الجمعة، 18 مارس 2016

أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوروبي الوسيط ............د. حامد أبو أحمد.





أصداء عربية وإسلامية
 في الفكر الأوروبي الوسيط

د. حامد أبو أحمد(*)

من أهم الكتب التي صدرت في الفترة الأخيرة هذا الكتاب «أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوروبي الوسيط» للأستاذ الدكتور طاهر أحمد مكي. والحق أنى أثناء قراءتي لهذا الكتاب، التي استغرقت ما يقرب من أسبوع، كنت أحس أنني أمام عمل موسوعي يحتاج إلى احتشاد كبير، وفترة راحة بين الآن والآخر حتى يكون الذهن صافيا ويستطيع استيعاب كل ما يرد من معلومات وأفكار وآراء. ولا شك أن المؤلف قد بذل جهدًا يفوق الوصف في كتابة أبحاث هذا الكتاب التي تشي بأنه لابد أن يكون قد رجع إلى عدد كبير من المراجع، أو قل إن الكتاب ثمرة خبرة حياتية طويلة للمؤلف في هذا المجال. وحسب معلوماتي فإن جزءًا كبيرا من نشاطه الفكري والنقدي لموضوع التأثيرات العربية الإسلامية في الثقافات الأجنبية وخاصة الأوربية. ولهذا تابع كتابات المستعربين أو المستشرقين في هذا الصدد، وعلق عليها، وردها إلى أصولها، أو ناقشها مناقشات علمية منهجية، كما نرى في هذا الكتاب، وترجم الكثير منها إلى اللغة العربية في أسلوب عربي رصين، ولغة قوية واضحة، ومعرفة متعمقة بالموضوع الذي يترجم فيه، ومعظم هذه الكتب منشورة في «دار المعارف» ومتاحة للقراء. وأشهد أنى استفدت منها كثيرًا طوال مسيرتي العلمية منذ أن كنت طالبا إلى الآن. ولاشك أن كل المتخصصين في الدراسات الأندلسية والأسبانية قد استفادوا مثلما استفدت من كتابات الدكتور الطاهر مكي.
وقد لفت نظري في هذا الكتاب ظاهرة عجيبة، وهى في الحقيقة مسألة طبيعية جدا ولا تثير الدهشة، لكن الدهشة تأتى من وضع الكلام الذي سوف أقوله على محك الواقع الذي نعيشه. فإذا كنا اليوم نشكو ونواصل الشكوى من أوضاع التخلف التي نعيشها مقارنة بما يجرى في العالم المتقدم حولنا فإن الأوربيين حتى فترة قريبة جدا في عمر الزمن، وبالتحديد منذ حوالي أربعمائة عام فقط، كانوا يشكون من تخلفهم إزاء ما يحدث في العالم الإسلامي في ذلك الوقت. والذي أثار دهشتي فعلا هو أن حالة الشكوى عندهم واعتبارهم العالم الإسلامي عالما نموذجيا ينبغي أن يقاس عليه استمرت حتى فترة متقدمة مما كان يعرف عندهم بعصر النهضة والتي بدأت في بعض البلدان الأوربية من القرن الخامس عشر الميلادي تقريبا واستمرت إلى منتصف القرن السابع عشر مع بعض التقديم أو التأخير في هذا البلد أو ذاك. فهذا المترجم الانجليزي جورج أشول G. Asheel الذي نقل كتاب «حى بن يقظان» لابن طفيل من الترجمة اللاتينية التي قام بها بوكوك إلى اللغة الانجليزية ونشرها عام 1686م تحت عنوان «قصة الأمير الهندي حي ابن يقظان» أو «قصة الفيلسوف المعلم نفسه» كان – كما يقول الدكتور الطاهر – معجبا بهذه الرواية، لا الرمزية العالية المستخدمة فيها، وإنما لما تدعو إليه في مجال المبادئ والسلوك من أخلاق عالية نافعة ومفيدة، وأن بين سطورها دواء لأخلاق أهل جيله المنحلة. وقد جعل أشول من حي بن يقظان بطلا أخلاقيا وإنسانا كاملا، مؤملا أن يبلغ الناس ما بلغه حىُّ في عزلته من سمو كانت وسيلته إليه نور العقل فحسب من خلال تأمل بديع صنع الله فيما حوله من مخلوقات. ويلاحظ أن أشول نعى على قومه انحلالهم وانحدار أخلاقهم في مقابل إشادته بما في رواية «حي بن يقظان» من هداية مثلى لحياة الإنسان، وتدبير شئونه، وتيسير حصوله على نعم الحياة، والتمتع بالسعادة التي خلق لها. ولابد أن أكرر هنا أن كام أشول المذكور جاء في نهاية القرن السابع عشر وإذا عرفنا أن أوربا بدأت تأخذ طريقها نحو تحرير الفكر والثقافة منذ منتصف القرن الثاني الميلادي تقريبا بتأثر من ازدهار الثقافة والحضارة العربية الإسلامية المحيطة بها من كل جانب فإننا ندرك بالتالي أن ثقافة العرب المسلمين ظلت هي النموذج الأمثل أمام الأوربيين على مدى خمسة قرون تقريبا، يضاف إلى ذلك القرون الخمسة السابقة التي كانت أوربا خلالها تغط في نوم عميق. يقول الدكتور الطاهر مكي في بحث «الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية» : «كانت أوربا في العصور الوسطى بعامة تؤثر الإيمان على الفهم، والنقل على العقل. ولم تعرف إجمالا الخلق والابتكار. وهذه الظاهرة لم تتغير حتى القرن الثاني عشر الميلادي حين اتصلت الحضارة الأوربية بالحضارة العربية والإسلامية عن طريق الأندلس وصقلية والحروب الصليبية، فانتعشت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وانفتح الفكر الأوروبي المنغلق والمتخلف على الفكر الإسلامي المزدهر والمتنوع» (ص 170). ويشير الدكتور الطاهر إلى الأفكار التي كانت منتشرة في العالم الإسلامي في ذلك الوقت : فالغزالي يدعو إلى الإيمان والتصوف، وابن رشد يؤمن بالعقل والمنطق وإمكانية التوفيق بين العقل والدين، وشروح ابن سينا، وكتب الفارابي وغيرهما تملأ الساحة، وشروح ابن رشد لكتب أرسطو، وكل هذا كان يدل على وجود حضارة قوية تتصارع فيها الأفكار والآراء لكنها في النهاية تصب في مجرى واحد هو التقدم من أجل الناس والبشر على هذه الأرض. ولا شك أن الأوربيين مثل رايمون لول، وتوماس الإكوينى، وروجر بيكون وغيرهم قد استفادوا من كل هذا. وكان أبيلار الفرنسي (1079 – 1142م) يرفع شعار «لا يجوز للإنسان أن يؤمن دون أن يفهم».
تقسيم الكتاب
لا شك أن نشر كتاب كهذا، في هذا الظلام الحالك الذي نعيش فيه، يعطى الكثير من الأمل على أن الظروف يمكن أن تتغير خلال سنوات قليلة. وهذا الكتاب يستحق أن نقول فيه مثل ما قاله مؤلفه نفسه عن كتاب أسين بلاثيوس حول الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية، ونص كلامه : " كان ما قام به أسين بلاثيوس عملا عملاقا بكل المقاييس : مثابرة في البحث والتقصي، ومنهجية في العرض والاستنتاج، وعمقا في الأفكار والتناول، وقوة في التوثيق والاستدلال " (ص 235). يضم الكتاب ثماني دراسات أو قل سبعا لأن الدراستين الأخيرتين عن حي ابن يقظان يمكن اعتبارهما دراسة واحدة طويلة (من ص 254 إلى 381) والدراسات في العادة تتميز بالطول. فدراسة " الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية " تأخذ من صفحة 167 إلى صفحة 253. والأبحاث الأخرى تقل عن ذلك، لكنها على أية حال تتميز بالطول. ويوجد بالكتاب ثلاثة أبحاث مترجمة هي: «الأصول العربية لفلسفة رايمون لول» وصاحبه خوليان ريبيرا، إضافة إلى بحث آخر له هو «ألفاظ رومانسية ذات أصل عربي». والبحث الثالث هو " إسبانيا تنقل العلم العربي إلى الغرب " للعلاَّمة رامون مينينديث والإسلام حلقة وصل بين المسيحية والإسلام ". وهذا الكتاب أذكر أنه كان أول كتاب استرعى انتباهي وأنا طالب بقسم اللغة الأسبانية بكلية اللغات والترجمة في أوائل السبعينيات. وقد أكد لي في ذلك الحين أنى لم أخطئ حين اخترت هذا القسم للدراسة.
نتوقف أولا عند البحث الأول " نافذة عربية مجهولة على الفكر اليوناني " وهذا البحث يدل على أن الدكتور الطاهر لا يريد لكتابه أن يصبح مجرد عدد أبو رقم في مجال البحث عن التأثيرات العربية والإسلامية على الثقافة الأوربية، بل إنه يريده نوعا من الكشف، وتسليط الأضواء على مسائل وقضايا وأفكار لم ننتبه لها، وكتب وأعمال لم نحس بأهميتها. ويدخل في هذا الإطار المؤلف العربي أو الوفاء مبشر بن فاتك وكتابه «مختار الحكم». ومبشر أصله من دمشق، واستوطن مصر أيام الخليفة الظاهر (1021 – 1035) والخليفة المستنصر (1035- 1094) ولا تذكر المصادر سنة مولده ولا سنة وفاته. وقد ذكر ابن أبى أصيبعة في كتابه «طبقات الأطباء» قصة طريفة عنه، تقول إن زوجه كانت تضيق بانصرافه عنها إلى مطالعة الكتب ونسخها، وكانت ذات قدر ومكانة، فلما تُوفى نهضت هي وجوار لها إلى خزائن كتبه، وفد امتلأت حقدًا ونضحت غيظا، فجعلت تندبه، وأثناء ذلك ترمى هي وجواريها بالكتب في بركة ماء كبيرة وسط الدار، ثم رفعت الكتب بعد ذلك من الماء، وقد غرق أكثرها. وكان ذلك سبب أن ما وصلنا منها قد تغيَّر لونه.
وكتاب «مختار الحكم» – كما يقول الدكتور الطاهر – يُعد أوفى كتاب في العربية استقصى أقوال الفلاسفة والحكماء اليونانيين. ويذكر مبشر في تقديمه للكتاب السبب في إقدامه على تأليفه قائلا: «الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها، ولا يبالى من أي وعاء خرجت.. الخ» ثم يوجز منهجه في الاختيار بقوله: «اعتمدت في ذلك على كلام الإلهيين منهم، الموحدين من جملتهم، إذ كانت أقاويلهم شافية وأقوالهم صحيحة، وأتبعتهم باللاحقين منهم في الحكمة، المشهورين بالأفعال الحسنة. ولم يمنعني اختلاف مذاهبهم، وتباين طرقهم، وتقادم عهدهم من أن أستمع أقاويلهم، وأتبع أحسنها، وأترك ما سوى ذلك مما خالف حكم الشرع أو العقل» (ص 20 – 21). ويعلق الدكتور الطاهر على ذلك قائلا: «ما أروع أن يُكتب هذا، في العصور الوسطى، عن الفلسفة اليونانية، في بلد إسلامي !!».
وقد ترجم مبشر بن فاتك في كتابه لتسعه عشر مفكرا، بين نبي وطبيب وفيلسوف. وهم في جملتهم من اليونانيين الذين عرفوا الشرق أو عاشوا فيه، ويبدؤهم بشيث الابن الثالث لآدم وحواء، طبقا لما جاء في سفر التكوين، ويسميه اليونانيون " أورانى الأول ". ومن أقوال مبشر بن فاتك التي ينبغي أن نتأملها هذه الأيام قوله: «إذا جاء لكم المخالفون لكم في الدين بالفظاظة وسوء القول فلا تقابلوهم بمثل ذلك، بل بالرفق والدلالة والهداية ولطف المخاطبة واعتصموا بالله وقولوا بأجمعهم: اللهم أصلح بريتك، وأجر عليهم من قضائك وقدرك ما يقودهم إلى الألفة والسلك والإيمان والهدى».
ومبشر بن فاتك في كلامه عن الشخصيات اليونانية المهمة يصل إلى جوهر ما أنتجته، وهذا يدل على معرفة واسعة بالتراث اليوناني على الرغم مما قيل من أنه لم يكن يعرف اللغة اليونانية، وهذا يعنى أن الترجمات عن اليونانية في ذلك الحين كانت كثيرة، أو على الأقل كان هناك عدد من الكتب المترجمة استفاد منها مبشر، وهذا افتراض قدمه المرحوم الدكتور عبد الرحمن بدوى فعندما تحدث مبشر عن هو مير (أو هوميروس) قدَّمه على أنه شاعر قائلا : " هو أقدم شعراء اليونان، وأرفعهم منزلة عندهم، له حكم كثيرة، وقصائد حسنة، وجميع الشعراء الذين جاءوا بعده احتذوا مثاله، وأخذوا منه وتعلموا، وهو القدوة عندهم " لكنه لم يشر إلى الإلياذة وبالطبع لذلك أسباب توقف عندها الدكتور الطاهر مكي. قدم مبشر أيضا معلومات عن أبقراط، وفيثاغورس حيث أشار إلى رأيه حول الفصل بين الجنسين في التعليم، وجالينوس الذي فصَّل الحديث عنه وغيرهم.
لكن ما يهمنا بالنسبة لكتاب " مختار الحكم " أن تأثيره في أوربا عصر النهضة، كما يقول الدكتور الطاهر، كان قويا وعميقا. وقد اتكأن عليه معظم كتب المختارات التي تضم الحكم والأمثال والمواعظ، وتستهدف تربية الأمراء وتهذيب الشعب. وقد جاءت أصداء الكتاب في فترة مبكرة إلى الأندلس في أواخر القرن الخامس الهجري (أواخر الحادي عشر الميلادي) ومبشر على قيد الحياة تقريبا. وقد رأى العالم الفرنسي جاستون بارى، وهو متخصص في دراسات العصر الوسيط، أن هناك ترجمة بروفنسالية لكتاب " مختار الحكم " تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي جاءت منظومة في البحر السداسي تحت عنوان " إيسوب الجديد " لمترجم اسمه بالدو. وقد رأى الدكتور الطاهر أن هذه الترجمة لم تكن كاملة، بل أوراق متناثرة، كذلك الترجمة اللاتينية لم تصلنا كلية ولا نعرف من قام بها. لكن أهم ترجمة للكتاب في ذلك العهد البعيد هي التي صدرت في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي بأمر من الملك ألفونصو العالم ملك قشتالة، وحملت عنوان " اللقيمات الذهبية " Los Bocados. وبالطبع ترجم الكتاب إلى لغات أخرى. وللأسف فإن الدكتور الطاهر يخبرنا بأن هذا الكتاب المهم شبه مجهول في العالم العربي. وكان الوحيد الذي انتبه إليه هو الدكتور عبد الرحمن بدوى الذي حقق نصه اعتمادًا على المخطوطات العربية الموجودة في أوربا وفى ضوء ما ترجم منه إلى لغاتها ودراسات المستشرقين عنه. وقد نشر الكتاب في مدريد عام 1958 في طبعة محدودة لا تزيد على خمسمائة نسخة، لم تصدر منها طبعة ثانية إلى الآن على الرغم من أهمية الكتاب وتأثيره على الثقافة الأوروبية.
الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية
في هذا البحث الثاني من الكتاب يقدم الدكتور الطاهر مكي عرضا ثريا للترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية في المجالات الأدبية والإنسانية قديما وحديثا. ويوضح المؤلف منذ بداية البحث أنه من بين لغات العالم أجمع، قديمه وحديثه، اختصت اللغة العربية بأنها ارتبطت بدين سماوي، له كتاب منزل هو القرآن الكريم. وهذا الارتباط حفظ اللغة العربية من التفكك والتلاشي في الماضي ومستقبلا ما بقيت راية الإسلام عالية خفاقة. كما يشير إلى مسألة اعترف بها الكثير من مؤرخي العالم، ومنهم على سبيل المثال المؤرخ الانجليزي مونتجمرى وات، وهى سرعة انتشار الإسلام، إذ لم تمض عشرون عاما من الفتوحات الإسلامية إلا وقد دخل الناس في دين الله أفواجا. وهذه الظاهرة – كما يقول الدكتور الطاهر – مازالت غامضة على الأوربيين، تحيرهم وتدفعهم إلى التأمل والبحث في العوامل والأسباب التي أدت إليها. ويروى كابت مسيحي عاش في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) أن كثيرين من معاصريه الشبان كانوا يعتنقون الإسلام لا بدافع من طموحهم السياسي فحسب، وإنما أيضا بسبب جاذبية الأدب العربي والثقافة العربية. وهذا الرأي نقله نورمان ف. كنتور في كتابه «التاريخ الوسيط قصة حضارة» ترجمة د. قاسم عبده قاسم. دار المعارف، القاهرة، 1981. وفى عام 854 م، أي في منتصف القرن الثالث الهجري تقريبا شكا مطران قرطبة واسمه ألفارو، في نص احتفظت لنا به المصادر اللاتينية وحدها، من أن أتباعه من المسيحيين في قرطبة تخلَّوْا عن لغتهم وأقبلوا على اللغة العربية (انظر نص هذه الوثيقة المهمة في صفحة 40).
ويشير الدكتور الطاهر مكي إلى أنه بالقرب من نهاية القرن الرابع الهجري بدأت كراهية المسيحيين للعالم الإسلامي تتراجع، وجرى ذلك أولا في الأندلس بعدما أدرك المثقفون الأوربيون ما يمكن أن يحققوه من مكاسب في تعلمهم على علماء الإسلام. ومن أوائل هؤلاء جربرتو دى أورياك Gerberto de Aurillac، الذي اعتلى كرسي البابوية بعد ذلك باسم البابا سلفستر الثاني. وكان من أعظم العلماء الأوربيين في عصره .
وقد درس الفلسفة والرياضيات في قرطبة على أيدي الأساتذة المسلمين. أما مدرسة طليطلة، والتي تسمى عادة باسم «مدرسة المترجمين» فقد قامت بدور تاريخي خلاّق في نقل ثقافة العرب والمسلمين إلى اللغتين اللاتينية والرومانسية وهى اللهجة العامية التي أصبحت اللغة الإسبانية (أو القشتالية) فيما بعد. كانت طليطلة قد سقطت عام 1085م في يد ألفونصو السادس ملك قشتالة. وفى عهد الملك ألفونصو العاشر الملقب بالعالم أو الحكيم (في القرن الثالث عشر الميلادي) صارت طليطلة كعبة للعلماء والمترجمين من كل الأنحاء. وقد لعب ألفونصو العاشر دورًا بالغ الأهمية في نقل العلم العربي والثقافة الإسلامية إلى العالم الغربي الذي أخذت تنتشر فيه الرغبة القوية في التعرف على ما أنتجه العقل العربي. ولم يكن الأدب بمعزل عن هذه الحركة القوية، فقد ترجمت أعمال شعرية وزجلية، كما ترجم كتاب كليلة ودمنة، وقصص السندباد وغيرها، وكتاب «مختار الحكم ومحاسن الكلم» لأبى الوفاء مبشر بن فاتك. وهكذا يمضى الدكتور الطاهر مكي، في دأب وإصرار وحب، متتبعا تراث نقل الكتب العربية إلى اللغات الأوربية قرنا بعد قرن، وعصرًا بعد عصر، حتى يصل إلى الفترة الحالية. ويختم هذا البحث المهم بسؤال يقول: كيف ننهض بالترجمة من العربية ؟ أولها أن نعى أنه ليس كل من يعرف لغة يكون أديبا فيها، وترجمة الأدب وللرد على هذا السؤال يقول: «هناك شروط لابد من توافرها، وهى تتطلب أديبا، صاحب أسلوب في لغته، وشهرة في وطنه، وأن نكف عن ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية في بلادنا. ثانيا : أن نرعى تدريس اللغة العربية في الجامعات الأجنبية المختلفة. ثالثا: أن نعقد الحلقات الأدبية لمن يقومون على تدريس اللغة العربية. رابعا : أن نعنى في تقديم المنح بالأشخاص وبالمناطق التي تربطنا بأهلها علاقات دينية أو تاريخية، دون إهمال غيرهم بالطبع. وهكذا يقدم لنا هذا البحث الرصين تلخيصا تاريخيا موسعا لموضوع كان وما يزال ينطوي على أهمية بالغة فيما يتعلق بانتقال ثقافتنا إلى العالم، والدور الكبير الذي لعبته في تطور الحضارة الإنسانية .
الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية
هذا بحث بذل فيه الدكتور الطاهر أحمد مكي جهدًا يفوق الوصف. فقد بدأ بالتعريف بدانتى، والتطور الثقافي واللغوي والحضاري الذي حدث في إيطاليا في عصر النهضة. وقد اعتبر الدكتور الطاهر أن دانتى كان في ذاته نهضة كبرى، وكان مولده في النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي وعاش حتى الربع الأول من القرن الرابع عشر. ومما يميز إيطاليا الارتباط الذي حدث فيها بين الدين والسياسة أكثر من أي بلد أوروبي آخر. ويبرز الدكتور الطاهر دور ألبرتو الكبير (1206-1280م) الذي كان يميل إلى الفارابى وابن سينا في تأويلهما لأرسطو ويعارض ابن رشد وتوماس الإكوينى (1225-1274م). يقدم الدكتور الطاهر أيضا نبذة عن اللغة الإيطالية وتطورها وآدابها ويفصّل حياة دانتى الدراسية والاجتماعية. ومما ذكره في هذا الصدد أننا لا نكاد نعرف شيئا عن حياة دانتى الأسرية، لأنه لا يشير إليها فيما ترك من آثار. وكل ما نعرفه أنه تزوج من امرأة سليطة اللسان، من أسرة طيبة، ذات نفوذ في مجتمعها لكنها لم تفهم هذا الشاعر البوهيمى الذي أوقعه سوء الحظ في أن يكون زوجها. وكان دانتى متعدد المواهب: يرسم، ويغنى، ويعزف الموسيقى، ويقول الشعر، وكان معتزا بنفسه، ذا كبرياء، منفتحا على كل اتجاهات عصره. وقد أحب امرأة اسمها بياتريش ظلت هي حبه الأقوى والأبقى والأخلد. ولا شك أن دانتى قد عانى كثيرا في حياته من النفي والجوع والبؤس والاتهامات والشتائم والتهديد، وكانت فلورنسا مسقط رأسه تهدده دائما بأنه إذا وقع في يدها سوف تسلمه إلى لهيب النيران ليموت حرقا، لكنه بعد أن مات وأصبحت تلفه هالات المجد أخذت فلورنسا تطالب بأن يُدفن رفاته في أرضها .
يخصص الدكتور الطاهر أيضا مساحة لمؤلفات دانتى وهى :- 1- الحياة الجديدة " La Vita Nuova، وقد كتب هذا الكتاب في لهجة توسكانيا العامية عام 1292 وفيه عبَّر عن لواعج حبه وشوقه لبياتريس .
2- الوليمة Le Convivio وكتب باللهجة التوسكانية أيضا خلال أعوام 1306 -1308 .
3- اللغة العامية Devulgari elecuentia وقد كتب في الفترة التي كتبت فيها «الوليمة»، لكنه باللغة اللاتينية.
4- الملكية De Monarchia وهو دراسة تنظيرية في ثلاثة أجزاء، باللغة اللاتينية، وقد كتب في الفترة من 1309 إلى 1313م .
5- وأخيرا تأتى «الكوميديا الإلهية» La divina Comedia وقد كتب دانتى هذا الكتاب وفاء لنذر قطعه على نفسه في نهاية كتابه «الحياة الجديدة» حيث قال : «لو شاء الله الذي يفيض الحياة على الكائنات جميعا أن يمد في أيامي كثيرا، فإني آمل أن أقول فيها (أي بياتريس) ما لم يقله أحد قط في أي مخلوقه أخرى، فإن أتممت ذلك رجوت الله أن يهبني مجد الذهاب للتمتع بالجنة حيث أشهد بياتريش».
والكوميديا الإلهية رحلة خيالية إلى العالم الأخروى " الجحيم، والأعراف (المطهر)، والفردوس، استغرقت سبعة أيام، وبلغ فيها الشاعر – كما يقول الدكتور الطاهر – من الجودة الفنية حدود الكمال. وهى نمط متميز، ليست ملحمة، ولا تأتى في ضروب الشعر المعروفة، وكانت فتحا جديدا في المحتوى والتصوير. وقد جاءت الكوميديا الإلهية ثمرة للعصور الوسطى، هيكلا وتقسيما ومعرفة، ولكنها كانت الخطوة الأولى نحو العصر الأوروبي الحديث. وقد مزج دانتى فيها بين الأسطورة والتاريخ، والواقع والخيال ووصف ما في الحياة من ماديات ومعنويات، وخير وشر، وجمال وقبح، وحب وكره، وأطهار وأشرار، وباباوات وأباطرة، وعلماء وفلاسفة، وملائكة وشياطين. وقد كتبها دانتى بلهجة إقليم توسكانيا، واتخذ من سلفه فرجيل مؤلف «الإنياذة» دليلا يهديه في رحلته إلى الجحيم.
ولاشك أن البحث عن " الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية " يعنى أن دانتى لم يكن في كتابه هذا مبدعا غير مسبوق، ولا عبقريا عديم النظير، لكن أفكاره جاءت وليدة للتراث الإسلامي حسبما ذكر المستعرب الإسباني الراهب ميجيل آسين بلاثيوس في بحثه المشهور عن تأثير قصة المعراج الإسلامية في الكوميديا الإلهية. وقد حقق كتاب أسين بلاثيوس شهرة واسعة وترجم إلى لغات عديدة. وقد أفاض الدكتور الطاهر في الحديث عن بلاثيوس وثقافته، اهتماماته .ومن بين ما قال إن بلاثيوس حصر اهتمامه أساسا في دراسته عن الأصول الإسلامية المختلفة وكتاب دانتى كي يبين محاكاة دانتى وتقليده لها. ولكي يجعل استنتاجه نهائيا ويسقط أي اعتراض ممكن لم يكتف بقصتي الإسراء والمعراج، وإنما استعرض أيضا التوافقات والمشابهات التي قد تكون موجودة بين الكوميديا وقصص القرون الوسطى المسيحية، وبين هذه والقصص الإسلامية السابقة عليها .
وقد خصص ميجيل أسين بلاثيوس مساحة كبيرة للمقارنة بين ابن عربي ودانتى، وتوقف عند الرسوم والدوائر الثلاث الموجودة عند ابن عربي في «الفتوحات المكية» وعند دانتى في «الكوميديا الإلهية». وقد رأى أسين أن توافق هذه الرسوم لا يمكن أن يأتى عن طريق الصدفة العارضة. وفى ذلك قال: «إن الصدفة العارضة ليست تعليلا علميا للوقائع التاريخية. والواقعة التاريخية، كما تتجلى لكل ذي نظر، هي أن محيى الدين بن عربي، المتوفى عام 1240 م، سجل في القرن الثالث عشر الميلادي، وقبل ميلاد دانتى بخمس وعشرين سنة، في أربع صفحات متوالية من كتابه «الفتوحات» تخطيطات مواضع العالم الآخر كلها في شكل دائري أو فلكي. وهذه الهيئات الدائرية تعتبر في مذهب ابن مسَّرة، الذي يتبعه ابن عربي، تصويرًا للكون وأصله. ثم أتى دانتى بعد ذلك بثمانين سنة فأودع في منظومة ضخمة رائعة تقع في ثلاثة أقسام وصفا شاعريا لهذه المواقع نفسها من العالم الآخر. وبلغ من دقة وصف هذه المعالم في شعر دانتى أن شارحيه في القرن العشرين تمكنوا من تمثيلها برسوم على هيئة أشكال هندسية مطابقة في صميمها لتلك التي خطتها يد الصوفي المسلم ابن عربي المرسى قبل ذلك بسبعة قرون. فإذا لم يكن دانتى قد قلّد هذه الأخيرة فإن هذا التطابق الذي قام الدليل عليه يصبح لغزًا يحتاج إلى تفسير أو معجزة من معجزات الأصالة».
    وهناك صور أخرى كثيرة للمشابهة بين ابن عربي ودانتى تحدث عنها بالتفصيل آسين بلاثيوس، واختصرها في مقاله الدكتور طاهر مكي، ونحن بدورنا هنا نوجزها في أقل الحدود. وإضافة إلى ذلك هناك قصص المعراج الإسلامي وانتقالها إلى أوربا المسيحية. ومن أمثلة ذلك ما فعله الأسقف رودريجو (لذريق) الطليطلى) (1170-1247 م) في كتابه «تاريخ العرب» حيث استخدم أصولا عربية مما كانت تزخر به مدينة طليطلة من تراث عربي. وقد تكلم في هذا الكتاب عن قصة المعراج. وعنه أخذها الملك ألفونصو العالم وأدخلها في تاريخه العام مع إضافات بسيطة. ومما يذكر أن " التاريخ العام " كتب باللهجة القشتالية بين عامي 1260 و1268م .
ولاشك أن بحث آسين بلاثيوس كان له كثير من المؤيدين، لكنه في نفس الوقت أثار اعتراض الكثيرين، وكانت الحجة التي تذرع بها المعارضون هي أن المصادر التي اعتمد عليها بلاثيوس لم تترجم من العربية إلى أي لغة يعرفها دانتى، وهو – أي دانتى – لم يكن يعرف العربية بالتأكيد. ودون التحقق من كلا الأمرين لا يمكن القول بأنه تأثر بأي ثقافة عربية أو إسلامية. ولكن بعد رحيل بلاثيوس بأربعة أعوام - كما يقول الدكتور الطاهر مكي - حدثت المعجزة وتحققت النبوءة. فقد اكتشف الباحثون فجأة ثلاث ترجمات أوربية لقصة المعراج العربية، واحدة في المكتبة البودليانية في أكسفورد، وثانية في مكتبة باريس الأهلية، وثالثة في مكتبة الفاتيكان وكان الملك ألفونصو العالم (1252 -1248م) قد أمر طبيبه أبراهام بأن يترجم قصة المعراج من العربية إلى القشتالية. وهذه الترجمة نقلها بوينا بنتورا دى سيينَّا، وكان يعمل كاتبا في بلاط الملك، إلى اللغتين اللاتينية والفرنسية وتم ذلك عام 1264م. وفى عام 1949 قام المستشرق الإيطالي إنريكو تشروللى Cerulli Emrico، وكان يعمل سفيرًا لإيطاليا في إيران، بنشر دراسته الممتازة «كتاب المعراج ومسألة المصادر العربية الإسبانية للكوميديا الإلهية»، وضمَّنه الترجمتين اللاتينية والفرنسية الموجودتين في المكتبتين البودليانية والأهلية. ثم استدرك فيما بعد على المخطوطة الثالثة الموجودة بمكتبة الفاتيكان. وفى العام نفسه (1949) نشر مونيوث سيندينو Muñoz Sendino في مدريد الترجمات الثلاث القشتالية واللاتينية والفرنسية لقصة المعراج، مع مقدمات وتعليقات. وقد جاء التوافق في النشر بصورة عفوية .
ولا ينسى الدكتور الطاهر مكي أن يكتب عن ترجمات " الكوميديا الإلهية " إلى لغات العالم المختلفة، ثم يخصص المبحث الأخير للكوميديا في العالم العربي. وقد بدأ هذا البحث بالكلام عن اللغة الإيطالية، مكانتها ومدى انتشارها منذ القرن الثالث عشر الميلادي إلى الآن. ثم قال " لا يوجد في العالم العربي في القرن العشرين من أجاد اللغة الإيطالية وترجم منها رأسا غير ثمانية أفراد " ثلاثة مصريين هم: حسن عثمان، وطه فوزي، ومحمد إسماعيل ولبناني واحد هو عبود أبى راشد، وثلاثة ليبيين هم: مصطفى آل عيال، وخليفة التليسى، وفؤاد كعبازى، وأردني واحد هو عيسى الناعورى. ومعظم هؤلاء توفوا ولا نعرف بعدهم من يجيد الإيطالية ثم تحدث الدكتور الطاهر عن أن أثنين من المذكورين قاما بترجمة الكوميديا الإلهية إلى اللغة العربية، أولهم عبود أبو راشد، وترجمته كانت، في الواقع، تلخيصا. أما الترجمة الوافية فهي تلك التي قام بها حسن عثمان ونشرتها دار المعارف بالقاهرة في ثلاثة أجزاء الجحيم (1959)، والمطهر (1964) والفردوس (1969) وعن هذه الترجمة يقول الدكتور عيسى الناعورى: «إن حسن عثمان قدَّم ترجمة تتفوق في شروحها وتعليقاتها ومقدماتها الفنية الدقيقة على الكثير من الطبعات الإيطالية ذات الشروح الوافية للكوميديا ".
أما عن كتاب آسين بلاثيوس في العالم العربي فيشير الدكتور الطاهر إلى أن أول من انتبه له من العرب هو قسطاكى الحمصى، الذي كتب عنه تسع مقالات في مجلة المجمع العلمي في دمشق عامي 27-1928 م موازنا بين الكوميديا التي سماها «الألعوبة» ورسالة الغفران. وفى نفس الفترة عرض عبد اللطيف الطيباوى للقضية في كتابه «التصوف الإسلامي العربي – بحث في تطور الفكر العربي».
وهكذا تتوالى البحوث والإشارات حتى عام 1954 عندما نشرت الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) كتاب " أبو العلاء : رسالة الغفران، تحقيق ودراسة "، وأنكرت فيه تأثر دانتى بالقرآن عامة، وبالمعرى خاصة وقصرت تأثر دانتى على تراث العصر القديم والعصر الوسيط وهاجمت آراء أسين بلاثيوس بشدة ليس لها ما يبررها على الإطلاق. يقول الدكتور الطاهر :" لم تكن عائشة عبد الرحمن مؤهلة علميا لكي تتصدى لهذه القضية، فلم يكن كتاب بلاثيوس قد ترجم إلى العربية، ولم تكن الكوميديا الإلهية قد ترجمت إلى العربية بعدُ في القاهرة، وأقطع بأنها لم تعرف الترجمة التي تمت في ليبيا، وهى لا تجيد أي لغة أجنبية تسمح لها بأن تقرأ الكتابين في غير العربية فكانت تقاتل في غير ميدانها، وانزلقت إلى إنشاء سخيف، وتناولت القضية من منطلق خاطئ تماما ".
يتحدث الدكتور الطاهر مكي عن كتب ودراسات أخرى للدكتور عبد الرحمن بدوى، وعيسى الناعورى، وجلال مظهر، وصلاح فضل. وبعد أن يعرض الدكتور الطاهر، في إيجاز شديد، لأوجه التشابه والاختلاف بين كتاب آسين بلاثيوس وكتاب الدكتور صلاح فضل يقول عن الأخير: «ولست أعرف لدراسته شبيها في العربية حتى يومنا». وهذه الجملة تذكرنا بالبيتين المشهورين:
              خاط لي عمرو قباء            ليت عينيه سواء
            فاسأل الناس جميعا            أمديـح أم هجاء
وفى ختام هذه المقاربة التي نعتبرها مجرد تعريف بالكتاب نرجو من القارئ الكريم أن يطلع على المباحث الأخرى الكثيرة في الكتاب نفسه، حتى يقف على كثير من الأصداء العربية والإسلامية في الفكر الأوروبي الوسيط. وكل هذا يدل على أن حضارة العرب والمسلمين كانت مزدهرة، بل شديدة الازدهار، فما بالهم في هذه الأيام التي نعيشها قد تخلفوا عن ركب الحضارة وصارت سخونة مشاكلهم ومآسيهم تغطى على كل مشاكل العالم ومآسيه.
****



(*) أستاذ اللغات والترجمة – الأزهر الشريف .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك