الجمعة، 29 يونيو 2018

الطاهر مكّي القامة والقيمة.....أحمد حسن عوض






الطاهر مكّي القامة والقيمة

أحمد حسن عوض(*)

حين التحقت بدار العلوم في بداية التسعينيات من القرن الماضي  كنت أتشوّق  بتلقّي العلم والمعرفة على يد  المشاهير من علماء كليّتنا العريقة،وكان أستاذنا الطّاهر أحمد مكّي أحد هذه الأسماء الشّهيرة الرنّانة المحاطة بهالة من المحبّة والتّقدير والإجلال في آن، وكنا  نسمع أنّه أحد أعظم المتخصصين في الأدب الأندلسي، لأنّه عايش التجربة الأندلسيّة بعمق حين ابتعث إلى إسبانيا وأتيح له أن يدرس على يد أكبر المستشرقين، وأن يأخذ العلم من منابعه الثريّة، وأن يرى تاريخ الأدب العربي في الأندلس رؤيا العين عبر ثنائية "القراءة والتحصيل والدراسة" "والمعايشة والاحتكاك والتّواصل".
وكان علي أن أنتظر ببالغ الشوق والتّلهف عامين كاملين لألتقي به وجهًا لوجه، وأتعرّف إلى أسلوبه الرصين وبساطته العميقة في إلقاء المحاضرات، وبالفعل تمّ لي ما أردت وتتلمذت على يد أستاذنا الجليل في الفرقة الثالثة، واستمعت إلى محاضراته الرائعة  في الأدب الأندلسي عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة الذي قام بتحقيقه ، وعن أبي البقاء الرندي ونونيته الشهيرة التي قام بتحليلها لنا تحليلاً بارعًا، وكان من حسن الطّالع أن تمتد فترة التّلمذة إلى الفرقة الرابعة أيضًا، إذ درست على يديه القصة القصيرة وتعرّفت على أعلامها الكبار، لا في مصر فقط  بل في الوطن العربي بأسره.ولم يكن ليتاح لي ذلك بالطبع إلا من خلال تلك الحدقة الإنسانية الموسوعيّة المثقفة التي يتمتّع بها أستاذنا الطاهر مكي إلى جوار القدرة الدقيقة على الضبط المنهجي للملامح الفارقة لذلك الفن الحديث الذي يكاد كثيرٌ من المبدعين حتى الآن لا يعرفون حدوده، فتراهم يخلطون بين القصة ومناجاة النفس ، ويتحرّكون في المكان والزمان كيفما اتفق دون إلمام بالأصول المنهجيّة أو الأنماط القصصيّة المتميّزة  مثل النماذج التي  قدّمها لنا أستاذنا عبر مختاراته القصصيّة الرائعة التي تنمّ عن ذوق رفيع ووعي عميق باتجاهات الفن القصصي وروافدها الغربية البعيدة.
ولا تقتصر تلك السمة الموسوعية على فن القصة فقط بل تكاد تكون أحد أبرز السمات العلميّة في شخصيّة أستاذنا الجليل الذي تعدّدت إسهاماته وتنوّعت عطاءاته بدءًا من العصر الجاهلي وكتابه الشهير عن امرئ القيس "الملك الضّلِّيل" ومرورًا بعصور الأدب المختلفة الأمويّة والعبّاسيّة والأندلسيّة والحديثة وانتهاءً بكتاباته المتعددة عن الأدب المقارن ومناهج النقد الأدبي ومذاهبه دراسةً وترجمةً، وهي جهود يستحيل أن تحيط بها تلك الشهادة القصيرة التي ينطلق صاحبها من منطق العرفان والامتنان والمحبّة لعالِم جليل امتدّت أياديه البيضاء لتشمل أرجاء الوطن العربي طولاً وعرضًا وعمقًا ولتتألّق بفيوضٍ معرفيّة غزيرة متنوّعة المرامي والاتجاهات عبر مسيرة علميّة طويلة كان  فيها عالمنا نموذجًا للراهب المتوحّد في محراب العلم والثقافة والمعرفة ، ومثالاً للإنسان المتدفّق إنسانية ومحبة وتواضعًا وإخلاصًا وعطاءً شمل آلاف التّلاميذ والأساتذة الذين أفادوا من علمه، واستظلّوا بإنسانيته الرقراقة والمتألقة  قامةً وقيمةً .

****


(*) ناقد أدبي وشاعر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك