الأحد، 6 مارس 2016

أثر الحضارة العربية في العصر الأوروبي الوسيط قراءة في كتاب أ. د. الطاهر أحمد مكي ........... .د. أحمد عفيفي..............الأستاذ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة .


أثر الحضارة العربية في العصر الأوروبي الوسيط
قراءة في كتاب أ. د. الطاهر أحمد مكي
(أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوربي الوسيط)

د. أحمد عفيفي(*)

حينما يشعر القارئ بتميز كتاب ما، ليجد النفس مسحورة به، والعقل مملوكا له، والوجدان منجذبا إليه ؛ لما يلاحظه من تألق في عرضه ومنهجه، وعمق في معالجته، وتفانٍ في تنسيقه وتجويده وترتيبه، وعرض معلومات يتوق إليها الفكر المعتدل، حتى إن القارئ ليجد نفسه مشدودا إلى معاودة قراءته مرة أخرى. حينئذ تتبادر إلى الذهن حقيقة مهمة، هي أن مؤلف هذا الكتاب يعي الهدف من تأليفه جيدا، ويعلم المنهج المناسب لتناول أفكاره بشكل دقيق، ويسعى إلى اقتناص المعلومات المناسبة لذلك الهدف، حريصا في ذلك كله على التنمية الدائمة لمباحث الكتاب، والتطوير المستمر لأفكاره، ونمو الفكر المعرفي الذي يدلف إلى عقل القارئ برفق وهدوء، ويخطف وجدانه؛ جذبا للقراءة الواعية العميقة، والتنمية الفكرية لعقلية المتلقي.
هذا ما يحدث لي دائما عندما أقترب من مؤلفات العالم الجليل الدكتور الطاهر أحمد مكي، صاحب القلم الرفيع، والعلم النافع المفيد، والهمة العالية، التي يندر أن نجد مثلها في العصر الحديث. هذا الرجل الخلوق الصبور المثابر، الذي أفنى حياته في خدمة العلم والمعرفة، تأليفا وتدريسا وبحثا وتحليلا ومناقشة، وإرشادا لطلابه، فنشَّأ أجيالا تتوق دائما إلى العلم والمعرفة، وتقتدي بأدبه وخلقه. وقد تأكد لي شيوع وجهة نظري السالفة عند محبي الدكتور الطاهر وتلامذته الذين يملأون العالم العربي شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، دون مبالغة في هذا الحكم. أضف إلى ذلك دقته في طرح موضوعاته وترتيب معلوماته وتنسيقها في إطار علمي مشرق أخاذ.
نعم يحق لي أن أؤكد ذلك بعد أن عايشت مؤلفاته سنوات طويلة، فمنذ أن كنا طلابا في الفرقة الرابعة بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة عام 1977م، وتتلمذنا على يديه في تلك السنة، التي قام فيها بتدريس الأدب العربي الحديث، فاقتربنا منه مع كتابه القيم: القصة القصيرة (نصوص ونماذج مختارة)، وكتابه المحقق في صورته الزاهية: طوق الحمامة في الألفة والآلاف لابن حزم الأندلسي. ومنذ ذلك الحين وأنا أستمتع بمؤلفاته الثرية، التي يعد كل منها إضافة حقيقية إلى الدرس الأدبي والنقدي والأدب المقارن في عصرنا الحديث، تأليفا وترجمة وتحقيقا وتأصيلا، يصل إلى حد الإبداع المتفرد، أو بتحقيقاته للكتب التراثية المنتقاة بعين العالم الواعي العارف بأعماق التراث. وأظل مشدودا دائما إلى تلك المؤلفات، على الرغم من أن تخصصي الدقيق هو تدريس النحو بمناهجه القديمة والحديثة، ونحو النص، وعلم اللغة النصي لطلابي في الجامعات العربية المختلفة، لكنني لم أترك مؤلفات هذا العالم الفذ لحظة واحدة، فالإفادة منها تفوق التوقع والتصور والتخيل، فهي ماء وهواء لمن اقترب منها، وتذوق حلاوة العلم والمعرفة.
Ä وعندما رأيت هذا العنوان:”أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوربي الوسيط"، بوصفه واحدًا من أهم مؤلفات هذا العالم القدير الدكتور الطاهر مكي، أدركت أنني واقع – لابد – على وليمة علمية كبيرة، سأرد بها على معلومات أفزعتني عندما كنت أكتب بحثا حول اللغة وصراع الحضارات للمشاركة في أحد المؤتمرات بالجامعة الإسلامية بكوالالامبور- ماليزيا. وكنت قد قرأت كتابا بعنوان: (صدام الحضارات) لــ صامويل هنتنجتون، أهداه لي صديقي الدكتور شاكر عبد الحميد الذي صار وزيرا للثقافة فيما بعد، وقد كان وقتها أستاذا لعلم النفس بجامعة الإمارات، وقد راعني ما ورد في الكتاب من افتراء على الحضارة العربية، ومن تأكيد هنتجتون أن الصدام قادم لا محالة. وعندما يأتي الصدام - كما يقول- : «سوف تتساند أوروبا وأمريكا معا أو تتساند كل منهما على حدة، في الصدام الأكبر، الصدام الكوني الحقيقي بين الحضارة والبربرية» (هنتنجتون : 1997، ص520). فنراه يؤكد أن الصدام الحضاري قادم لا محالة، وملمِّحَا إلى أنه ماعدا أوروبا وأمريكا موصوفون بالبربرية. ثم نراه يؤكد تفوق الحضارة الغربية ودونية غيرها، حين يقول: «المجتمعات التي تنتمي إلى حضارات أخرى- غير الأوروبية- محتاجة دائما إلى مساعدات غربية لتحقيق أهدافها» (هنتنجتون :1997، ص133).
ويذهب هنتنجتون  إلى أبعد من ذلك عندما يحذر من حرب ستدور رحاها على مستوى السياسات الدولية، قطباها: الإسلام والغرب، باعتبارهما عدوين تاريخيين لدودين، وأن الصراع على طول خطوط القتال بين الحضارتين الغربية والإسلامية ظل دائرًا متواصلاً على مدى 1300 عام
ويعتقد هنتنجتون  أن القيم والأفكار الغربية التي تتبنى: الفردية، والتحررية، وحقوق الإنسان، والمساواة، والحرية السياسية، وحكم القانون، والديمقراطية، والسوق الحر، والعلمانية... إلخ ليس لها وجود في الإسلام. وفي سياق آخر، يعزو- هنتنجتون - فشل المجتمعات الإسلامية، خاصة في العالم العربي، في استيعاب قيم الغرب الثقافية، والانضمام بذلك إلى ركب العولمة - القائم على قدم وساق- إلى التباين الديني بين الشرق والغرب، أو لما أسماه «الطبيعة العدوانية المتأصلة في الثقافة والمجتمع الإسلاميين» (هنتنجتون : 1997، ص114).
وأقول: لم يكن العرب أبدا ذلك العدو التاريخي اللدود، ثم أي طبيعة عدوانية تلك التي يتكلم عنها هنتجتون؟! والكتاب الذي أمامنا للدكتور الطاهر مكي يثبت ويُمكِّن للتعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين دائما، بل بين الشرق والغرب طوال فترة الحكم الإسلامي في الأندلس، وهذا التأثير الحضاري الذي يؤكده كثير من المؤرخين، ومنهم غربيون معتدلون، كما سيظهر لنا فيما يلي.
لقد تجولت في كتاب الدكتور طاهر سريعا، فبدا لي كأنه يرد به على أمثال صامويل هنتجتون ومواطنه فرانسيس يوكوهاما، ذلك الأخير الذي شن هجوما شرسا على العرب وعلى ثقافتهم وبيئتهم، ونسي أن الحضارة الأوروبية في العصر الوسيط إنما هي صنيع الحضارة العربية. نعم هذا ما تؤكده مؤلفات كثيرة، وعلى رأسها هذا الكتاب القيم للدكتور مكي.
إن هذين الكاتبَين (هنتجتون، وفوكوياما) دشنا المناظرة المشهودة حول صراع الحضارات ونهاية التاريخ، واستشرفا - من خلالها - حتمية الحرب بين الإسلام والغرب. وفي الوقت الذي يؤكد فيه هنتنجتون  أن «الحضارات هي أعلى أشكال التكوينات القبَليّة البشرية، وأن صدام الحضارات إن هو إلا صدامٌ قَبَليٌّ على مستوى عالمي» ( هنتنجتون : 1997، ص207). فإن فوكوياما - في نظريته عن نهاية التاريخ - يؤكد هو الآخر تفوق القيم والمثل الغربية وهيمنتها، وحتمية انهيار كافة الأيديولوجيات غير الغربية.
 ويذهب فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) الذي نشر عام 1992م، إلى أنه «بالرغم مما يبدو على الإسلام من قوة في مرحلة تجدده الراهنة، فإنه لا يعدو أن يكون ذلك الدين الذي لم يعد يجذب إليه أحدًا، وظل محصورًا في نطاق الدائرة الثقافية الإسلامية التي كَوَّنها منذ قرون طويلة...قد يسترد الإسلام بعض الأنصار المرتدين الماضويين، لكنه عديم الصدى في برلين وطوكيو وموسكو» (فوكوياما: 1992، ص45).
ومن المؤكد في هذا السياق- كما يقول الدكتور صديق جوهر– أن أطروحة فوكوياما حول العلاقة بين الإسلام والغرب هي ما مهد الطريق أمام معظم ما جاء به صموئيل هنتنجتون ، الذي يعتنق مذهبًـا فكريا يحط من شأن العرب والمسلمين من أفكار فيما بعد (أسطورة معاداة الآخر في الثقافة الغربية، ص3). وهذا ما جعل الأخير يتنبأ بحتمية الصدام بين الإسلام والغرب في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
هذا ويزعم هنتنجتون  أن «حدود الدول الإسلامية هي حدود صراعات دموية، وساحاتها الداخلية الوطنية هي ساحات صراع دموي» (هنتنجتون : 1997، ص258). ثم تراه من بَعد يهاجم جوهر الدين الإسلامي زاعمًا أن المشكلة الرئيسة التي تواجه الغرب ليست الصحوة الأصولية الإسلامية، بل بالأحرى إنها الإسلام في حد ذاته، باعتباره حضارةً يؤمن أصحابها بأن ثقافتهم الإسلامية هي الأعلى والأرقى والأجدر بالهيمنة، فيما يتملكهم الإحساس - في الوقت نفسه- بضآلة شأنهم السياسي، وعدم تناسبه مع اعتقادهم الجازم بسمو حضارتهم (هنتنجتون : 1997، ص217).
ويبدو لي أن هذه الأفكار المتطرفة وأمثالها هي التي حفزت الدكتور الطاهر إلى تدشين مصنفه الذي بين أيدينا، والتأكيد على شهادة الغربيين أنفسهم بسمو الحضارة العربية، وتأثيرها الناصع في ثقافة العصور الوسطى، ومن ثم التأثير في ثقافة أوروبا في العصر الحديث.
 ومن خلال مقدمة كتاب الدكتور مكي تحديدا (أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوربي الوسيط) رصدتُ هدف الكتاب، الذي رسم المؤلف خطته ومنهجه بإحكام. يقول د الطاهر: «يجيء هذا الكتاب في الإطار نفسه الذي رسمته لأبحاثي، ودفعني إليه بقوة الجدل الصاخب الذي يدور حولنا، ويجيء تحت عناوين مختلفة: حوار الحضارات أو صراعها أو تلاقيها، وفي كل الحالات يلمحون إلى أننا أصحاب الحضارة الأضعف والأدنى مرتبة والأقل تقدما، والأمر ليس كذلك» (الطاهر أحمد مكي: 2004، ص8-9). وربما يفهم القارئ من العبارة الأخيرة أن الدكتور الطاهر يحكم حكما مطلقا غير واقعي في عصرنا الراهن، إلا انه استدرك بعدها مباشرة: «نعم، ربما لا نساويهم في لحظتنا هذه، ولكن هذا الواقع ليس قدرنا، ولا نحن عرايا من المواهب، فمنذ خمسة قرون، وهي ليست بالزمن الطويل في عمر الشعوب، كنا المنار الهادي في مجالات العلم والفلسفة والرياضيات والفلك والأدب، وكانت العربية اللغة التي تدرس فيها كل هذه العلوم، وعن طريقها وإبداعاتها تعلموا ونهضوا وتقدموا وسبقوا»(الطاهر أحمد مكي: 2004، ص 9).
نعم هذا ما يعترف به العالم المحايد الدكتور الطاهر مكي، فلم يطلق الأحكام جزافا، ولا انحاز إلى الحضارة العربية في كل أزمنتها، لكنه قال الحقيقة التي يتجاهلها هؤلاء المنحازون المغيبون أو المتجاهلون من عرب وأوروبيين لدور الثقافة العربية والحضارة الإسلامية، التي أضاءت العالم لفترة ليست القصيرة، وما زالت أصداؤها في ثقافتهم شاهدة على ذلك النور الوضاح. ولعل هذا التأكيد من عالم كبير في قامة الدكتور الطاهر مكي يستدعي بالضرورة شهادة عالم آخر من علماء العربية، وهو عباس محمود العقاد الذي يقول: «إن الأوروبيين تناولوا مشعل العلم من أيدي العرب فاستضاءوا به بعد ظلمة، وبلغوا به بعد ذلك ما بلغوه من هذا الضياء العميم، الذي انكشفت به أحدث العلوم، ولو لم يحمل العرب ذلك المشعل شرقا وغربا لكان من أعسر الأمور أن يقدح الأوربيون نوره من جديد» (عباس العقاد: 1979، ص47).
وإن ما ذهب إليه الدكتور الطاهر ورصده لمن دواعي فخرنا نحن العرب، وما ذهب إليه العقاد - من قبل - ليشير إلى أن المدن الأندلسية كانت أعمر المدن في القارة الأوروبية من أقصاها إلى أقصاها، فقد كانت في قرطبة وحدها دكان نسخ واحد يستخدم مائة وسبعين جارية في نقل المؤلَّفات لطلاب الكتب النادرة. كما كان في قصر الخليفة أربعمائة ألف كتاب، وكان سادات أوروبا يفاخرون بما يقتنونه من منسوجاتها أو مصوغاتها المعدنية أو آنية الفخار التي لا يُعرف لها نظير في بلد آخر (عباس العقاد: 1979، ص115). أليس كل هذا دليلا على ما كنا فيه من حضارة راقية؟ ولعل هذا ذاته ما دعا الدكتور الطاهر إلى أن يشير إلى الماضي بعزته وألقه، الذي ينبغي أن نعتز به وأن نحاول العودة إليه.
 وعودا على بدء أقول: في هذا الكتاب أبدع الدكتور الطاهر أيما إبداع، بدءًا بالمقدمة الغرَّاء التي حددت الهدف، ورسمت الخطة، في ربط واضح بين الماضي والحاضر، لا زهوا أجوف، أو افتخارا أعمى بالماضي، بل ليرسم طريقا مهما للمستقبل، واقرأ معي إن شئت: «لا أعود إلى هذا التاريخ لأزهو به، أو أذكر ساهيا، فالزهو وحده لا يقيم حضارة ولا يصنع تقدما، وإنما لنتأمل ولنعاود التأمل دائما: ما الذي جعلنا الأقوى إذ ذاك؟ وما الذي أخذوه منا فتقدموا به وتركناه نحن فكان هذا حالنا؟» (الطاهر أحمد مكي: 2004، ص9).
 ثم يتابع عالمنا حديثه فيقول: «هما أمران : احترام العقل واحترام كرامة الإنسان، حافظنا عليهما فانتصرنا في معارك الحياة، ونسيناهما فتقهقرنا، وأخذوهما عنا فانتصروا وتقدموا. وإذن فطريقنا إلى النهضة الشاملة في حاضرنا يمر بالطريق نفسه الذي يمر به ماضينا: «احترام العقل وطريقة حرية الفكر بلا حدود، واحترام كرامة الإنسان ومظهرها وأداتها الديمقراطية الكاملة بلا قيود، وكلما أخلصنا لهذين المبدَأين كان إنجازنا لأهدافنا كاملا وسريعا» (الطاهر أحمد مكي: 2004، ص 9).
 من هنا كان هذا الكتاب القيم الذي أكد ضرورة العمل على تحقيق هذين المبدأين في حاضرنا لنعيد ماضيا فقدناه، وحضارة ضاعت منا نحن العرب.
Ä قسم الدكتور الطاهر كتابه إلى أجزاء، يحمل كل جزء قضية من القضايا الرئيسة في موضوعه، فبدأ الجزء الأول بفتح هذه النافذة العربية المجهولة على الفكر اليوناني، التي أكدت سقوط العصر الأوربي الوسيط عندما أصبح الطريق مفتوحا إلى عصر النهضة أمام أوروبا الجديدة، حيث كان طريقها إلى هذا العصر من خلال التراث اليوناني، الذي كان وسيلة لتلك النهضة، ولكن هذا التراث كان يمر إلى أوربا في تلك الفترة عبر بوابة اللغة العربية، فهي التي احتفظت بهذا التراث مترجَما إليها، ولم يكن هناك اكتفاء بالترجمة من قبل المترجمين، بل كان هناك شرح وتفسير وتعليق على معظم ما ورد بهذا التراث، في حين كانت أوربا لا يعرف أهلها إلا عناوين الكتب وأسماء المؤلفين، فقد عاشت طوال العصر الوسيط حالة من الجهل والهمجية» (الطاهر أحمد مكي: 2004، ص12).
لقد شرح أستاذنا - من خلال هذه النافذة - كيف كان أول لقاء بين المسلمين والفكر اليوناني، وكيف تحولت حالة الازدهار الثقافي من أثينا إلى الإسكندرية، ثم دور مدرسة الترجمة في بغداد (بيت الحكمة) الذي أنشأه الخليفة المأمون. عَرَّج بعدها أستاذنا الدكتور الطاهر على ذكر عالم من علماء العربية، هو أبو الوفا مبشر بن فاتك الدمشقي الذي استوطن مصر وصار من أعيان أمرائها، ومن كبار علمائها وأفاضلهم، ومن أدبائها العارفين بالأخبار والتواريخ والمصنفين فيها. وأبو الوفا هو مؤلف كتاب (مختار الحكم) الذي يعد أوفي كتاب في العربية استقصى أقوال الفلاسفة والحكماء اليونانيين، ومجمعة من الحكم والأمثال ذات ديباجة عربية أصيلة ناصعة، لا تفوح منها رائحة ترجمة، مما يشي بأن قلما عربيا متمكنا عالي الأسلوب جرى على الترجمة اليونانية فصبها في قالب عربي متين، يعبق بأريج إسلامي نفاذ.
ولعل مما يجدر ذكره هنا الأسباب التي ذكرها المبشر ودفعته إلى تأليف كتابه، فيقول في فاتحته:"الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها حيث وجدها، ولا يبالي من أي وعاء خرجت، وكنت قد قرأت كتبا فيها أشياء من آداب الحكماء اليونانيين، ومواعظ العلماء المتقدمين، فرأيت فيها وصايا أعجبتني، ومواعظ استقرت بقلبي، وآدابا استحسنتها نفسي، فيها جذب إلى فعل الخير، وتنبيه على حسن السياسة، وترغيب في التزود إلى الآخرة، فحداني ذلك على أن جمعت في كتابي هذا ما رأيته نافعا". هذا هو ما قاله المبشر في مقدمته، ومن الواضح أنه مجموعة من التأليف والترجمة بلغة راقية.
ومن الواضح أن كتاب المبشر له تأثير كبير في الثقافة الأوروبية من خلال ترجمته. حقا ما أروع أن يكتب هذا في العصور الوسطى عن الفلسفة اليونانية في كتاب إسلامي، فقد كتب المبشر سيرة ذاتية لعدد كبير ممن اشتهروا في مدرسة الإسكندرية أو من بين المصريين: مصلحين أو فلاسفة أو أطباء، ثم ترجم المبشر لتسعة عشر مفكرا، بين نبي وطبيب وفيلسوف من اليونانيين الذين عرفوا الشرق أو عاشوا فيه. فقد بدأ بالترجمة لـ (شيت) الابن الثالث لآدم وحواء - وفق سفر التكوين- ثم تناول إدريس النبي، ثم الشاعر هوميروس، ثم أبقراط، ثم فيثاغورس وسقراط وأرسطو وأفلاطون وجالينيوس.
وهنا نجد الدكتور الطاهر يتناول أثر كتاب المبشر في الثقافة الأوروبية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، وربما كان المبشر آنذاك على قيد الحياة؛ إذ إننا نجد تأثير هذا الكتاب في الثقافة الأندلسية المسيحية، كما أننا نجد أصداء حقيقية في كتاب يسمى (تربية العلماء) ألفه موسى سفردى، وهو يهودى أندلسى اعتنق الكاثوليكية، وحمل اسم بطرس ألفونسو، ويعتمد كتابه على مصادر عربية واضحة. وقد تُرجم هذا الكتاب إلى اللاتينية، والبروفانسية والفرنسية والإنجليزية، وكان له تأثير كبير في الثقافة الأوروبية، فأفادت منه بشكل واضح، وراجت مقتبسات منه في أوروبا إجمالا، وفي أسبانيا خاصة طوال القرون من الثالث عشر إلى الخامس عشر، كما يشير الدكتور الطاهر مكي (الطاهر أحمد مكي: 2004، ص34).
Ä وفي الجزء الثاني حَمَلَ الكتاب قضية: الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية في المجالات الأدبية والإنسانية، وفيه أوضح الدكتور الطاهر مكي خصوصية تلك اللغة وجاذبية الأدب الذي كتب بها، فيروي عن كاتب مسيحي من القرن العاشر الميلادي أن كثيرين من معاصريه الشبان كانوا يعتنقون الإسلام لا بدافع من طموحهم السياسي فحسب، وإنما أيضا بسبب جاذبية الأدب العربي والثقافة العربية (نقله الدكتور الطاهر عن نورمان ف كنتور من كتاب قصة حضارة (البداية والنهاية): 1981، ص 239 وما بعدها).
وقد أرَّخ الدكتور الطاهر كذلك في هذا الفصل لبداية كراهية المسيحيين للعالم الإسلامي وأسباب هذا التراجع، ودور طليطلة في نقل العلم العربي إلى أوروبا عن طريق (مدرسة المترجمين) تلك المدرسة الشهيرة التي اضطلعت بنقل التراث الإغريقي المترجم عربيا إلى اللغة اللاتينية، وما لذلك من أثر في ثقافة العصر الوسيط.
تناول كذلك في هذا الفصل ترجمة القرآن الكريم للمرة الأولى، وقد أدى هذا وغيره إلى شيوع كتاب (تربية العلماء) في أوروبا كلها، وقد حرره يهودي موسى سفردي. وفي تلك الحقبة نفسها عُرف كتاب (مختار الحكم ومحاسن الكلم) وقد تحدثنا سابقا عن هذا الكتاب المهم، وقد أدى كل هذا إلى تحول الكنيسة من عدائها السلبي للإسلام، وأطلقت سراح المترجمين ليمارسوا الترجمة العلمية والفلسفية، حتى في أسبانيا نفسها، فوجدنا قسا من جزيرة ميورقة يعرف العربية ويكتب بها بعض مؤلفاته اللاهوتية والفلسفية ثم يترجمها إلى اللاتينية أو القطلونية، ذلك هو رايموندو لوليو الذي احتفظ للمسلمين بحنان وود جاءا من دراسته للكتب العربية، وهو أمر تؤيده الوثائق التاريخية. ثم انتقل الاهتمام باللغة العربية من أسبانيا إلى إيطاليا إلى جزء من اهتمام الفاتيكان بالدراسات السامية، والذي كان يسعى إلى توحيد الكنائس تحت رعايته.
كما تناول هذا الفصل الاستشراق الحديث وتأثره بالثقافة العربية في أسبانيا وإنجلترا، وحتى في الولايات المتحدة فور تكونها، لكن سرعان ما قل الإقبال على أقسام اللغة العربية في الجامعات الغربية كلها، وانتهى العصر الذهبي للاستشراق بجيل آخر، اثنين من علمائه الكبار منذ مدة قريبة هما: جاك بيرك من فرنسا، وإميليو غرسيه غومث من إسبانيا.
 ثم تناول الدكتور الطاهر تلك الأمور الجديدة التي طرأت على الترجمة من العربية وسوف تصبح ذات أثر كبير في المستقبل، وهي:
                     · ظهور مدرسة استشراق كبيرة في إسبانيا .
                     · استقلال الأندلس الذاتي (جنوب أسبانيا الآن) في نطاق الدولة .
                     · فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وهو ما فتح عيون العالم كله على أن للعالم العربي أدبا خالدا جديرا بالقراءة، مما جعل الاهتمام بترجمة أعماله شيئا ملحوظا.
 وأخيرا تحدث الدكتور الطاهر عن الشرق الآسيوي معترفا بأن معلوماته عن حركة اللغة العربية فيه قليلة (الطاهر أحمد مكي: 2004، ص64). مشيرا إلى تلك المعلومات القليلة التي يعرفها، مما يدل على أمانته العلمية في تناول موضوعاته، ويعلي قيمته وقدره. ثم ختم الفصل برسم طريق واضحة للنهوض بحركة الترجمة، ومتناولا شروط ذلك، فحاله كحال الطبيب الذي يحدد الداء ثم يصف الدواء، مستغلا خبرته في رسم الطريق الإيجابي للنهوض بالترجمة في العصر الحديث.
Ä وفي الجزء الثالث من هذا الكتاب القيم أورد لنا الدكتور الطاهر الأصول العربية لهذا العالم الذي مر اسمه منذ قليل، وهو رايموندو لوليو الذي احتفظ للمسلمين بحنان وود جاءا من دراسته للكتب العربية، وهو قس من جزيرة ميورقة يعرف العربية ويكتب بها بعض مؤلفاته اللاهوتية والفلسفية، ثم يترجمها إلى اللاتينية أو القطلونية. وقد استقى الدكتور الطاهر معلوماته عنه من كتاب للمستشرق الكبير خوليان ريبيرا، وكأنه يريد أن يقول لنا: «وشهد شاهد من أهلها»، إذ يشيرخوليان ريبيرا إلى تأثر لوليو بالعرب وكيف حدث ذلك، ومن أين جاءت شهرته العالمية التي تأسست على الثقافة العربية، وكيف كان يضمر الود للمسلمين ويعجب بهم، وقد طلب لوليو تطبيق تعاليم الإسلام في المسيحية لقناعته الشديدة بسماحة الإسلام وتعاليمه، ومقارِنا بين الإسلام والمسيحية في إيجابية دائمة ناحية الإسلام، ولم يحقر المسلمين كما فعل غيره. ويشير خوليان ريبيرا إلى تأثر لوليو بكتب التصوف الإسلامية، فقد قرأ محيي الدين بن عربي، وأشار إلى المقارنة الدقيقة بين ما ورد عند ابن عربي ولوليو، وكيف تأثر به في أفكاره وثقافته.
Ä وفي الجزء الرابع من الكتاب بعنوان «إسبانيا تنقل العلم العربي إلى الغرب» تناول الدكتور الطاهر مكي - في البداية - أوائل الرحالة والمترجمين الذين قدموا من أوروبا إلى أسبانيا، وقد جذبهم تفوق المسلمين العلمي وأشياء أخرى تؤكد الإشعاع الحضاري العربي، وعن طريق هؤلاء نُقِل العلم العربي إلى الغرب.
 ومن هؤلاء الراهب جربرتووبدرو ألفونسو الذي وصل فيما بعد إلى رتبة البابوية وأُطلق عليه البابا سلفستر الثاني، وهو الذي رحل إلى قرطبة للدراسة واستمر فيها لثلاث سنوات، حيث كانت قرطبة بشهادة الغربيين أنفسهم في فترة العبور من القرن العاشر إلى الحادي عشر الميلادي المكان الذي يحج إليه الناس طلبا للعلم (الطاهر أحمد مكي: 2004، ص106). وقد قام فيما بعد بترجمة كتاب (تربية العلماء) ثم رحل إلى إنجلترا في عصر هنري الأول، وأنهى هناك علم الفلك في بداية القرن الثاني عشر نحو عام 1115م. وفي ذلك يقول الدكتور الطاهر «وفي ذلك الوقت أيضا كانوا في مدن مسيحية كثيرة يترجمون الكتب العربية، ونعرف أن ميكائيل 1119 – 1152م أسقف مدينة طرسونة... شجع على بعضها» أي بعض الترجمات. ثم تكلم الدكتور الطاهر عن دور مدرسة المترجمين في طليطلة في نقل العلم العربي إلى أوروبا.
هذا وتعد طليطلة كبرى المدن الإسلامية التي ازدهر فيها العلم والفن والترجمة، وهي مستودع ذخائر العلم العربي، وتحدث كثيرا عن منشئ هذه المدرسة (دومنجو غوند سامبو) الذي ترجم كتاب (ينبوع الحياة)، كما ظهرت أسماء عربية مثل ابن سينا وغيره.
ثم تناول الدكتور الطاهر يوحنا الإشبيلي وأدلارد الباثي، فقد ترجم الأول كتاب الحساب للخوارزمي، ومن هنا عُرف الترقيم الهندي الذي شاع في العربية، وتكلم الدكتور الطاهر عن مجيء بعض الرحالة الأجانب إلى طليطلة طلبا للعلم، فيقول: «ولو أننا لا نستطيع التأكد تماما يبدو لنا أن الفيلسوف الإنجليزي أدلردو الباثي هو أول أجنبي جاء إلى أسبانيا ليدرس العلم العربي في طليطلة، ولابد من أن علاقة ما قامت بينه وبين بدرو ألفونسو أثناء وجود هذا في إنجلترا» (الطاهر أحمد مكي: 2004، ص114).
ومن خلال البحث والتنقيب وجدت أن أدلارد هذا كان رحالة يعيش في القرن الثاني عشر حيث أقبل الكثيرون من المستشرقين على تعلم اللغة العربية، ورحلوا في طلب العلم، وعندما عاد إلى إنجلترا كان معلما لهنري الثاني، وقد أحب الأدب العربي، وأبدى إعجابه باللغة العربية في كتابه (المسائل الطبيعية)، وأعلن عن حبه لها قائلاً: سأدافع عن مذهب العرب، ولست أعبر عن رأيي الشخصي، وأن دليلي هو العقل، وقد تعلمت شيئاً من أساتذتي العرب. ثم ترجم هذا الحب عندما نقل كثيراً من الأعمال العربية إلى الإنجليزية. وكان لصنيعه هذا أثر كبير من ناحيتين:
                     · تشجيع غيره من العلماء البريطانيين في السعي إلى طلب المعرفة العربية، لغة وعلوماً، من أمثال دانيال وميكائيل سلوت وغيرهما.
                     · تشجيع التفاعل مع الثقافة العربية على المستوى العام في بريطانيا وغيرها، مما أدى إلى تقارب حضاري أجَّل فترة الصدام كثيراً، على الرغم من رفض الكنيسة البابوية لهذا الاتجاه نحو الحضارة الإسلامية واللغة العربية، والدليل على ذلك ما أصدرته من مراسم الطرد والحرمان في حق المتعاطفين مع الحضارة الإسلامية ( أحمد عفيفي، اللغة وصراع الحضارات).
ويؤكد بعض الباحثين أن الحركة الاستشراقية البريطانية مدينة كثيرا إلى توجه أدلارد الذي جاء كتابه السابق (المسائل) عبارة عن حوار بين أدلارد الذي تتلمذ على الفكر العربي الإسلامي، وبين أخيه الذي تتلمذ في الجامعات الأوروبية، حيث نقل برنارد لويس سطورا من هذا الحوار الذي يقول فيه لأخيه في النهاية : «إنني - وقائدي ودليلي هو العقل - قد تعلمت شيئا من أساتذتي العرب، وأنت تعلمت شيئا مختلفا عنه. لقد بهرتك مظاهر السلطة فوضعت في رأسك لجاما تقاد إليه. إن الإنسان قد منح العقل لكي يستخدمه حكما عاليا في الفصل بين الحق والباطل»(د. عبد الجبار ناجي، ود. عبد الواحد ذنون: 1997، ص26). ثم يختم برنارد لويس اقتباسه بقول هادف حين يقول:«إن أولئك الذين يعرفون ما كتبه العرب يدركون لأول وهلة مصادر الدرس الذي تعلمه أدلارد، وإن أولئك الذين يعرفون علوم الغرب يدركون لأول وهلة معنى هذا الدرس»(السابق، ص27).
ثم انتقل الدكتور الطاهر إلى شخصية بدرو الموقر، رئيس دير كلوني، وهو الدير الرئيس للمسيحية الغربية. فقد قام هو وفريق معه بترجمة القرآن الكريم، بمنطق أنهم لابد أن يحاربوا المسلمين بالفكر والعقل لا بمنطق السلاح. وقد أعطت هذه الترجمة جانبا جديدا من أهمية العلم العربي مثلما يشير الدكتور الطاهر الذي تناول بعد ذلك العصر الثاني للمدرسة الطليطلية، وذكر كثيرا من الكتب العربية المترجمة إلى الأسبانية أو المترجمة إلى الأسبانية، مصحوبة بترجمات لاتينية ولغات أخرى، ثم أوضح كيف أثر هذا في العصر الأوربي الوسيط تفصيلا.
Ä ثم كان الجزء الخامس الذي جاء حاملا العنوان: (ألفاظ موسيقية رومنسية ذات أصل عربي). وقد أشار الدكتور الطاهر في البداية إلى تلك السنة الوجودية وهي"أن التأثير يمضي من الأعلى إلى الأدنى، وينطلق ممن يملك ثقافة أرفع وأقوى"(الطاهر أحمد مكي: 2004، ص143). إذ تشير الألفاظ المهاجرة من العربية إلى تقدم الموضوعات والفنون الموجودة في اللغة المنقول منها، وهي العربية في حالتنا هذه، ويحدث الشيئ نفسه مع النظم السياسية والتقاليد الاجتماعية والمهارات التقنية والفنون والعلوم وغيرها، فالمغلوب - كما يقول ابن خلدون في مقدمته - يقتدي بالغالب (مقدمة ابن خلدون، ص125 ).
ومن جانب آخر فإنه قد يصل الأمر إلى كراهية الشعب المقهور للغته وحبه للغة القاهر، يقول العقاد :"ويروي لنا دوزي في كتابه عن )الإسلام الأندلسي) رسالة ذلك الكاتب الأسباني – الفارو – الذي كان يأسى أشد الأسى لإهمال لغة اللاتين والإغريق والإقبال على لغة المسلمين، فيقول– يقصد الفارو – :”إن أرباب الفطنة والتذوق سَحَرَهم رنين الأدب العربي فاحتقروا اللغة اللاتينية، وجعلوا يكتبون بلغة قاهريهم دون غيرها)”(عباس العقاد: 1973، ص 69). في حين كتب وطني آخر، معاصر للفارو، غيور على لغته يقول – نقلا عن العقاد - :"فيا للأسى، إن المسيحيين قد نسوا لغتهم، فلن تجد فيهم اليوم واحدا في كل ألف يكتب بها خطابا إلى صديق . أما لغة العرب فما أكثر الذين يحسنون التعبير بها على أحسن أسلوب، وقد ينظمون بها شعرا يفوق شعر العرب أنفسهم في الألفاظ وصحة الأداء" (عباس العقاد: 1973، ص 70).
ومن هنا كان من الطبيعي أن نجد كثيرا من الألفاظ في اللغة الرومانسية وكثير من اللغات الأخرى، وقد نقل الدكتور الطاهر مجموعة كبيرة من هذه الألفاظ في مجالات متنوعة مثل النظم السياسية والحربية والضرائب والمعاملات التجارية ومجالات المهن والمعمار، وعندما جاء دور الكلام عن الموسيقي أشار الدكتور الطاهر إلى أنه بفضل هذه التأثيرات الوافدة إلى العربية أولا بدأت الموسيقى تزدهر على امتداد العالم الإسلامي، وبلغت قدرا عاليا من الدقة والإتقان، على حين أخذت أوروبا في العصر الوسيط طريقها نحو التخلف والتدهور في الموسيقى، وفي غيرها من العلوم والفنون.
 ثم تناول الدكتور الطاهر كثيرا من الألفاظ المهاجرة من العربية إلى اللغة الرومانسية، قائلا في نهاية الفصل: «في ضوء ما سبق يمكن أن نكتشف تيارا هاما، يتطلب دراسة جادة لاكتشافه، والأمثلة التي قدمناها - وهي ذات معنى لمن يعنون بالدراسات الرومانسية - تبين إلى أي مدى كانت الصلة بين العربية واللغات الرومانسية، فيما يتصل بتقنيات الموسيقى وقواعدها، وأتمنى عليهم أن يصروا على عدم الاستهانة بها» (الطاهر أحمد مكي: 2004، ص166).
وأرى أن الدكتور الطاهر كان في ذهنه الاقتصار على هذا الجانب من رحلة الألفاظ العربية إلى اللغة الرومانسية، مما يعني أن تأثيرا كبيرا قد حدث في الموسيقى الأندلسية من الموسيقى العربية، وهو ما حدث بالفعل. ولم يستمر الدكتور الطاهر في تتبع رحلة الموسيقى وتأثيرها في الموسيقى الأوروبية مما حدث فيما بعد.
وهو أمر ذكره الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه: دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، حين قال: «وكانت موسيقى الأغاني الإسبانية في القرون الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر قد أثرت بدورها في نشأة الموسيقى الأوروبية الحديثة، فكان كثير من النبلاء والمغنين وأبناء الطبقة الوسطى، بل ومن كل الطبقات، يأتون إلى أسبانيا ويبدون لدى عودتهم إلى بلادهم إعجابهم الشديد بالمغنيين الأندلسيين الأسبانيين، ومن ثم انتقل فن هؤلاء المغنيين في سائر بلاد أوروبا، وبخاصة فرنسا وألمانيا، فكان ذلك سببا في دخول الموسيقى العربية أوروبا» (الدكتور عبد الرحمن بدوي: 1979، ص43).
كذلك ذكر الدكتور بدوي مجموعة كبيرة من الأدلة ساقها المستشرق الأسباني خليان ريبيرا صاحب الدراسات الممتازة – كما يقول د. بدوي – في بيان تأثير الموسيقى العربية في نشأة الموسيقى الأوروبية، ولا مجال لذكر هذه الأدلة هنا في هذا العرض القصير.
ولا شك في أن شهادة مهمة من أديب العربية عباس محمود العقاد ستجعل القارئ العربي مزهوا بكل هذه التأثيرات، حين يقول: «ومن الحقائق المقررة أن أبناء أوروبا الغربية كانوا يتعلمون أفانين الأنغام على أساتذة من العرب المسلمين، وأنهم نقلوا أسماء بعض الآلات بألفاظها العربية فبقيت في اللغات الأوروبية حتى اليوم بعد تصحيف يسير» (العقاد:1973، ص85).
ولن يقف الأمر عند ما أكده كل من الأستاذ العقاد والدكتور الطاهر، فقد ذكرت بعض المراجع أن عددا كبيرا من المستشرقين والباحثين الأوروبيين، أمثال (ريبيرا، وهارتمان، وفارمر، وهونكا) وغيرهم وضعوا كثيرأ من البحوث التي تؤكد أن كثيرا من من فنون الموسيقى والشعر الغنائي في كل من فرنسا وألمانيا وإنجلترا وإيطاليا والبرتغال وأسبا نيا كانت انعكاسا لمثيلاتها من فنون وموسيقى الأندلس والحضارات العربية (د. إبراهيم إبراهيم الكردي: 1989، ص76). فقد ذكر الدكتور إبراهيم الكردي في كتابه مجموعة من الألفاظ الموسيقية العربية في كثير من اللغات الأوروبية، بل واستعمال كثير من الأوروبيين بعض الآلات الموسيقية العربية (السابق، ص 75 إلى 80).
Ä وفي الجزء السادس قدم الدكتور الطاهر الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية لدانتي، الذي ولد في النصف الأول من القرن الثالث عشر، وأوغل بحياته حتى الربع الأول من القرن الرابع عشر، حين بدأت العصور الوسطى تلملم أشرعتها للرحيل ليحل محلها عصر النهضة الأوروبية. فقد قدم الدكتور الطاهر سيرة حياة دانتي وطلبه للعلم بفلورانسا، التي كانت معقل الفنون والآداب آنذاط، وكيف نُفي من قبل البابا إلى روما، حيث طلب من الأمير الفرنسي شارل دي فالو أن يعيد السلام إلى المدينة، وأن يقضي على الصراع القائم بين الفرق المتنافسة فيها، لكن دانتي عارض بشدة، فضاقوا به وحكموا عليه بأحكام قاسية، مما اضطره إلى الهرب من المدينة إلى مدينة فيرونا، حيث كان أميرها شاعرا فصاحبه إلى أن فارق الحياة دون أن يعود إلى مسقط رأسه بعد نفيه.
ثم عرض الدكتور الطاهر تراث دانتي بدءا من كتاب الحياة الجديدة، ثم كتاب اللغة العامية، وكتاب الملكية الذي كتبه في ثلاثة أجزاء، وأخيرا جاء دور الكوميديا الإلهية لدانتي. تلك الملحمة الرائعة التي أراد دانتي من خلالها أن يهدي الإنسان إلى الخير، وأن يصلح المجتمعات، وأن يجعل منها بداية عهد جديد يهدي إلى سواء السبيل، إيمانا منه بأن العظات الدينية وتعاليم الفلسفة وتغيير الحكومات لا تكفي وحدها - فيما يرى دانتي – لهداية البشر، ولكن لابد من تغيير روح الإنسان، وهو ما يوافق الآية الكريمة :”إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”الرعد/11. مستخدما الفن وسيلة للنفاذ إلى القلوب، وإشاعة الجمال.
وقد وصف الدكتور الطاهر تلك الكوميديا في منهجها وأسلوبها المحكم الدقيق، ثم تناول كيفية تأثرها بالعناصر الإسلامية من خلال عنوان وضعه، وهو”الكوميديا والتراث الإسلامي”، حيث قام الدكتور الطاهر بترجمة هذا البحث المهم الذي ألقاه المستشرق الإسباني ميجيل آسين بلاثيوس في الأكاديمية الملكية الإسبانية بمناسبة انتخابه عضوا بها في 26 يناير عام 1919 م، وكان عنوان البحث :"الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية لدانتي شاعر إيطاليا الأكبر”. وجاء البحث قنبلة مدوية – كما يقول الدكتور الطاهر – هزت دوائر الأدب والفكر والنقد على امتداد العالم كله. فقد أشار بلاثيوس قائلا : إن دانتي لم يكن في ملحمته مبدعا غير مسبوق، ولا عبقريا عديم النظير، وأفكاره جاءت وليدة التراث الإسلامي، فقد ألهمه الأفكار، وعنه أخذ بناء الملحمة، ثم أعمل فيه عبقريته، وصاغ منه هذا العمل الأدبي الجليل. وقد نشر هذا البحث في مجلة (السلالة الإسبانية) في مدريد، مصحوبا بترحيب الأكاديمية، الذي سجله المستشرق الجليل خوليان ريبيرا في أكثر من ستين صفحة.
Ä وقد أورد الدكتور الطاهر صور تأثر دانتي بالعناصر الإسلامية، من خلال معلومات وآراء بلاثيوس، ثم أتبع ذلك بتصوير الضجة الكبرى التي أتبعها كلام بلاثيوس، والترجمات التي صاحبت الكتاب في أصل لغته. ثم تناول الكوميديا في العالم العربي، وأثر كتاب بلاثيوس على المؤلفين العرب، الذي كانت نتيجته هذا الكتاب الرائع الذي نشره الدكتور صلاح فضل عام 1980بعنوان: (تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي). ثم أدلى الدكتور الطاهر بشهادته عن الاخير قائلا :"ورغم تشابه المادة في كتاب بلاثيوس وكتاب الدكتور صلاح فضل، فإنهما يختلفان منهجا وتناولا وتشكيلا، فقد انطلق بلاثيوس من فرض لما تثبت صحته، ومضى يبرهن عليه بقوة، وبكل الوسائل، ومتوجِّها إلى قارئ غير عربي، في حين أن الدكتور صلاح فضل يدرس موضوعا مسلما بصحته بين معظم الباحثين، إن لم يكونوا جميعا، ويتوجه بكتابه إلى القارئ العربي، ولا يقف بدراسته عند الجانب الموضوعي فحسب، وإنما يعرض للجوانب الجمالية أيضا، وهي مما يعسر على أى مستشرق التقاطها مهما كان تمكنه من اللغة العربية، ولست أعرف لدراسته شبيها في العربية حتى يومنا هذا (د. الطاهر أحمد مكي، 2004، ص252، 253).
Ä ويأتي الجزء السابع والأخير من هذا الكتاب المهم حول قصة (حي بن يقظان)، وقد قسمه الدكتور الطاهر إلى محورين :
                     · المحور الأول: حي بن يقظان وفلاسفة الإسلام.
                     · المحور الثاني: حي بن يقظان في اللغات الأجنبية.
وفي المحور الأول بدأ الدكتور الطاهر كلامه عن القضية بطرح حقيقة مؤكدة قائلا في (ص255): «أسهمت الحضارة العربية الإسلامية في تطور الحضارة الإنسانية عامة، بإضافات ذات أهمية عالية عظيمة، من بنات أفكارها، ولم تتأثر فيها بأحد»، وقد ظهر ذلك في ثلاثة معالم واضحة، هي:
أ- علم مقارنة الأديان الذي وضع أسسه الموسوعي العظيم ابن حزم القرطبي.
ب- علم الاجتماع، ووضع نواته المؤرخ العظيم عبد الرحمن بن خلدون.
ج- القصة الرمزية الفلسفية، وقد التقى عندها - خلقا وإبداعا وتطويرا وتجويدا- ثلاثة من الفلاسفة المسلمين: ابن سينا، والسهروردي، وابن طفيل.
وقد عرض الدكتور الطاهر في بداية الأمر للشخصيات الثلاث، ومؤلفاتها ليدلف بعد ذلك إلى المقارنات الدقيقة لكل منهم في قصة حي بن يقظان ومصادر ثقافتهم وأصولها، ليتناول بالتفصيل حي بن يقظان عند ابن طفيل، مع المقارنات الدقيقة والموازنات العميقة لما ورد عند كل مؤلف منهم.
ثم انتقل إلى المحورالثاني، وهو حي بن يقظان في اللغات الأجنبية، الذي استمر على مدى ستين صفحة، وكان خاتمة هذا الكتاب. وفي بداية الكلام عن هذا المحور كانت فرصة جيدة لبيان تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب، التي توزعت على ثلاث حقب، هي:
                     · الحقبة الأولى: القرن الثاني عشر الميلادي، واتسمت العلاقات الثقافية فيها بالشفوية، واعتمدت على الأذن؛ لهذا يصعب توثيقها.
                     · الحقبة الثانية: بدأت من نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، وفيها أصبحت العين - بالإضافة إلى الأذن - الطريق إلى اكتشاف الفكر العربي.
                     · الحقبة الثالثة: بدايتها من القرن السابع عشر، وظهر فيها الورق، وتيسرت وسائل الطباعة، وكثرت الترجمة.
 وهنا نجد ترجمة الرواية إلى العبرية في القرن الرابع عشر، ثم إلى الألمانية في القرن السادس عشر، ثم إلى الإنجليزية في القرن الثامن عشر إلى أن ظهرت كثير من الترجمات لها في العصر الحديث إلى لغات كثيرة أخرى، منها الفرنسية والروسية واليابانية...إلخ.
 وبعد هذا العرض المهم بدأ الدكتور الطاهر في تناول تأثير الرواية في الآداب المختلفة، فبدأ في الكلام عن ترجمتها إلى اللغة اللاتينية، ثم تناول – في إسهاب كبير – كيفية ترجمتها إلى الأدب الأسباني. وقد أطال في هذه المحطة العلمية لما لها من تأثير كبير في الحضارة الأوروبية بشكل عام، ثم تناول تأثيرها في الأدب الإنجليزي، مشيرا إلى أسباب ازدهار حي بن يقظان في هذه الفترة من العصر الوسيط، وانتقالا إلى العصر الحديث.
 وأخيرا جاء تأثير الرواية في الأدب الفارسي، فقد أصبحت شخصياتها أبسال وسلامان)، من أبرز الشخصيات في الأدب الفارسي . وهنا وضع هذا القلم بعد أن سطر- بحروف من نور – هذه الملحمة الثقافية العلمية المؤثرة في الآداب العالمية، سواء أعترف الناس أم لم يعترفوا، لكنها الحقيقة الدامغة التي تؤكد تأثير الحضارة العربية في غيرها من الحضارات.
Ä والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، ماذا عن هؤلاء الذين يتجاهلون أو يجهلون هذا التأثير الحضاري، ويصفون العرب بأنهم جهال ورعاع؟
 وفي هذا المقام لايفوتني أن أشير إلى رأى بعض المنصفين من الغربيين بالإضافة إلى ماذكره الدكتور الطاهر، وما أكده الدكتور كويلر بونج أستاذ العلاقات الأجنبية في جامعة برنستون بواشنطن، عندما اعترف بفضل العرب قائلا:”كل الشواهد تؤكد أن العلم الغربي مدين بوجوده إلى الثقافة العربية الإسلامية، كما أن المنهج العلمي الحديث القائم على البحث والملاحظة والتجربة، والذي أخذ به علماء أوروبا، إنما كان نتاج اتصال العلماء الأوروبيين بالعالم الإسلامي عن طريق دولة العرب في الأندلس”(أحمد علي الملا: 1981، ص9) .
 وإذا كان صمويل هنتجتون وفوكاياما قد أشارا إلى هذا الصراع الدائم بين المسلمين والمسيحيين خلال قرون طويلة، فإن الدكتور كويلر بونج يرفض هذا الكلام عندما يقول - في محاضرة ألقاها في مؤتمر الثقافة الإسلامية الذي عقد برعاية جامعة برنستون ومكتبة الكونجرس بواشنطن عام 1953 تحت عنوان: أثر الإسلام الثقافي في المسيحية – مانصه «كنا - نحن المسيحيين - داخل هذه الألف السنة (جزء كبير منها في العصور الوسطى) نسافر إلى العواصم الإسلامية، وإلى المعلمين المسلمين ندرس عليهم العلوم والفنون وفلسفة الحياة الإنسانية... ولن نتجاوز حدود العدالة إذا نحن أدينا ماعلينا بربحه،    ولكن سنكون مسيحيين حقا إذا نحن تناسينا شروط التبادل، وأعطينا بحب واعتراف بالجميل» (أحمد علي الملا:1981، ص9).
ومن هنا نقول: أين هذا العداء السافر بين المسلمين والمسيحيين الذي يتحدث عنه هؤلاء المضللون، إن كلام الدكتور كويلر بونج يؤكد أن تأثير الحضارة الإسلامية في العالم الغربي المسيحي كبير جدا، وأنه لم يكن ثمة صراع بين المسلمين والمسيحيين، فقد كان المسلمون يستقبلون المسيحيين في مدارسهم ومجالسهم، يعلمونهم العلوم والفنون والفلسفة، وكل ما يتصل بالصناعة والزراعة والبناء.
 وهو أمر أشار إليه الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه : دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، كما أشار الدكتور الطاهر إلى هذا الكتاب المهم، والذي يؤكَّد فيه الدكتور بدوي أن العرب لهم أثر في الأوربيين في صناعة السكر والصابون والورق الذي لم تكن تعرفه أوروبا في ذلك الوقت، وكذلك الصناعات القائمة على الكيمياء (الدكتور عبد الرحمن بدوي: 1979، ص 36- 37).
 كذلك ذكر د. بدوي مظاهر الحياة اليومية – ومنها الألعاب المشهورة – وكيف كان للعرب دور في تعريف الأوروبيين بها، وعن تلك الألعاب وتأثر الغرب بها: «والعرب كذلك هم الذين أدخلوا في أوروبا كثيرا من الألعاب المشهورة، أولها الشطرنج وأصله من الهند ثم عرفته فارس، والعرب هم الذين أدخلوه إلى أوروبا عن طريق إيطاليا وأسبانيا قبل قيام الحروب الصليبية... وكذلك عرف العرب لعبة البولو وانتقلت من العرب في أسبانيا إلى نورمنديا وبريتانيا في فرنسا، وعرفها الإنجليز أثناء حرب المائة عام، ومن ثم نقلوها، وكانت في الأصل لعبة كرة القدم، كما يتصل بهذه الألعاب ألعاب الصيد. ..» (الدكتور عبد الرحمن بدوي: 1979، ص41).
 وقد وصل تأثير العرب في حضارة أوروبا إلى الأطعمة، فقد عمد النبلاء الأوربيون إلى استقدام الطهاة الأجانب، واستطابوا الأطعمة الأجنبية، وترجم قسطنطين الأفريقي منذ القرن العاشر كتاب الإسرائيلي – وهو طبيب يهودي قيرواني – وعنوانه: كتاب الأغذية إلى اللغة اللاتينية، كما ترجم فيما بعد كتاب: منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان، وهو كتاب مطول في نظم الحمية الغذائية للطبيب البغدادي (يحي بن عيسى جزله)، وقد تُرجم بأمر(شارل إنجو الثاني) وأُدخل إلى الفرنسية قبل نهاية القرن الرابع عشر. وإلى جانب الترجمات عن العربية وُضعت مؤلفات أصيلة تظهر فيها ملامح التأثير العربي ( توفيق فهد: 1983، ص 41-42).
 وأحب أن أشير أخيرا إلى أن العرب لم يقفوا عند النقل من الحضارات الأخرى اليونانية والبيزنطية والهندية...إلخ، بل إنهم هضموا وطوروا وأبدعوان من خلال تقديم إضافات مهمة إلى تلك العلوم التي نقلوها. وفي هذا المعنى يقول أحد الباحثين :”وقف على أبواب أوروبا بفضل المسلمين نوعان من الحضارة، أما الأول فهو الحضارة القديمة في ثوبها الإسلامي القشيب، الذي أسهم في صنعه الهنود والفرس واليونان والرومان، ودبَّجه العرب بقرائحهم وذوقهم وصاغوه بقالبهم.... وفي هذا المعنى يقول سيديو: وهناك أمر آخر يستحق الإعجاب، وهو أن دور المسلمين لم يقف عند حد ترقية العلوم التي أخذوها عن اليونان فحسب، بل إنهم قاموا بالنسبة للمدنية بدور أشد خطرا وأتم نفعا، وهذا الدور هو الذي حفظ هذه الآثار. نعم حفظ المسلمون هذه الآثار في عهود أوروبا المظلمة، وفي العهود المظلمة التي مر بها المسلمون أنفسهم”(د. مختار القاضي: 1972، ص 169) .
ولعل هذا المثال الحي للفلاسفة دليل على هذا التطور وتلك الإضافات التي صنعها العرب فيما أخذوه، ونحن إذا نظرنا إلى آثار الفلاسفة المسلمين نجد أنهم لم يقتصروا على النقل عن اليونان، بل إنهم أصلحوا أخطاءهم إصلاح من استوعب علومهم، وقد ذكرت كثير من المراجع أمثلة متنوعة على تطوير العرب لما أخذوه ولم ينقلوه إلى غيرهم كما جاءهم، كما أننا لا نتصور أن حضارة ما بدأت دون التناص مع الحضارات الأقدم (السابق، ص 94 ).
 كما أننا لا نتصور أمة من الأمم لم تفعل ذلك، حتى الحضارة اليونانية قد أخذت من غيرها، حيث تم الأخذ ثم التطوير ثم النقل، وهذه سنة من سنن الكون، ولم تشذ أمة من الأمم عن هذه السنة، فقد أثبت العلم الرفيع – كما يقول مختار القاضي – أن أصول الفن اليوناني مقتبسة من الآشوريين والمصريين، ولا ريب أن قدماء المصريين قد أخذوا عن أمم أخرى ظهرت قبلهم”(السابق، ص 95).
 ومن هنا فلابد أن نلقى الضوء على رأى بعض المنصفين من أمثال جورج سارتون الذي يقول في كتابه تاريخ العلم :"من سذاجة الأطفال أن نفترض أن العلم قد بدأ في بلاد الإغريق، وأن ما يسمى المعجزة اليونانية قد سبقتها آلاف الجهود العلمية في وادي النيل وفي بلاد ما بين النهرين، وأن العلم اليوناني كان إحياء أكثر منه اختراعا”(جورج سارتون: 1963، ص 20 -21). ولم يترك جورج سارتون هذه القضية إلا بعد أن قال:"ما نتمتع به الآن من حضارة إنما جاء هدية من شعوب كثيرة"(السابق، ص47).
Ä وبما أننا في اللحظات الأخيرة مع هذا الكتاب القيم للدكتور الطاهر مكي فإنه ينبغي لنا أن نصنع ربطا ببداية مشوارنا مع الكتاب وبما بدأ به الدكتور الطاهر من الإشارة إلى ذلك الجدل الصاخب حول حوار الحضارات وصراعها، وإلى ذلك التلميح إلى أننا أصحاب الحضارة الأضعف والأدنى مرتبة والأقل تقدما، فإنه من الواجب علينا التأكيد على ضرورة استخدام المنهج المعتدل في التعامل مع الحديث حول حوار الحضارات، الذي لم يعد ترفا فكريا يختص به العلماء والأكاديميون ورجال الفكر المولعون بدراسة التاريخ والحضارة، بل إنه أصبح مدخلا أساسيا لكل معالجة جادة للمجتمعات المختلفة (د. حميد السعدون: 2002، ص61). ومن هنا يجب أن يكون الحوار دائما بصيغته المعتدلة، مع ضرورة البحث عن الصيغ المناسبة لتفعيل دور الحوار الحضاري والابتعاد عن كل معوق من معوقاته .
 ولا تفوتني – في الختام - الإشارة إلى هذا الإهداء الذي صنعه الدكتور الطاهر في افتتاحية الكتاب، حيث يقول:
 "إلى نابغة الطب ذواقة الشعر الصديق الأستاذ الدكتور أحمد علي الجارم ودا وعرفانا وتقديرا"، و هذا الإهداء يشير بشكل واضح إلى علمَين من أعلام الحضارة العربية في العصر الحديث، أولهما العالم الكبير الشاعر والأديب والناقد واللغوي والمجمعي علي الجارم، طيب الله ثراه بتاريخه العلمي الكبير، والمشرِّف في تاريخ الحضارة العربية الحديثة، وابنه نابغة الطب والأدب الأستاذ الدكتور أحمد علي الجارم، متعه الله بالصحة والعافية، وفي ذلك إشارة إلى أن من أهدي إليه الدكتور الطاهر هذا الكتاب هو وأسرته، إنما هم من أحفاد هؤلاء العرب الذين ملأوا الحياة علما وأدبا وخلقا راقيا، فهما نموذجان لا يقل أحدهما عن هذه النماذج التي قدمت من خلال الكتاب، فكأنه يشير إشارة عملية إلى الربط بين الماضي والحاضر، كما ألمح عن المنهج المتبع في مقدمة الكتاب في الربط بين الماضي والحاضر .
 وأخيرا أحب أن أشير إلى هذه الحكمة الإغريقية التي تقول:"إن الآلهة لا تعاقب البشر حين تغضب عليهم، وإنما تسلط عليهم أنفسهم وكفي”أرجو أن نعود إلى أنفسنا لنكبح جماحها، وألا نتركها تتسلط علينا.
****

مراجع البحث
         · د. إبراهيم إبراهيم الكردي (1989م): نور من الشرق (أثر الإسلام على النهضة الأوروبية في العلوم والفنون والآداب)، دار الفكر العربي، القاهرة.
         · د. أحمد عفيفي اللغة وصراع الحضارات:
         · أحمد علي الملا (1979م): أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوروبية، دار الفكر، دمشق.
         · أحمد محمد بن نعمان (1997م): التعصب والصراع العرقي والديني واللغوي، لماذا وكيف؟ دار الأمة، الجزائر، الطبعة الثانية.
         · توفيق فهد (1983م): صورة أولى عن روافد العلوم العربية إلى أوروبا الوسيطة، ضمن كتاب: أضواء عربية على أوروبا في القرون الوسطى، تأليف نخبة من أساتذة الجامعات الأوروبية والعربية، ترجمة د. عادل العوا، منشورات عويدات، بيروت- باريس، الطبعة الأولى.
         · جورج سارتون (1963م): تاريخ العلم، دار المعارف، القاهرة.
         · د. حميد حمد السعدون (2002م): الغرب والإسلام والصراع السياسي، دار وائل، عمَّان.
         · ابن خلدون، المقدمة، دار الفكر، القاهرة، د. ن.
         · صامويل هنتنجتون (1998م): صدام الحضارات (إعادة صنع النظام العالمي)، ترجمة د. طلعت الشايب، وتقديم د. صلاح قنصوة دار سطور، القاهرة. بالإضافة إلى طبعة نيويورك : سايمون و شوستر، 1997.
         · صديق جوهر(بحث مخطوط): أسطورة معاداة الآخر في الثقافة الغربية.
         · د. الطاهر أحمد مكي(2004م): أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوروبي الوسيط، دار الآني، القاهرة.
         · عباس محمود العقاد (1973): أثر العرب في الحضارة الأوروبية، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة.
         · د. عبد الجبار ناجي، ود. عبد الواحد ذنون (1997): أثر الحضارة العربية والإسلامية في الفكر الغربي، سلسلة المائدة الحرة، بيت الحكمة، العراق.
         · د. عبد الرحمن بدوي (1979م): دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، وكالة المطبوعات- الكويت & دار القلم – بيروت، الطبعة الثالثة.
         · فرانسيس يوكوهاما (1992م): نهاية التاريخ والإنسان الأخير، بنجوين، لندن.
         · د. مختار القاضي (1973): أثر المدنية الإسلامية في الحضارة الغربية، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، الكتاب الثاني والتسعون.
         · نورمان ف كنتور (1981م): قصة حضارة (البداية والنهاية)، ترجمة د. قاسم عبده، دار المعارف، القاهرة.

****



(*) الأستاذ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك