السبت، 31 مارس 2018

"بين الأربعين والموت" ملحمة الطاهر مكي ...د.محمود الضبع


على أرض هذا الوطن مرت أجيال من العلماء والمفكرين والمبدعين والأساتذة العظام، تعلمنا منهم عن قرب وتتلمذنا على أيديهم، أو عبر كتاباتهم التي ستظل علامات مضيئة على الطريق في كل تخصصات العلم والمعرفة.
وكم كان حظي سعيدا أن مررت من بين يدي كثيرين منهم أدين لهم بالفضل والولاء، ليس لعلمهم فقط ، وإنما لمواقفهم الإنسانية، ونموذج الأستاذية الذي جسدوه بأفعالهم ورسخوه في نفوسنا عبر مواقف الحياة.
من بين هؤلاء أستاذي الراهب المتبتل الخلوق أستاذ الأدب المقارن والدراسات الأندلسية الدكتور الطاهر مكي.
بين الأربعين والموت.
كانت هذه الجملة هي البداية لعلاقتي به، كنت أجرب نفسي للكتابة الصحفية عبر مجلة حائط، وفكرت في إجراء حوار معه وأنا ما زلت في الفرقة الثانية بكلية دار العلوم، لم أكن قد تعرفته بعد، ولم أكن قد درست على يديه حتى حينها، وأعددت أسئلتي الساذجة، وكان أول سؤال: كم عمرك؟
فأجاب: بين الأربعين والموت
لا أذكر بقية التفاصيل، ولا يهمني، فقد كانت البداية من هنا… هل الموت نهاية؟ أم الموت إبداع؟ أم أنه بداية جديدة؟ وماذا سنترك بعد موتنا؟
كثير من الأسئلة التي رافقتني بقية حياتي لتشكل منطلقا لفهم ما حولي، وكان هو بدايتها.
تأملت بعدها كتاباته، وحياته، وشخصيته… وتتلمذت على يديه عامين دراسيين، أحدهما عبر مقرر دراسات في الأدب الأندلسي في الفرقة الثالثة، عن المتنبي ومرثية غومس، ورثاء المدن والممالك، ونونية أبي البقاء الرندي :
لكل شيء إذا ما تم نقصان… فلا يغر بطيب العيش إنسان
وتأثرت وبكيت مع الموريسكيين ، وثارت نفسي، وخرجت من المقرر الدراسي إلى عالم الإبداع… وباختصار بدأت علاقتي مع عالم الأندلس (ڤاندلس، وأندلس، أندلس) على يديه.
ثم اكتملت العلاقة في الفرقة الرابعة مع دراسة كتابه: القصة القصيرة مختارات ودراسات الصادر عن دار المعارف، وما زلت أذكر قصة "ذراعان" لأبي المعاطي أبو النجا، وكم كانت معبرة عن شعورنا نحن الشباب الحالم العائش في الخيال.
الأهم أنه بعد دراسة نماذج عديدة من القصة المعاصرة في الثمانينات والتسعينات عبر الكتاب ومن خلال المحاضرات، دخلنا امتحان نهاية العام فوجدنا قصة قصيرة مصورة من صحيفة الأهرام في عدد الجمعة وسؤال واحد: حلل هذه القصة.
رسب الكثيرون، وحصلت على امتياز في المادة، وساقتني أقداري عقب انتهاء الامتحانات ليكون واحدا ممن يمتحنوني في مادة الشفوي (اختبار عام وشامل يؤديه طلاب دار العلوم قبل التخرج)، وبخبث الشباب جررت الحديث لامتحانه وإجابتي في مادة القصة القصيرة، فتذكرني ومنحني امتياز (بالمناسبة وهذا اعتراف: لم أكن أحصل على تقدير امتياز إلا نادرا وفي المواد التي تروق لي، ربما لأني لم أكن من مدرسة الحفظ وإنما كنت من مدرسة الرأي، وربما لأني كنت غير مقتنع بما أدرس في الغالب الأعم، وربما لأني كنت طالبا فاشلا وقارئا نهما).
المهم أنني ما زلت أذكر الكثير من مواقفه معي، وكان يناديني: يا ولدي (وهي عادته، وليس اختصاصا لي وحدي)، وكم كنت عقب انتهاء محاضرته لنا أتمحك في مصاحبته لمكتبه مع قليل من الطلاب بحجة طرح سؤال، فيطلب منا الجلوس ويطول الحديث معه، ويصبر على أسئلتنا الساذجة، وينير لنا الطريق، ثم نصحبه في طريق خروجه من الجامعة لأنه لم يكن من محبي اقتناء السيارات.
انقطعت العلاقة لزمن عقب تخرجي واستكمالي للدراسات العليا في كليات أخرى رغبة في تنويع العلم والتعلم، ثم تواصلت العلاقة في سنواته الأخيرة عبر الندوات الثرية التي يعقدها نادي دار العلوم بشارع التوفيقية، وكان هو رئيسه حتى الممات.
لعله لم يتذكر يوما تلاميذه الكثر في أنحاء العالم، ولعله لا يعرف كم كان تأثيره علينا ببساطته وقدرته على تقريب الأمور، وبعلمه المتفرد، وعمقه الفكري.
لعله لا يعرفنا نحن تلاميذه لكثرة عددنا وتنوع أجيالنا، لكنني أنا شخصيا أدرك الآن، وأعي تماما مقولته:
بين الأربعين والموت.
رحمة الله عليك أستاذي.

المصدر http://gate.ahram.org.eg/News/1858761.aspx

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك