحابه، فالناس لا يرددون إلا ما يلذهم ويمتعهم والأجيال لا تبقى في ذواكرها إلا ما هو جميل وواضح، والحقَّ أقول لكم : إن ما ليس جميلاً ليس أدباً، وما ليس واضحاً ليس عربياً .

·      دراسة في مصادر الأدب :
عرفت الدكتور الطاهر مكي مبكراً، وأنا طالب في المرحلة الثانوية، أيامها كنت قد عرفت طريقي إلى كتب الأدب والنقد، وقطعت شوطاً لا بأس به في قراءة القصص والروايات والدواوين . وكنت أتابع عدداً من المجلات الأدبية والثقافية، من بينها مجلة " الهلال " ومجلة " أدب ونقد "وكان الدكتور مكي من أشهر كتاب الأولى، ورئيس تحرير الثانية، ومن خلالهما بدأت رحلة القراءة له . عرفته في البداية مقالياً من الطراز الأول، واسع المعرفة، متعدد الاهتمامات، صاحب نزعة اشتراكية ظاهرة، يكتب كثيراً عن هموم وطنه المصري، ويلمس برفق مواجع أمته العربية، ويبصر قراءه بما يجري في بلادهم . يعشق الحرية والكرامة، ويتمناهما للجميع، ويكره الظلم والاستبداد، على أي صورة يجيئان، ولا أزال أذكر مقاله " في المدرسة تكون البداية "، الذي ذهب فيه إلى أهمية أن نعني بالثقافة والفن، وأن نحول دون أن يدع أبناؤنا المدرسة، أو يتخرجوا في الجامعة، ولم يقرءوا غير الكتاب المقرر، وهو رديء، والمذكرات الملخصة، وهي مشوهة، وتمنى على وزارة التربية أن تبدأ، ولو بمكتبة واحدة، في مدرسة واحدة، في مكان ما من القطر، وستكون المحاولة، والنجاح فيها، باعثاً على السير في نفس الطريق ... فلنبدأ إذن، ونتقدم بالأمر خطوة، بدل أن نتحاور حول واقعنا الثقافي ومرارته وتخلفه ونقف عند هذا الحد، ولأن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف مرة ... إلى آخر هذا الكلام الذي كان جديداً على عقلي في تلك الفترة ؛ لغة وفكراً وأسلوباً .
أيامها، وبمصادفة بحتة، وقع بين يدي كتابه " دراسة في مصادر الأدب "، كان نافذةً واسعة على أمهات الكتب الأدبية القديمة، وهو الذي عرَّفني، ولأول مرة في حياتي بـ " طبقات فحول الشعراء " لابن سلام الجمحي، و " الحيوان " للجاحظ، و " الكامل " للمبرد، و«الشعر والشعراء» لابن قتيبة، و " العقد الفريد " لابن عبد ربه، و " الفهرست " للنديم، و«الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» لابن بسام ، و" نفح الطيب" للمقَّري، أما كتاب " البيان والتبيين" للجاحظ و " كتاب " الأغاني " لأبي الفرج الأصفهاني، وقد عرض لهما بشيء من الدرس والتفصيل، فكنت أعرفهما جيداً، قرأت الأول كاملاً حين اشتريت نسخة قديمة منه، وطالعت نتفاً من الثاني وأنا أقلب في مكتبة المدرسة .
شدني ذلك الكتاب إليه شداً، ولم يهدأ لي بال إلا بعد أن ذرعته من الألف إلى الياء. يسر لي هذا لغتُه السهلة البسيطة، وأسلوبُه العذب الرقيق، ومادته الغزيرة المتنوعة، وكانت هذه فاتحة الخير لقراءة واسعة وعميقة في بقية ما أخرجه الدكتور مكي من كتب ودراسات ومقالات . وحين التقيته للمرة الأولى، منذ خمسةٍ وعشرين عاماً، تأكدتُ من صدق ما يقوله الفرنسيون من أن الأسلوب هو الرجل، ليس في فكره ومزاجه فحسب، وإنما في سلوكه ومظهره أيضاً، فهو سمح وبسيط ومتواضع، ويكاد في كل حركاته وسكناته أن يقول لك : " وما أنا من المتكلفين " . وقد تأكد لي ذلك حين توثقت علاقتي به، وطالت صحبتي معه، وشَرُفتُ بإشرافه عليَّ في مرحلتَي الماجستير والدكتوراه ؛ كان صاحب مذهبٍ وعقيدة ؛ وله طريقةٌ خاصةٌ في عرض آرائه وأفكاره ؛ بيد أنه لم يطالبنا يوماً باعتناقها أو الترويج لها، وتركنا أحراراً فيما نقرأ أو نكتب ؛ وعلى الإجمال : لقد علمنا هذا الرجلُ العظيمُ كيف نمشي ؛ ولكنه لم يُكرِهْنا على السيرِ في طرقٍ بعينها !
˜ أسلوبٌ مختلف :
وتقرأ كتبه كلَّها، على كثرتها وتنوع موضوعاتها، فيدهشك هذا التمكنُ الواضح من الفكرة، والسلاسة الظاهرة في الأداء، وتشعر بعد قراءته بأن كلامه جد مختلف ؛ فالجمل قصيرة ورشيقة، والمعاني كثيرة وعميقة، لا مكان للحشو والهذر، ولا وقت للثرثرة والتكرار، فكل لفظة في موضعها، وكل عبارة في سياقها، والفِقَرُ جميعُها مُحكَمة متقنة، يمسك بعضها برقاب بعض، ويؤدي أولها إلى آخرها في نعومة وهدوء، فلا قلق ولا تعاريج ولا نتوءات، وإنما كلامٌ رائقٌ طيِّع، يستجيب لقارئه انقياده لكاتبه، بيد أنه السهل الممتنع حقاً ؛ تغرك بساطته فتظنه قريبَ المورد ميسورَ التأتي، حتى إذا حاولت مثله امتنع على عقلك واستحال على خاطرك. وتقرأ كتاباته كلَّها فتذكرك بما قاله البحتري :
حُزْنَ مستعمَلَ الكلام اختياراً

وتجــنَّبنَ ظُلــمةَ التعقيدِ

وركِبْن اللـــفظَ القريبَ


فأدركْن به غايةَ المـرادِ البعيدِ
 
واقرأ له هذه السطور التاليةَ التي كتبها عن نزار قباني «شاعر الحب والأنغام الراقصة» لتعرف أن أسلوبه كما وصفنا وزيادة :
" في الطَّور الأول جاء شعره غزلياً خالصاً، ولا ضير في هذا ولا ملامة، فكل الشعراء يندفعون إلى هذا الاتجاه في سني صباهم . تشدهم إلى المرأة غريزة دافعة، تلهب أوارها مجتمعات محافظة، تجد في رؤية المرأة عيباً، وفي التحدث إليها إثماً . وفي معايشتها جريمة، وبقدر ما تكون هذه الموانع قوية صادة، والأستار صفيقة حاجبة، وموهبة الصبي الناشئ مرهفة حادة، واستعداده للشعر قوياً مبهراً، يكون حديثه عنها قوياً، وحتى فاضحاً إذا شئت، ولا أظن أن نزار كان نسيجَ وحدِه في هذا الاتجاه، وإن اهتم دون غيره بتسجيل هذه الأشعار ونشرها، على حين قالها آخرون ثم طووها، خوفاً ورهبة، أو خجلاً واستحياء، ومداراة وتوقراً كاذباً، فظلت تروَى شفاهاً، ثم ضاعت مع غياب أصحابها والرواة، لأن أصحابها لم يمتلكوا الموهبة التي تقدم الصورة المثيرة غير المعهودة، عن جمال المرآة، في لفظ يشف ولا يسف، يشى ولا يكشف، يلمح ولا يخدش، يكني ولا يصرح، لم يقدر لشعرهم أن يجد طريقه إلى الذوق العام قبولاً واستحساناً، وأن تسجله الصحف والمجلات والكتب دون أن تجد في ذلك حرجاً .... " (1)
هذا لونٌ من الكلام الرائق، قل مثلُه وعز نظيره، ونمطٌ من البيان الشائق، يشير إلى صاحبه ويدل على منشئه ؛ له حلاوة الأدب الرفيع، وعليه طلاوة الفن البديع . صيغ بلسان عربي مبين، فلا غموض ولا التواء، وصدر عن عقل ناضج رزين، فلا فهاهة ولا ادعاء .

˜ ثقافة واسعــة :
وليس شيءٌ من هذا غريباً من رجل حفظ القرآن الكريم كله وهو على أبواب العاشرة، وتربي سمعه ووعيه على الكلام العربي الأصيل، فأفاد من ذلك تمثل الأسلوب العالي، والدربة على التعبير الصحيح الجميل، والثروة اللغوية التي لا تنفد، والتي تستجيب لك متى احتجت إليها، ثم أتاحت له نشأته الهادئة أن يوسع دائرة ثقافته ويتزود من معارف عصره، وفي صباه الباكر كان يتابع صحيفة " الأهرام " ويقرأ منها على بعض مشايخ قريته، وكان يطالع مجلة الرسالة التي ارتبط بها بقوة، وتعرف من خلالها على عدد من الكتاب أصحاب الأساليب الجميلة، يأتي في مقدمتهم أحمد حسن الزيات، وكان إعجابه بأسلوبه لا يقف عند حد، وحفظ من الذاكرة عدداً من مقالاته، ثم على الطنطاوي، ومحمد سعيد العريان، ومحمود محمد شاكر، ومصطفى صادق الرافعي، وآخرون غيرهم . . ولم تنته دراسته في المرحلة الابتدائية حتى كان قد اقتحم عالم الكتب، وقرأ روايات " شاعرٌ ملِك" و " الشاعر الطموح " و " خاتمة المطاف " و " فارس بني حمدان" و " هاتف من الأندلس "، وكلها لعلى الجارم وهو من أبرز أصحاب الأساليب الفخيمة في النثر العربي الحديث، كما أنها جميعها تدور حول شعراء عرب قدامى ؛ الأولى عن المعتمد بن عباد، والثانية والثالثة عن أبي الطيب المتنبي، والرابعة عن أبي فراس الحمداني، أما الخامسة فإنها عن الوزير العاشق ابن زيدون وقصة غرامه بالولادة بنت المستكفي . وأكيداً، فإن هذه الروايات، بشكلها ومضمونها، قد تركت أثراً كبيراً في ذوقه وفكره ووجدانه .
وحين انتقل الدكتور مكي إلى القاهرة، طالباً في المعهد الديني، وكانت تموج أيامها بألوانٍ من البشر، وتتحدث عدداً من اللغات، وتزدحم بالحركات السرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وبالأنشطة الثقافية المتضادة – اتسع الوقت لديه ليتابعها كلها ويفيد منها جميعاً، ومنذ اليوم الأول لوصوله إلى القاهرة عرف طريقه إلى دار الكتب، ومن خلالها تعرف على كتب التراث كلها تقريباً، وهكذا بدأ يقرأ في الأغاني، وصبح الأعشى، ونهاية الأدب، ووفيات الأعيان، وغيرها كثير . وكانت التحاقه بدار العلوم خطاً فاصلاً في حياته الثقافية، وهو يذكر أنها تعهدته بالمنهجية التي تضبط حركة القراءة وتقنن فوضى الذوق الشخصي، وفي تلك الفترة، وفي حياته كلها بعد ذلك، سوف يجد لذته الكبرى في القراءة والمعرفة، وبعبارته هو : " لا شيءَ في حياتي يعدل الكتاب، ولا أنام إلا وهو بين يدي، وأوثر أن أرحل في التاريخ الإنساني عبر الأدب، بعيداً عن النفاق والزيف ومشكلات الحياة الصغيرة، في دواوين الشعراء العظام : امرئ القيس، وعمر بن أبي ربيعة، والمتنبي، وشوقي، وأبي العلاء المعري، ومحمد مهدي الجواهري،وعبد الله البردُّوني، ونزار قباني، وغيرهم . فهم يأخذونك إلى سر الحياة، ويطلعونك على جوهرها، حتى وهم يمدحون أو يهجون أو يغالون .
وكل ما هناك، أنهم كالجوهر النفيس، الوصول إلى أعماقه، واستخلاصه، يحتاج إلى معاناة، والى صبر لأنهم صبروا، والفن الرفيع لا يكشف لك سره مع المرة الأولى، وإنما عليك أن تقف ببابه، وأن تعاود الرجاء وتلح في الدخول " (2).
أما عن بعثته إلى إسبانيا، ودراسته هناك ستة أعوام متصلة، فحدث عن تأثيرها في فكره وثقافته ولا حرج ؛ فلقد وسعت آفاقه، وعمقت مداركه، ووصلته بالآداب العالمية والتراث الإنساني، واستطاع من خلال اللغات التي أجادها وأتقنها، أن يتعرف على مذاهب الأدب واتجاهات النقد في أوربا قديماً وحديثاً .
توفرت لأستاذنا إذن ثقافة الكاتب البليغ، وعدة الناقد المقتدر، ونعرض لذلك فيما يلي بشيء من التفصيل :
˜ كاتبٌ شجاع :
لعل أبرز ما يميز الدكتور الطاهر مكي، من وجهة نظري، أنه كاتب شجاع؛ يحمل هموم أمته بصدق، ويعبر عن قضايا وطنه بجرأة، يجهر بكلمة الحق مهما كانت مُرَّةً وموجعة، ولا يخشى في سبيلها لومة لائم، يشخص أمراض المجتمع بدقة وأمانة، ويصف لها العلاج ببراعة ونفاذ بصيرة، لا يجامل ولا يداهن ولا يرائي، يكتب لله وللوطن، ويجول يصنع خيراً، يقول كلمته للناس ويمشي، ولا يريد من أحد جزاءً ولا شكوراً . وسوف أكتفي بثلاثة أمثلة ليتأكد للقارئ أنْ ليس في كلامي شيءٌ من المبالغة أو التزيد . أولها حين كتب عن " حاضر الشعر ومستقبله في مصر "، يقول :
إن مبدعي هذا الزمان، في جملتهم، يريدون أن يكتبوا قبل أن يقرءوا، وأن ينظِّروا قبل أن يبدعوا، وقصارى ما يقرءون صحيفة يومية، أو مجلة أسبوعية، أو كتاباً من هذه السلاسل التي تصدرها الثقافة الجماهيرية، أو هيئة الكتاب، وفيها القليل المفيد، وأغلبها يورث البلادة والتسطيح ...
هل معنى هذا أنه : " مفيش فايدة " ؟ ( لا حظ تلقائية التعبير وغايته ) أعوذ بالله أن أكون من المتشائمين، ( لاحظ تأثره بالعبارة القرآنية ) ولكن معناه أن الأمر جد لا هزل فيه، وأن الخروج من ظلمة هذا النفق يتطلب جهداً جاداً مضنياً، لا تخرجنا منه عشرات المؤتمرات ذات الصبغة العالمية، يرتادها عادة مجموعة من المحترفين في اقتناص هذه الفرص، ونتفق عليها عشرات الملايين من الجنيهات، ثم ينفض السامر عن لا شيء، ولا مئات الندوات نقام كل ساعة على امتداد أيام الأسبوع لا يقبل عليها أحد، لأن الناس فقدوا الثقة في أي تجمع رسمي .....
وماذا بعد ؟
هناك حقائق اجتماعية وبيئية طارئة، علينا أن نكيف حاضرنا معها، وأن نأخذها في الحسبان، وهو أن العاصمة، مركز الثقل في حياتنا الثقافية، تعاني من فساد في الهواء والغذاء والفطرة، وازدحام خانق للروح والعقل والفكر، وتدهور ملحوظ في الذكاء والموهبة، ومع الأخذ بكل أسباب الصحوة يبقى الأمل معلقاً بالقرية والريف، هناك الطبيعة البشرية على فطرتها وفي نقائها، إذا هيأنا لها الأسباب أينعت وأزهرت ... قبل ذلك لا، إن العدم المنفوخ والصخب لا يبنيان نهضة، ولا يبعثان أمة، وقصارى ما يحققان: دوار " تفقد معه الرأس اتزانها، وغشاوة تضل معها البصيرة طريقها ! " (3)
والمثال الثاني من مقال له عن " مسئولية المثقف في مصر والعالم العربي "، وأرجو أن تنتبه إلى الحس الوطني والقومي في هذا العنوان :
" المثقف العربي الحق داعية وحدة، مهمته أن يجمع لا أن يفرق، وأن يكون رفيق نضال في عمل جماعي، لأن الدعوات الفردية تومئ إلى صاحبها بالفضل، وتهدي الجماعة إلى الخير، ولكنها لا توقظ شعباً نائماً ولا تنبه أمة غافلة، ولا تدفع عنها هجوماً عاتياً، وطريقنا إلى ذلك اللقاءات الشعبية، تجيء بدءاً في شكل صلات شخصية، ومؤتمرات جادة غير رسمية، ولا بأس أن تكون متواضعة المظهر، محدودة النفقات، يستطيع حضورها كل " مستور الحال"، فمثلها، يجيء من ورائه خير كثير، لأن القائمين عليها سادة أنفسهم، وأحرار في اختيار قرارهم .
أما الدعوات المشبوهة تأتي بالأقزام والمدعين والمحترفين، تنزلهم أفخم الفنادق، وتجلسهم إلى خير الموائد، وتضع بين أيديهم غالي الشراب، يحلمون ويتخيلون وهم بعيدون عن الواقع، وغير جادين في تحقيق الغاية، ويثرثرون في كل شيء إلا ما هو مفيد ونافع، ولا ينطقون بكلمة قبل أن يقيسوا صداها ،ولا يتخذون قراراً إلا إذا أشير عليهم به فلا يرجى من وراء مثلها أي خير، لأن من يدفع النفقات يملك توجيه القرار، ومع أنها لم تتوقف أبداً في الأعوام الأخيرة، وعلى كل امتداد العالم العربي، كان عائدها لا شيء".(4)
أما المثال الثالث، والأخير، فمن مقال له عن " دار الكتب والرحلة إلى الهاوية "، وهو موضوع كان قد تعرض له من قبل في مقال تحت عنوان " دار الكتب ودورها الثقافي .. من ينقذها من الخراب والتخريب ؟ " :
ولم تتوقف صرخات الآخرين المخلصين، وأذكر أن مجلة الهلال أفسحت لي صدرها منذ أعوام قريبة، لأذكر بما يجري في قاعات دار الكتب من إهمال مريع، ومن استهتار بشع بجمهور المترددين عليها، ومن إضاعة لوقت العلماء وطلاب البحث، حين يمضون ساعات وساعات في انتظار كتاب أو دورية أو مخطوطة، ثم يجيء الرد بالسلب : لأن الكتاب في التجليد، أو بدعوى أنه متهالك، أو مع قارئ آخر، أو لا يوجد، وألف عذر وعذر لا تقوم على أساس، ومنظر فرعها في باب الخلق، وكان الأصل، في شهور الصيف بخاصة، والموظفات منهمكات في شعل الإبرة، وأطفالهن يجرون في القاعة بحرية كاملة، ويبعثون بالكتب علانية، يتخاطفونها ويلعبون بها، دون أن تقول واحدة لابنها : " لا يا ولد عيب " جارح لمشاعر أي إنسان متحضر، أو به بقية من ولاء لهذا الوطن وما يملك .
وهناك من العبث ما يبلغ حد الإساءة إلى مصر نفسها، وتشويه سمعتها، وإلا فليفسر لنا أي عبقري في دار الكتب : كيف يرفض تصوير مخطوطة في دار الكتب لمباحث وافد، عربي أو أجنبي، ومنها نسخ أخرى في بقية مكتبات العالم، إلا من بعد موافقة مباحث أمن الدولة ؟ ما شأن جهة الأمن بتصوير المخطوطات ؟ ...
إن دار الكتب في صورتها التي هي عليها الآن بلغت حداً من التردي، السكوت عليه جريمة، وواجب كل ذي ضمير حي أن يصرخ بأعلى صوته : أنقذوا دار الكتب قبل أن يأتي عليها الإهمال والتخريب ! " (5)
أرأيت إلى الكلام كيف ينساب في خفة وسهولة ؟ هل انتبهت إلى هندسة العبارة وحسن التقسيم وموسيقى الجمل التي تلذك وتعجبك وأنت تقرؤها، وتدغدغ سمعك وتطربك وأنت تنطق بها أو تستمع إليها ؟ إن عصوراً من البيان العربي المشرق، وتراثاً عريضاً من إبداع الكتاب المنشئين، من الجاحظ إلى الزيات، قد امتزج كله ليجتمع في هذا الأسلوب " المكيِّ " النادر . ثم هو كلام رجل غيور على وطنه، يكشف الفساد ويعريه، ويواجه أهل الباطل ويتحداهم، وفي كل ما يخرجه من كتب أو ينشره من مقالات، ينبه قومه إلى الأخطار التي تتهددهم، والمؤامرات التي تحاك ضدهم، كما يرسم لهم صورة لمستقبل أسعد وأفضل، يتساوى فيه الجميع، بلا تمييز ولا تفرقه، وينعم الناس كلهم بالرخاء والحرية والكرامة .
ليس الكاتب إذن رجلاً فارغاً، كل مهمته أن يرصف الكلام ويزخرف القول ليتسلى القارئ أو يتلهى ؛ بل هو ترجمان قومه ودليلهم، والرائد لا يكذب أهله ولا يخدعهم، وإنما يأخذ بأيديهم نحو النور، ويبصرهم بما يضرهم وما ينفعهم، يرتفع بأذواقهم، ويرتقي بأفكارهم ويسمو بضمائرهم، أو كما قال أستاذُنا نفسه ذات يوم : " ولم يكن ميزاني الذي أقيس به قامة المفكرين، جزالة لغتهم، أو بلاغة أسلوبهم، أو عمق أفكارهم، وكل ذلك مطلوب، وإنما قبل ذلك كله سلامة موقفهم، والمفكر، أو المثقف أو الأديب، اختر أي صفة تريد، هو عندي موقف أولاً ".(6)
 ˜ مذهبه في الترجمة :
من الكتَّاب من تقرأ لهم لتستمع بأساليبهم الجميلة وتلتذ بلغتهم الفنية، ومنهم من تقرأ له لتفيد من علمه وتأخذ من فكره، بيد أن هناك صنفاً ثالثاً يجمع بين الحسنيين، ويحقق المعادلة الصعبة، فيمتعك فنه ويقنعك منطقه، وتخرج من قراءته بما يسعد نفسك ويثري عقلك . والدكتور مكي من هذا الفريق الأخير، بل في مقدمته ؛ فكتاباته تُطلَب لذاتها، وكثيراً ما أعيد تلاوة مقالاته أو مطالعة كتبه التماساً للمتعة التي تحدثها طريقته في الكتابة وصياغة العبارة ؛ ليس هذا فيما يؤلفه وينشئه فحسب، بل فيما ينقله ويترجمه أيضاً . وأذكر أن الدكتور حمدي السَكُّوت، أستاذ المكتبات بالجامعة الأمريكية، وكان يعمل خبيراً في مكتبة الكونجرس، وهي أكبر مكتبة في العالم، قال: إن هذه المكتبة تقتني أي كتاب يصدر في أية لغة، فيما عدا الكتب المترجمة ؛ لأن الأصل لديهم، ويُستثني من هذا في اللغة العربية عدد من الكتاب، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، منهم الدكتور الطاهر مكي، الذي تقتني مكتبة الكونجرس كل ما يخرجه من كتب، مؤلفاً أو مترجماً، لا لقيمتها العلمية وحدها، وإنما لصياغتها الأسلوبية العالية . وأنت بالفعل لا تشعر، وأنت تقرأ له نصاً منقولاً عن الإسبانية أو الفرنسية أو البرتغالية أو القشتالية، وهي اللغات التي يتقنها إتقاناً، أنك تقرأ كلاماً في غير لغته، أو بياناً في غير أصله .
وهذا يذكِّرنا بما آل إليه أمر الترجمة في بلادنا، حيث الأساليب الركيكة والعبارات الثقيلة، والجمل السقيمة المتعِبة التي تأتي وكأنها تجرها خيول، فهي قلقة نابية، أو غامضة سخيفة، حرم أصحابها نعمة الإفصاح والتبيين، فجاء كلامهم بائخا ومضطربا، ليس فيه روح اللغة المنقول منها، وليس له شكل اللغة المنقول إليها. والأصل في المترجم أن يكون متمكنا في اللغتين كما يشترط الجاحظ، ويجب، كما يقول أستاذنا، أن يكون أديباً في اللغة التي ينقل إليها، أو صاحب أسلوب علي الأقل، حتى إذا ترجم شيئا قرأه الناس.
وليست الترجمة بهذا الشرط عملاً سهلاً ولا هيناً، بل هي أشق وأتعب ،" لأن المؤلف – والكلام للأستاذ الزيات .. ينقل مباشرة من ذات نفسه إلي ذات قلمه. أما المترجم فإنه ينقل من لغة تخالف لغته كل الاختلاف في تأليف الجملة ونظم الأسلوب وتصوير الطبيعة والبيئة على مقتضى التربية والعقلية والحضارة , فجهده الأول تطويع اللغة العصية لقبول المعاني الأجنبية قبولاً لا يظهر فيه شذوذ ولا نشوز , وجهده الآخر اندماج فيمن يترجم عنه , فيشعر بقلبه وينظر بعينه , وينطق بلسانه , وبهذا التطويع وهذا الاندماج يتحقق الصدق في التعبير والأداء , ويكون المؤلف والمترجم كالشخص وصورته في المرآة " (7).
وأزعم أن هذه هي طريقة الدكتور مكي في الترجمة , فهو ينقل النص الأجنبي إلى العربية نقلاً حرفياً على حسب نظمه في لغته , ثم يعود فيجريه على الأسلوب العربي الأصيل , فيقدم ويؤخر , دون أن ينقص أو يزيد , ثم يعود ثالثة فيفرغ في النص روح المؤلف وشعوره، باللفظ الملائم والمجاز المطابق والنسق المنتظم , فلا يخرج من هذه المراحل الثلاث إلا وهو على يقين جازم بأن المؤلف لو كان كتب قصته أو قصيدته باللغة العربية لما كتبها على غير هذه الصورة . وإليك نموذجاً من ترجمته لكتاب " الشعر العربي في أسبانيا وصقليه " للمستشرق الألماني فون شاك . فقرة يتحدث فيها عن الشعر في العصر الجاهلي :
" لم يحدث أبداً أن استطاعت أمة على ظهر البسيطة أن تبتدع شعراً في مناخ غير ملائم كما فعل العرب ".
آكامٌ مرملةٌ قاحلة , وسراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً , وجبال صخرية ينمو في شقوقها العوسج ونباتات أخرى قليلة , وترتوي على شُحٍّ بندي الليل , ونادراً ما تجد نهراً يجري هنا أو هناك , فترى أشجار النخيل , وبعض الأعشاب العطرية, وشيئاً من الحشائش الخضراء , ثم الأعاصير التي تثير زوابع الرمال , والشمس ترسل أشعتها حارقة ملتهبة , وأحياناً تتغير هذه الرتابة الحزينة , عندما يدوي الرعد ويهطل وابل انتظره الناس طويلاً , أو عندما تلمع نجمة سهيل , والثريا عمودية , في قبة سماء صافية زرقاء ..
لقد احتل الشعر مكانة عالية بين أبناء الصحراء هؤلاء : لصوصاً , وقطاع طرق , وتمتلئ حياتهم بالمغامرات الخطرة والنكبات المستمرة , وفضَّلهم على أبناء المدينة المثقفين – يا للغرابة – بلغ هذا الفن حداً عالياً من الكمال والإتقان , ولم يحدث أبداً في أزهى عصور الثقافة وأشدها صقلاً أن أربى على ما عرفه هنا , من أناقة اللغة وروعتها , ومراعاة أدق قواعد العروض الشديدة التعقيد ".(8)
واضحٌ أن هذا البيان المشرق ليس مجرد ترجمة , إنه " تعريب " إن شئت , يذكرنا , مع الفارق طبعاً بطريقة شيخنا المنفلوطي في صياغة الروايات والقصص التي كانت تترجم له. وبالمناسبة فإن أستاذنا متأثر في أسلوبه بعدد من الكتاب البيانيين , يأتي على رأسهم أحمد حسن الزيات , كما صرح لي غير مرة , بيد أنه لا يقلد واحداً منهم أو يترسم طريقته , صحيح أنه من مدرسة صاحب " الرسالة " ما في ذلك من شك , لكنه تخفف كثيراً من أعباء الزينة اللغوية والبديعية التي كان يزخرف بها الزيات جمله وعباراته , فهو يستخدم المحسنات في قصد واعتدال , حتى لا يطغى الشكل على المضمون , فينسي القارئ في زحمة الصور البيانية والتراكيب الموسيقية , ما يعنيه الكاتب أو يرمي إليه . وانظر إلى الطلاقة اللغوية والثراء المعجمي , واللفظ الذي يعانق معناه ويتصلان بعقل القارئ في لحظة واحدة , في هذه الفقرة التي كتبها عن " جورج سيمنون " أحد أبرز كتاب الرواية البوليسية في أوربا :
" أشهب الخيال , له وجه طفل معاقَب , وعينان صغيرتان جداً , ومستديرتان وتستقران على حال .
وهو عازف عن الشهرة , لا يعتقد فيها , ولا يسعى إليها , وإن جاءته تحبو , ولا تعنيه الأمجاد الرسمية في شيء , وحين سعى الكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك أن يحصل له على الجنسية الفرنسية , إلى جانب جنسيته البلجيكية , حتى يستطيع دخول الأكاديمية الفرنسية لأنها شرط في عضويتها , شكره على المحاولة وأدار له ظهره .
إنه فيكتور هيجو , أو هكذا يلقبونه , يكتب تحت شجرة أَرز , ويتدفق كالنهر العظيم حاملاً كل شيء , الصدف والدر , ويكون متجدداً نظيفاً مرة , وراكداً آسناً مرة أخرى , ويجمع بين اللطف والجهامة , ورقة الشعر وعامية التعبير , وهو أناني واجتماعي, وفردي ومشارك , وكل هذه الخصال مجتمعة تصنع كاتباً عظيماً " (9).
˜ حكّاءٌ بليغ :
ولا يمكن أن نتجاوز حديثنا عن الدكتور الطاهر مكي كاتباً قبل أن نتوقف ولو قليلاً, عند كتابه الممتع " السلطان يستفتي شعبه " وهو مجموعة حكايات شعبية طريفة , التقطها أستاذنا من طنجة ومراكش , أثناء تردده عليها وهو طالب بعثةٍ في أسبانيا في الفترة ما بين 1957 و 1964.
ودراسة هذه الحكايات شكلاً ومضموناً , بناءً وغايةً , له موضع آخر , أود أن أشير هنا إلى أن الدكتور مكي كان يسمعها من شاعر شعبي , أو حكّاء متجول , يهدر بها في لهجة مغربية , تخالطها كلمات فرنسية وأسبانية وإيطالية وبربرية , وأكيداً فإن صياغتها الأخيرة قد ابتعدت عن صورتها الأولى كثيراً , فقد نقَّاها أستاذنا وصفَّاها , فجعل فوضاها فناً منظماً , وأحال ترهلها أدباً محكماً , وكانت هيكلاً مجرداً , فكسا عظامها لحماً, وأنشأها خلقاً آخر , وإن احتفظ لها في النهاية بروحها وجوهرها فجاءت على يديه تحفة أدبية بديعة , تشهد لصاحبها بالتمكن من فن القص البديع , والقدرة الفائقة على السرد المتوهج المثير , في لغة حية نابضة , وألفاظ حارة وموحية , تأسر القارئ بروعتها , وتنقله عبر الزمان والمكان والبشر , وهاك مثال من حكاية طريفة وشائقة عنوانها " عندما تعشق بنت السلطان " :
" مثل سيف أصفهاني , تجرح فتنة عينيها من يركز نظره فيهما , ومن يحاول الإفلات من سحرهما سوف تدركه أهدابها الآسرة , سهاماً نافذة , تصيب أشد الناظرين جرأة وحيطة , وشجاعة وهيبة .
لقد اندسَّت دُجُنَّة ُ الليل في شعرها الفاحم , واستقرت أشعة القمر فوق جبينها المشرق , وبدت في لألاء جمالها تغار منها الحوريات الفاتنات الهارباتُ من الجنة.
 هكذا ظهرت الأميرة ! ....
عندما تبتسم تحرك دواعي الصبابة والهوى في أشد القلوب قساوةً , وعندما تطأ حفي الحديقة بأقدامها الناعمة الجميلة يتمنى من يراها أن لو كان بساطاً تدوسه بهما , من سنا وجهها تطل فرحة الدنيا , وفي لطف حديثها سحر هاروت وماروت , وفيضه يتدفق في كل وقت , آناء الليل وأطراف النهار , وعبر أبهاء القصر الوسيعة , وقاعاته الفسيحة , تتردد أصداء صوتها الحلو , وهي تترنم بأغنيات رقيقة جميلة , على أنغام وشوشات المياه , تتدفق من النوافير , ومن أفواه تماثيل الحيوانات التي تحيط بها أو تجري عبر القنوات , فتتحول إلى تراتيل ساجية , تضفي على المكان قدسية , وتملأ النفوس تقىً وخشوعاً , ولكن آهٍ من الدنيا " (10) .
بقيت نقطة واحدة , تتصل بسر هذا الأسلوب الناصع البديع , وما وراء ذلك الوضوح العميق , أو العمق الواضح إذا أردت : هل هي طبيعة الدكتور مكي وموهبته الفطرية ؟ هل هي بيئته وثقافته ودراساته ؟ هل هي أفكاره وتجاربه ومبادئه ؟
في رأيي أن كل ذلك مجتمعاً صنع هذا الأسلوب , فالرجل كما أعرفه , صادق مع نفسه , أمين مع قرائه , ليس عنده ازدواجية في الفكر , وهو صريح في مواقفه كلها ,إلى درجة الحدة أحياناً، يتمسك بما يرى أنه الحق، ويتعصب له , ومذهبه : " إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب " مثلما كان الإمام الشافعي يقول.
حكى لي ذات مرة أن رفاق طفولته - في صعيد مصر – كانوا يرفهون عن أنفسهم بالنزهة في الحقول والمزارع, أو السباحة في نهر النيل , أو بلعبة التحطيب , أو ما شابه هذا من ضروب اللهو والمرح, أما هو فكان يجد متعته الكبرى في الصحراء , يقصدها قبل الغروب, حيث الجمال والجلال , وحيث روعة الخلق ورهبة الخالق : أفق ممتد بلا نهاية, وبساط رملي ناعم لا يدرك الطرف مداه , وسماء صافية زرقاء , قلما تعكر صفوها السحب أو الغيوم , والله وحده يعلم ما الذي وراءها من عوالم وأكوان، مناظر تورث في النفس إحساساً بالإعجاب والخشوع , وتثير في العقل فيضاً من الخواطر التي تبعث على التفكر والتأمل .
أزعم أن هذا كله سوف يؤثر كثيراً في عقل أستاذنا , وسوف يكون مقياسه الأكبر في الحكم على العمل الأدبي , مهما كان نوعه , أن يكون له صفات صحرائه تلك, فالجمال وحده لا ينتج أدباً عظيماً, والجلال بمفرده لا يصنع فناً خالداً .
وأعتقد أن هذا الأمر هو مفتاح شخصية أستاذنا , ومدخلنا الطبيعي لمعرفة سر الجمال والقوة في أسلوبه الأدبي ومنهجه النقدي على حدِّ سواء .
وبعد ...
فقد أشار لي بعض أساتذتي أنني أترسم طريقة أستاذنا في التعبير وأحذو حذوه في الكتابة، وهذا شرفٌ أدَّعيه، وإن كانت وسائلي لا تدركه، وغايةٌ أسعى إليها، وإن كان بيني وبينها أمدٌ بعيد ؛ والرجل قبل ذلك وبعده يسكنني ؛ وأنا ثمرةٌ من ثمار غرسه، ولا غرابة في أن يقترب أسلوبي من أسلوبه ؛ ولا عجبَ في أن يشبه الابنُ أباه !!!

****

الهوامش
1)   مجلة الهلال , يونيو 1998م , ص 91.
2)   مجلة الهلال , يوليو 1998م , ص 185.
3)   مجلة الهلال , أغسطس 2000م , ص 50 وما بعدها .
4)   مجلة الهلال , أكتوبر 1985م , ص 52-53.
5)   مجلة الهلال , فبراير 1992م , ص 60 وما بعدها .
6)   مجلة الهلال , فبراير 1997م , ص 68 وما بعدها .
7)   ضوء القمر وقصص أخرى , ترجمة أحمد حسن الزيات , كتاب الهلال , مارس 1992م , ص 13 – 14
8)   الشعر العربي في إسبانيا وصقلية , الجزء الأول , فون شاك , ترجمة الدكتور الطاهر أحمد مكي , الطبعة الأولى , دار المعارف سنة 1991م , ص 19 – 21
9)   هذه المرأة لي , جورج سيمنون , كتاب الهلال , نوفمبر 1987م , من تقديم الدكتور الطاهر أحمد مكي , ص 22 – 23
10)    الإمبراطور يستفتي شعبه وحكايات أخرى , د . الطاهر أحمد مكي , الطبعة الأولى , مكتبة الآداب , سنة 2000م , ص 104 – 105.

****



(*) أستاذ الأدب والنقد بكلية التربية جامعة السادات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك