خمسون عامًا
في صحبة شيخ دار العلوم الأكبر
أ. د. الطاهر أحمد مكي
السيد عباس السيد
لله- سبحانه وتعالى- حمدًا وشكرًا لا ينتهيان، فقد أكرمت
بمجموعة كبيرة من العلماء والأساتذة الأفذاذ لا يبارون، وفي مقدمة هؤلاء شيخ دار
العلوم الأكبر العالم العملاق أ. د. الطاهر أحمد مكي.
وبعد؛ فقد صاحبت أ. د. الطاهر أحمد مكي طوال هذه
السنوات- أطال الله في عمره ومتعه بوافر الصحة والعافية- واتفقت أنا والجميع على
علمه وفطنته، وبلاغته حديثًا وكتابة، وفصاحته التي لا تباري، ومعانيه عالية الروح،
وعباراته الزاهية التي تهفو إليها القلوب والنفوس الصافية التي تنشد الفضل وتميل
إلى الكمال.
كثيرًا ما كنت- وغيري كثيرون- يعرفنا أ. د. الطاهر أحمد
مكي مواقع الصواب، ويبصرنا مواضع الارتياب، ويحذرنا مزالق الاضطراب، ويوجهنا إلى
دقائق الأمور، ويهدينا طرق الحق والرشاد، بأحاديث مرتجلة فيها رقة الكلمات، وخبرة
التجارب، بقلب صادق، وعقل واعٍ، وذلك بأسلوب رفيع، وعبارات متوازنة فيها توافق
وانسجام وغزارة معلومات.
وجدنا فيه العالم والمتعلم يطلبان حكمته، وعلمه، وخبرته،
ونزاهته، الكل يريد أن يروي غلته، ويستبين جلاء كل ريب، فهو صاحب همة دائمة لا
تنقطع، ومروءته صادقة لا تفتر.... هذا بعض ما عنده، وهذا ليس ثناء بل بعض حقه.
وصحيفة دار العلوم التي بين أيادينا الآن رأت في أ. د.
الطاهر أحمد مكي قوة الإرادة في هدوء، وشدة البأس في تجمل وتلطف، ونشاطًا دءوبًا،
ولم يدخر وسعًا في النهوض بأعبائها وأعباء جماعة دار العلوم، .... أما إذا أردنا
أن نكتب عن أ. د. الطاهر أحمد مكي فنحن بإزاء كثرٍة من وقائع وحقائق، وتجارب
وأبحاثٍ، نحاول أن نستقطب منها جزءًا من كلٍّ نرتوي به، فعندما تم اختياره عضوًا
بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، فهذه المكانة التي حظي بها لا تأتي بالتعيين، ولا
بالمجاملة، ولا بشيء من هذا كله، إنما هي مكانة العالم المتخصص، والعلامة
المتميزة، والفكر المبدع، ولاشك.
والأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي من هؤلاء النفر القليل
الذين طابق أداؤهم الصوتي أداءهم الكتابي بمهارة فائقة، حيث إن أسلوبه غاية في الإبداع
يصل بتجاربه وأفكاره إلى قرائه بيسر وسهولة يغبط عليها.
وأسلوب أ. د. الطاهر أحمد مكي أسلوبُ معلِّمُ واعٍ شائق
وأنيق، أسلوبُ يُعْجِبُ ويؤثر في قارئه، بل أسلوب يلذُ ويُفيد إفادات متنوعة.
وعباراته تأتي محكمة النسخ في لغة جزلة تبعد عن غريب
اللفظ، وذلك راجع إلى اعتماده على: رأيه السديد، ومعرفته الدقيقة باللغة والنقد
والأدب.
وإني أقف مع بعض نتاج العلامة الكبير أ. د. الطاهر أحمد
مكي ثلاث وقفات قصيرات؛ لضيق المقام، علي وعدٍ بإخراجها بالصور الأفضل في قابل
الأيام بإذن الله تعالى.
الوقفة الأولى- لعملين خطيرين عظيمين، وما:-
الأول- كتاب مصادر الأدب:
فالدكتور الطاهر أحمد مكي يعيش الحياة، ولا ينفصل عنها،
فمع نهايات سنة 1967م يشير إلى أن القصد لم يكن دراسة حياة العلماء والمؤلفين،
وإنما هدف سيادته التعريف بمادة الكتاب، مما يعين الباحثين والدارسين على تجنب
السقطات والمزالق.
إلى أن الهدف كما نرى أن سيادته أراد أن يلفت النظر إلى
جوهر الأشياء، وإلى النفائس الحقيقية، ليس في الأدب وحده، ومصادر الأدب بل في كل
نواحي الحياة- مناديًا دومًا أن من يضئ شمعة خير من آلاف يلعنون الظلام ولا يصنعون
شيئًا- لينهض الوطن من كبوته- في ذلك الزمن- ويقتحم رجاله الصعاب، فتصبح ثمرته
يانعة، وكان في ذلك:
ملك تضاءلت الملوك لقدره.
وأمر آخر في هذا الكتاب يستشرف فيه أ. د. الطاهر أحمد
مكي المستقبل وهو المسألة الدائرة في الآونة الأخيرة عن اللغة العربية، حيث يشير سيادته
إلى أن القارئ العادي لا يجد صعوبة في قراءة أي نص أدبي عربي رغم أنه يعود إلى مطلع النصف
الثاني من القرن الخامس الميلادي.
ثم يؤكد أن القارئ العادي لا يجد عسرًا في تمثل معناه،
فقواعد اللغوية هي التي تسير عليها، وتركيب الجملة فيه هو نفس ما تحتذيه، والغموض
الذي يصاحب جانبًا منه أحيانًا مردُّه سبب آخر غير اللغة نفسها.
ويضرب مثالاً دقيقًا لهذا فيقول:
"إن إنسانًا غير خبير بالصحراء مهما كانت درجة
ثقافته، سيجد بعض العنت في تصور الحياة عليها حيوانًا وأشجارًا ومهابط وعيونًا
وتقاليد، لأنه مرتبط بدلالات أسماء لا مقابل لها في حياتنا المعاصرة، وهو أمر يجري
على اللغة العربية الأدبية، كما يجري على اللهجات العامية، ولا صله له بالفصحى من
قريب أو بعيد".
ولكنه يؤكد على أن المدركات العقلية التي لا تتأثر
بالبيئة، أو تأثرها محدود؛ فإنها تبدو لنا صفاء ووضوحًا، على نحو ما كانت عليه في
عصر قائلها.
الثاني- كتاب القصة القصيرة:
وهو كتاب ينبغي ألا تخلو منه مكتبة في بيت، في مدرسة، في
معهد، في كلية، في جامعة..... أو لمتطلع إلى أن يكون أديبًا أو كاتبًا قصة، أو
والدًا أو والدة تريد أن تعلم أبناءها، أو معلمًا يريد أن يوجه طلابه وطالباته.
كما ينبغي أن يسعى القائمون على الثقافة والقراءة إلى
هذا الكتاب الذي يحقق لقارئيه أشياء وأشياء، فصاحب الكتاب الدكتور الطاهر أحمد مكي
يؤكد فيه أن العالم العربي كله أمة واحدة، رغم توالي المحن، ونكبات الزمن، وتكاثر
الأعداء، وضعف الأمين، وخيانة القوي، وجهده في ذلك مشكور ورائد، فهو يجمع القصص،
ويقوم بنخلها، واختيار الأفضل منها، والأكثر تمثيلاً لمدرسته دون تأثير بصخب
إعلامي، أو زيف دعاية.
وقدم لدراسته بكلمة في البدء أشار فيها بالتحليل للقصة
عبر التاريخ في الشرق والغرب، وعرف القارئ باتجاهاتها في الأدب العربي وقد راعى في
اختياراته مختلف الاتجاهات في شتى المراحل.
تأمل معي عزيزي القارئ لنرى مشهدًا يعبر عن عبقريته
الهادئة في تعليم الآخرين مفهوم السماحة والحب وقبول ما لا يتفق مع رأيي، وبمعنى
آخر فللآخرين رؤية قد تتفق، وقد تتباين، فهو لا ينسى أن يذكر القارئ "أن
الإمكانات الثقافية، والأبعاد المزاجية، وحركة عمره، ولحظة تأمله كلها أمور دقيقة
في تحليل العمل القصصي وتفسيره".
أي تواضع هذا؛ وأي حب للقارئ هذا، وأي تعليم للآخرين أن
يقتدوا بذلك، ويبعدوا عن كل شجار ومشاحنات لا طائل من ورائها غير الفرقة, وغير
الشقاق، فليس للفن تفسير واحد، وإنما هو متجددُ، ومتطور أبدًا.
وقد اتخذ في الأغلب الأعم الترتيب التاريخي لعرضه القصص،
ولم يقف في عرضه عند جيل العمالقة، وإنما تخير للناشئة وللجيل الصاعد مَنْ يرى أن
لهم مستقبلاً مع القصة في غدها القرب، كذلك لم يغفل أن يقدم نماذج من القصة
العالمية في اللغات المختلفة لكي يدرك القارئ أين نحن من هذا الجنس الأدبي. ثم أرخ
للقصة في شكلها الفني الحديث، وتحدث عن القص على لسان الحيوان، ثم بين أن الصلة
بين الإنسان والحيوان قديمة، وذكر الآراء في تشابه أساطير الأمم فيما بينها إلى حد
كبير وتعرضها لتأثر الرواية الشفوية كغيرها من فنون القول للزيادة والنقص، والتحوير
والتبديل، ثم فرق بينها وبين الخرافات.
ويلتفت إلى أساطير العرب وخرافاتهم، وتجاوز عرب الجاهلية
لمرحلة الطفولة في أدبهم، وبيَّن أن العرب كان لهم قصص عاطفي، ثم تحدث عن القصة في
القرآن الكريم، فالقصة التاريخية، فالقصة التمثيلية، فالقصة الأسطورية، ولكنه أفرد
حديثًا خاصًا بالقصة القرآنية من كافة الجوانب الفنية، ومختلف العناصر الأساسية
لها، وتفردها في عرض القرآن لها في تحرير جزئي أو كلي، ليمنحها معانِي جديدة لا
تحصى، وينتقل من ذلك في براعة إلى القصص في الإسلام، ثم القصة الشعرية.
وفي تميز بارز للدكتور العلامة الطاهر أحمد مكي يبين أن
القصة العربية قد لاقت تطورًا كبيرًا عبر العصور مع ارتقاء الحياة، وشيوع الثقافة،
وازدهار الترجمة، مشيرًا إلى أن مصر قد عرفت القصة مبكرًا، وينتقل بنا في يسر
وسهولة إلى أن القصة بمفهومها العام هاجرت إلى أوروبا.
وقد أشار أيَضًا إلى أن القصة قد كتبت في أحجام مختلفة،
وعرض لنماذج رائعة للقصة القصيرة، وذكر أن القصة جنس أدبي محكم، لا يسمح بالفضول
أو التزيد، بما ليس في خدمة النهاية التي حددها منذ البدء على نحو دقيق في خدمة
التوتر أو القوة التي ينهض عليها البناء في حل العقدة التي ينتظرها القارئ مشتاقًا،
وبمهارة- منقطعة النظير- تنم عن إدراك واعٍ، وفهم صادق، وقدرة بارعة، وخبرة عريضة،
يعرف بالقصة في نقاط تساعد من يذهبون في طريق كتابة القصة، يتزودون بها وتعينهم في
هذا المضمار، وفي بناء القصة، فالكاتب والقارئ وغيرهما حتى الإعلامي لابد أن
يقتربوا من هذا الكتاب ففيه خبرة، ودراية، ومعرفة، قلما نجد مثلها في قادم
الأعوام.
الوقفة الثانية- تختص بأعمال الترجمة العلمية والتعريب:
وهذه لا يتصدى لها، ولا يقوم بها إلا نفرٌ قليلٌ
والعملاق الأكبر أ.د. الطاهر أحمد مكي في مقدمتهم، فهو ممن تعودوا: قصد العبارة،
ودقة المعاني، وارتقاء الأخيلة، وابتعدوا عن الزخرف والصنعة، ونهجوا العبارة
السهلة الواضحة، والأمانة في العمل وفي الإضافات القيمة التي تخدم الهدف والغاية.
وترجمات وتعريب أ.د. الطاهر أحمد مكي ليست إلا صورًا
أدبية جديدة لها مقاييسها وأوضاعها، فهي أعمال يحتذى بها حيث إنها صاحبة منهج علمي
محدد وتوجيه نشيط وسديد.
ولا يتسع المقام لهذه المؤلفات كلها، فكلما انتهيت من
قراءة كتاب أجد نفسي تردد:
سقَتْني بيُمناها وفيها فلم أزل
|
|
يُجَاذِبُني مِن ذاك أَوْ هذه شكرُ
|
ترشَّفْتُ فَاها إذ ترشَّفتُ كَأسَها
|
|
فلا والهَوَى لم أدرِ أَيٌهما الخمرُ
|
وفي هذه الوقفة سأتحدث عن كتابين أثيرين، ألا وهما:
الأول- كتاب مع شعراء الأندلس والمتنبي
سِيٌر ودراسات
والدكتور الطاهر أحمد مكي في هذا الكتاب- كغيره من
الكتب- البحث العلمي يجعله أمينًا مع النص، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فهو يبقى من
صور المؤلف (إميليو غرسيه غومث) وتراكيبه كل ما تتسع له اللغة العربية، وكان في
أبينتها مقبولاً، وعلى ذوقها جاريًا، ولو كان جديدًا لم تألفه العيون والآذان، ولم
يكن ذلك شيئًا سهلاً على الدوام؛ لأن غرسيه غومث ليس مجرد باحث عادي، أو مستشرق
كاتب، تأمل معي عزيز القارئ ماذا يقول الدكتور الطاهر أحمد مكي في غرسيه غومث:
"هو أديب في لغته، صاحب أسلوب متميز، ومدرسة خاصة،
يعني بعبارته عناية بالغة، وكان في كل خطاه يذكرني بالأديب المصري الكبير مصطفى
صادق الرافعي- رحمه الله- وهو واسع الثقافة على تنوع فيها يلتقط صوره وتشبيهاته من
مهابط شتى، قديمة وحديثة، شرقية وغربية، ويستعين على توضيح فكرته بمواد تتجاوز
عالم الكلمة إلى دنيا الرسم أو الموسيقا.
ولاشك- أيها القراء الكرام- أنكم معي في أن ما يجده
المعرِّب الأمين من مشقة وتعب حيث كان يعود كثيرًا إلى النصوص الأصلية كي يزيد
بيتًا أو أبياتًا يعود عليها ضمير لا يفهم النص بدون، مشيرًا إلى أن المؤلف لم يكن
في حاجة إليه في الترجمة، أو لأنه مع الترجمة يصبح لا شيء، ولكنه في العربية ليس
كذلك.
فالأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي عالم حريص على أن يجعل
القارئ العربي يواجه المؤلف مباشرة دون تدخل متعمد، وتأملوا معي أيها القراء ما
عرَّبه الدكتور الطاهر عن بيت المتنبي الشهير- في لغة راقية، وبلاغة رائعة:-
فالخيل
والليل والبيداء تعرفني
|
|
والسيفُ
والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ
|
ومع ذلك، لم يكن المجد الأدبي وحده مرمى طموح شاعرنا،
كان يأمل أن يصنع مجدًا، سداه الأدب، ولحمته أمجادٌ حربية يحققها بحد السيف، وخال
نفسه كفؤًا لكلا الميدانين، ولكن القلم والسيف ليسا بمستوى واحد فيما يرى المتنبي،
إن الإول يجب أن يخلي الطريق، أما الثاني...
والثاني- كتاب ملحمة السِّيد
وكثيرون يعرفون اللغات التي عرفها أ.د. الطاهر أحمد مكي،
وهي: العربية، والإنجليزية، والقشتالية، والإسبانية، والبرتغالية، والفرنسية،
والدكتور الطاهر بترجمته نص كتاب ملحمة السِّيد ودرسه، وتقديمه أسهم بطريقة
إيجابية وفعالة في إلقاء بعض الضوء- والبعض قد يكون كثيرًا وكثيرًا- على ما بين
الأدب العربي والآداب الأوربية من صلات هذا من جانب، ومن جانب آخر دعوة لدراسة
الأدب الأندلسي في ضوء منهجية جديدة متطورة تعرف وتعي أن المسلمين حين قدموا إلى
شبه الجزيرة الأيبيرية بشرًا ولغة، فنونًا وعادات أبدعوا حضارة ازدهرت لزمن طويل،
وأخذت من كل عناصر الحياة عبر الأندلس كله، وترعرت فيه عبر قرون تسعة.
وتلك نظرة علمية واقعية- يرصدها أ.د. الطاهر أحمد مكي-
حيث إن شمال الأندلس (شبه الجزيرة) كانت فيه دولة مسيحية تنمو على مهل، وتأخذ
أشكالاً إدارية وسياسية وحضارية مغايرة للدولة الإسلامية القوية في الجنوب،والتي
كانت أكثر تقدمًا. وفي ذلك إشارة إلى أن إهمال ودراسة الجانب المسيحي، وبخاصة في
الجوانب الأدبية والثقافية والدينية، يجعل الدراسات الأندلسية تقليدية.
ودراسة الأندلس تقتضي معرفة ودراية بمعرفة التمايز
والتغاير في كلا الجانبين الشمالي والجنوبي.
ويبين الدكتور الطاهر أحمد مكي أن المنهج يحتم معرفة
حقائق الأشياء في الجانبين الإسلامي والمسيحي لكل من أراد أن يتصدى للدراسات
الأندلسية بعامة، ولمن أراد أن يتخصص في تاريخ إسبانيا الحديث.
وهنا أيها القراء الكرام نجد إشارات تاريخية، وملامح
ثقافية، وأمور دينية، وأحداث اجتماعية، تحتاج إلى الدرس والبحوث من الأساتذة
المتخصصين في كل مجال، وللباحثين كبيرهم ومن يبدأ الطريق. كما أن هناك عملاً نشرته
صحيفة دار العلوم للدكتور الطاهر أحمد مكي خلال
السنوات الأخيرة- وهو في طريقه للطبع في الأيام القادمة- يحتاج إلى متخصصي الدراسات
التاريخية، وغيرهم من أساتذة الاقتصاد وعلوم السياسة، والاجتماع أيضًا أن يبحثوا
فيه لنعرف أين نحن، وكيف كنا، وإلام نسير، حتى لا تترك الأمور كما غبنا عن أفريقيا
ربما عن... أو عن....
وفي كتاب ملحمة السِّيد عمد الدكتور الطاهر إلى النص
القشتالي القديم لا النصوص الإسبانية الحديثة لما بها من تصرف مصالح واعتبارات،
ودواعي كثيرة.
وقدم قدم لدراسة الملحمة بمقدمة ضافية أوضحت الأمر ويسرت
السبيل تكشف عن وعي كامل، ودراسة واسعة بالتاريخ، وعلوم الجغرافيان وشواغل المكان،
وتتابع الأحداث، والظروف الاجتماعية، وأوضحت أن الطبقة الارستقراطية قد تقبل شيئًا
ولكن الطبقة المتوسطة أو الوسطى لا ترتضيه، وبيَّن أن المرأة المسلمة كان لها دور
رائد نتيجة ثقافتها العالية، ومعرفتها الواسعة بالموسيقا والغناء والأدب والتاريخ،
وغير ذلك.
ثم يفرق بين الشاعر الجوَّال، والشاعر المنشد من خلال
دراسة تكشف عن ثقافة لا حدود لها، ومعلوماتية خصبة واعية، وذلك من خلال أسلوب بديع
في العرض، حيث بين صفات كل منهما، وما يتفوهان به، وشكل كل منهما وهيئته، وحالته،
وأين يكونان.....
ويلفت النظر إلى أن الشعراء الملحميين الأسبان يتميزون
دائمًا بأنهم يلتقطون مادة ملاحمهم من الأحداث المعاصرة التي تحيط بهم، ثم يبين
جوانب التوافق بين ملحمة السِّيد وسيرة بني هلال.
وحتى تسهل الإفادة، وتتم الفائدة، يُزيِّل الكتاب بمعجم
جغرافي رائع للأماكن التي وردت بالملحمة، وهو مجهود رائد مضن يشكر عليه، فقلما
وجدنا مثل ذلك في مجالات متعددة.
وهذا العلم المتدفق والراسخ في هذا العمل، وغيره الكثير
يضع أ.د. الطاهر أحمد مكي في مصاف كبار العلماء، فكما نشير إلى كبار العلماء
شرقًا، وغربًا، وشمالاً وفي كل الاتجاهات فالإشارة إلى أعمال الدكتور الطاهر أحمد
مكي مستمرة ورائدة في بابها.
الوقفة الثالثة- وتختص بأمرين جليلين، وهما:
الأول- ننتقل فيه على كتاب رائد وعظيم، وهو مؤلَّف
العلامة العملاق الكبير أ.د. الطاهر أحمد مكي «أصداء عربية وإسلامية في الفكر
الأوربي الوسيط» وقد دفعه إليه- كما أشار سيادته- الجدل الصاخب الذي يدور حولنا،
ويجئ تحت عناوين مختلفة: حوار الحضارات، أو صراعها، أو تلاقيها، وفي كل الحالات
يلمح أصحاب الجدل الصاخب العقيم إلى أننا أصحاب الحضارة الأضعف، والأدنى مرتبة،
والأقل تقدمًا.
لكن العلامة لكبير يقرر: أن الأمر ليس بذلك! وتأملوا معي
أيها القراء الأعزاء وهو يؤكد هذا إذ يقول:
"نعم، ربما لا نساويهم نحن، في لحظتنا هذه، ولكن
هذا الواقع ليس قدرنا، ولا نحن عرايا من المواهب، فمنذ خمسة قرون، وهي ليست بالزمن
الطويل في عمر الشعوب، كنا المنار الهادي في مجالات العلم والفلسفة والرياضيات
والفلك والآداب، وكانت العربية اللغة التي تدرس فيها كل هذه العلوم، وعن طريقها
وإبداعتها تعلموا، ونهضوا، وتقدموا، وسبقوا!".
نِعْمَ ما قرر، ونعم أجر العالمين، وشيخنا الأكبر أ.د.
الطاهر أحمد مكي لا يعود إلى هذا التاريخ ليزهو به، أو يذكر ساهيًا، كما يشير
بحكمته:
"الزهو وحده لا يقيم حضارة، ولا يصنع تقدمًا، وإنما
لنتأمل، ولنعاود التأمل دائمًا: ما الذي جعلنا الأقوى إذ ذاك، وما الذي أخذوه منا
فتقدموا به؛ وتركناه نحن، فكان هذا حالنا؟!".
وببصيرة شيخ دار العلوم الأكبر، وحكمته الناصعة، وروعة
بيانه يلفت النظر إلى السبب في عبارة رشيقة، حافلة بالمعاني، تحتاج إلى أن تدَّرس
لطلابنا، وطلاب المستقبل بدلاً من عبارات نثرية أصبحت..، وصارت.. يقول سيادته عما تركناه:
أمران: الأول- احترام العقل، والثاني احترام كرامة الإنسان، حافظنا عليهما
فانتصرنا في معارك الحياة، ونسيناهما فتقهقرنا، وأخذوهما عنا فانتصروا وتقدموا.
ويرسم الطريق إلى نهضة نحتاج إليها في زمننا هذا
والأزمان القادمة، بألفاظ واضحة تحتاج إلى من يقرأها، ولمن يعيد قراءتها، وتحتاج
إلى من يتأملها، ولمن يستنتج ويستنبط... وتحتاج إلى من يخلص إلى نهضة هذا الوطن
بحب، وإخلاص، وأمل في مستقبل أفضل. فيقول- وقوله حق:
"إذن، فطريقنا إلى النهضة الشاملة في حاضرنا يمر
بالطريق نفسه الذي مَرَّ به ماضينا: احترام العقل، وطريقه حرية الفكر بلا حدود،
واحترام كرامة الإنسان، ومظهرها وأدواتها الديمقراطية الكاملة بلا قيود، وكلما
أخلصنا لهذين المبدأين، كلما كان إنجازنا لأهدافنا كاملاً وسريعًا".
ودراسات العلامة الكبير أ.د. الطاهر أحمد مكي في هذا
الكتاب تقدم بعض ما أعطيناه لأوروبا عشية نهضتها، تذكرها بأمسها؛ لتهدهد في
مواجهتنا من غلوائها، ونذكر به أنفسنا، علَّ ذلك يشد من أزرنا.
وعندما يقرأ تعريب أ.د. الطاهر وترجمته وإضافاته، نلاحظ
ديباجة عربية ناصعة لا تفوح منها رائحة ترجمة لولا إشارات سيادته، فهو يستخدم قلمه
المشرق الذي يعبق بأريج نفاذ، فنحن نقرأ لعالم كبير جمع بين: اللغة الأجنبية
المتقنة ولغته الأصلية العربية وموسوعته العلمية الكبيرة التي تزخر، وتحتفظ
بمعلومات لا تنتهي، وعلمه واعٍ «نضٌّ وبضٌّ"»، نض حيث النضارة وكثرة وغزارة
المعلومات، وبض حيث رقة الأسلوب المنقطعة
النظير، فلا نجده عند غيره، فيصعب على الباحث والمتناول لنتاجه العلمي أن
يتصرف في مفرداته وعباراته.
وهذا الكتاب (أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوروبي
الوسيط) يحتاج- كغيره من مؤلفاته- إلى إعادة قراءة، وبحث وتأمل، فهو بقدر التخصصية
فيه نستطيع أن نستنتج منه جوانب تاريخية، وأخرى سياسية، وثالثة اجتماعية،
ورابعة..، وخامسة.... إلى ما شاء ربُّ العالمين.
"فالغرب عندما بدأ في القرن الثالث عشر الميلادي
يعود إلى نفسه، يحاول أن يكتشف ذاته، ويفكر فيها ويصقلها، جعل من التراث اليوناني
وسيلة إلى تحقيق غاياته، يبحث عنه، وينشر روائع مخطوطاته، يترجمها إلى اللاتينية،
ثم إلى اللغات الأوروبية فيما بعد،... ,أصبح الطريق إلى عصر النهضة مفتوحًا أمام
أوربا الجديدة، وكان طريقها إلى التراث اليوناني يمر عبر بوابة اللغة العربية، فهي
التي احتفظت به مترجمًا إليها، ولم تكتف بالترجمة، وإنما شرحته وعلقت عليه، في وت
لم تكن أوروبا تعرف غير عناوين الكتب وأسماء المؤلفين، فقد عاشت طوال العصر الوسيط
حالة من الجهل والهمجية، نسيت معها اللغة الإغريقية، واقتصرت ثقافتها على قليل من
كتب الوعظ الديني، وتواريخ القديسين، ومجموعات لاتينية من أواخر العصر القديم، لا
تعكس غير صورة شاحبة لمجد العلم الحقيقي الذي كان، مضافًا إليه حصيلة وافرة من
أخطاء النسخ والفهم والشرح، واستقرت كلها في الأديرة النائية...".
نعم، في مصر تم أول لقاء بين المسلمين والفكر اليوناني،
عندما فتح المسلمون مصر، لأن ممارسة الإسكندرية كانت قائمة، وكانت هذه المدرسة هي
الوحيدة التي يجري فيها التعليم باللغة اليونانية في البلاد التي فتحها المسلمون
في طلائعهم الأولى.
ويورد من كلام (أبو الوفاء مبشر بن فاتك) الدمشقي الأصل
الذي استوطن مصر حتى صار يعد من أعيان أمرائها وأفاضل علمائها، ومن أدبائها العارفين
بالأخبار والتواريخ والمصنفين حيث ذكر: أن اختلاف مذاهب الآخرين، وتباين طرقها،
وتقادم عهدهم لم تمنعه من أن يستمع إلى أقاويلهم، ويتبع أحسنها، ويترك ما سوى ذلك
مما خالف حكم الشرع أو العقل.
وفي ذلك يقول أستاذنا الأكبر الدكتور الطاهر أحمد مكي:
"ما أروع أن يكتب هذا في العصور الوسطى، عن الفلسفة
اليونانية، في بلد إسلامي".
حقًا ما أروع هذا سيدي العلامة الأكبر، وأين هذا مما
صنع- علي سبيل المثال- في الجزائر إبان احتلالها من فرنسا، فقد كان رئيس المجلس
الإسلامي الأعلى في الجزائر، الذي يوجه هذه الطرق، مستشرقًا فرنسيًا، كاثوليكي
الديانة بطبيعة الحال،... إلى غير ذلك فقد كانت جامعة الأزهر، وهي فرنسية مناهج
وأساتذة وطلابًا، وإن كانت على أرض عربية إسلامية، مركزًا قويًا لدعم هذا النشاط
وتوجيهه، فقد كان هؤلاء المستشرقون الكبار، يقدمون علمهم، أو بعضه؛ ويخفون وراءه
سمومهم ويضعون في خدمة الاستعمار كل مواهبهم.
وعن الفيلسوف الميورقي "رايموندو لوليو"
فالمستشرق الإسباني والعلامة الكبير "خوليان ريبيرا" يقول:
" من بين أصعب المشكلات حلاً في تاريخ الفلسفة
الإسبانية الأسلوب الغامض للفيلسوف رايموندو لوليو، وتقنيته الغريبة، ومنهجه غير
المألوف وتأكيداته النادرة، وكان ذلك مضافًا إلى عادته في ألا يذكر مصادر مذهبه،
كان ذلك سببًا في أن أفكاره لا تفهم بوضوح كامل، وليس من السهل أن نحدد بدقة أصول
طريقته".
لكن العلامة الأكبر أ.د. الطاهر أحمد مكي أكد بأكثر من
دليل على وجود علاقة خاصة، مباشرة وشخصية بين مذهب "لوليو" ومحي الدين
بن عربي، وأكد بالدليل الساطع أن "لوليو" قد انتفع إلى حد بعيد بكتب
"ابن عربي" وهو ما يفسر للباحثين وللجميع جانبًا من زهد
"لوليو" ومن فلسفته.
ويستمر أ.د. الطاهر أحمد مكي، فيقول: "هذا التشابه
في السلوك يمكن أن يكون صدفة كله، ولكن ما ليس سهلاً تفسيره عن طريق الصدفة
البحتة، أو الاتفاق العارض، هو التشابه في: نظامهما، ومبادئهما، ومنهجهما، وطريقة
عرضهما لما يدعون إليه".
وبرغم هذه المفاجأة التي خرج بها إلى الضوء لبعض علماء
ما وراء الطبيعة المتعمقين من المسلمين الأسبان، ولا يتحدثون عنهم في أوروبا غير
القليل أو بالكاد، فإن أ.د. الطاهر أحمد مكي يحتفظ لنفسه بأن يكون «مجرد سائح» يجئ
في الطليعة، ثم يدع هذه المدرسة- أملاً، وسعيدًا، وراغبًا- لصديقه الدكتور
"ميجيل أسين بلاثيوس"، والذي يحمل هذه القضية على نهاية سعيدة، وبحماسة
علمية، وبتكوينه الفلسفي الأصيل، وبقوة روح ليست جامدة ولا متعصبة، يمكن مع
المرونة أن توصل، بلا عنف، اكتشاف التفكير المعقد، والملتوي، والدقيق، والعميق،
لهؤلاء الصوفية المسلمين.
هذا العمل عمل رائد ورائع، فيه فيض إلهي منحته السماء
على الدكتور "الطاهر" نورًا غامرًا يدفعه إلى الكشف عن جواهر لا يشهدها
إلا أصحاب الرؤيا التي يفتح الله عليهم.
هذا العمل عمل جد عظيم كغيره من نتاج أ.د. الطاهر النتاج
العلمي، ينم عن مواهب متعددة، يعزف على أوتار موسيقية تحتاج إلى فرق عمل تعمل
وتبحث وتحلل وتستنبط لتصل إلى حقائق عظيمة في قادم الزمن بإذن الله تعالى.
والأمر الثاني: يتعلق بفكر أ.د. الطاهر أحمد مكي، وغيره
من كبار العمالقة.
فإذا كان الغزالي يدعو إلى الإيمان والتصوف، وابن رشد
يؤمن بالعقل والمنطق، وإمكانية التوافق بين العقل والدين، وبيكون الإنجليزي دعا
إلى استخدام التجربة في العلم، وأبيلار الفرنسي رفع شعار لا يجوز للإنسان أن يؤمن
دون أن يفهم، وألبرتو الكبير أخذ عن الإسلاميين، ومال إلى إتباع الفارابي وابن
سينا في تأويلهما أرسطو، وبلاثيوس وقف طويلاً عند ابن عربي، فإن شيخ دار العلوم
الأكبر والعملاق الكبير أ.د. الطاهر أحمد مكي يرى احترم العقل واحترام كرامة
الإنسان، هما السبيل إلى النهضة الشاملة، فمتعته التي لا تعلو عليها متعة العلم
والبحث والمعرفة، هو أستاذ، ومفكر، وعالم موسوعي، وإن نتاجه سيبقى أساسًا للأجيال
الحالية والأجيال المتعاقبة والراغبة في نهج ذلك السبيل وغيرهم الشادي منهم أول
الطريق، وحتى من بلغوا مرحلة النضج والتمكن فسوف يجدون نتائجه تجربة واسعة وعريضة
وعميقة، رسم فيها لعلمه ولعمله نظامًا دقيقًا، وتنظيمًا بديعًا، وهو عمل قاسِ يؤدي
بالإنسان إلى الإبداع الذي حققه، وإننا لا نستطيع أن نكافئه عليه غير دعاء متجدد
ودائم منا جميعًا أن يمتعه الله سبحانه وتعالى بالصحة والعافية. اللهم آمين.
****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك