أنصار طه حسين وضحاياه!
كتب: صلاح حسن رشيد .
كان طه حسين هو الجامعة، وكانت الجامعة هي طه حسين»، كما وصفه غريمه وخصمه التقليدي محمود محمد شاكر في لحظةٍ نادرةٍ من الإنصاف. وأقول أنا: كانت الحياة الفكرية هي طه حسين، وكان هو نشاطها ووقودها وهواءها، فيكفي أن يكتب مقالاً حتى تقوم على إثره معارك، فيما الرجل ثابتٌ على رأيه، وواثق بجدارة اعتباره عميد الأدب العربي الحديث.
ومن حسنات طه حسين ولفتاته الصائبة، أنه أول مَن تنبَّه إلى العباقرة المُجايلين له، وللأصغر سناً منه، فلولاه لَما كان الأديب أحمد أمين أستاذاً جامعياً، بل ما كان عميداً لكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن). فمَن غير طه حسين يتنبَّه لمواهب هذا القاضي الشرعيّ، وملكاته الفكرية، فيعينه أستاذاً للأدب العربي في الجامعة، وهو الرجل الذي لا يحمل درجة الدكتوراه. كان طه حسين، هو الوحيد الذي تجرّأ ففعلها، خلافاً للوائح الجامعة وقوانينها، ولم يجرؤ أحدٌ على الطعن في جدارة الاختيار، ولا الغمز من عبقرية أحمد أمين الفكرية.
أما عبد السلام هارون، فبدأ حياته مدرِّساً ابتدائياً، بعد حصوله على الشهادة الأزهرية، ثم شهادة دار العلوم، لكنَّ عينَ طه حسين الحصيفة، رأته جديراً بمقام أستاذ الجامعة، فعيَّنه أستاذاً للغة العربية في جامعة فاروق الأول (الإسكندرية الآن). ومن يومها صار أكاديمياً بلا شهادة دكتوراه، لا، بل تم نقله إلى كلية دار العلوم، فصار رئيساً لقسم النحو والصرف بها، ثم أسس كلية الآداب في جامعة الكويت، وتولى منصب الأمين العام لمجمع اللغة العربية في القاهرة، واستحق لقب شيخ المحققين في العصر الحديث.
والتفت طه حسين كذلك إلى أمين الخولي، خصوصاً بعد عودته من روما، ودراسته هناك الحياة الفكرية والأدبية واللاهوتية، فاستقدمه في عام 1928 للتدريس في الجامعة المصرية، فكان شعلة نشاطٍ وتجديدٍ وإصلاحٍ في العلوم العقلية والنقلية، وصارت له مدرسة فكرية، اسمها مدرسة الأمناء، ومن تلامذتها: بنت الشاطئ، وشكري عيّاد، وعز الدين إسماعيل، وحسين نصار، ومحمود علي مكي، وجابر عصفور وغيرهم.
وفي سنة 1927، تم إنشاء أول قسم للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) التي رأت استقدام أحد المستشرقين لتدريس هذه المادة، فما كان من طه حسين إلاّ الإصرار على أنْ يتولى ذلك الأمر شيخٌ أزهريٌّ، هو العلَّامة مصطفى عبد الرازق، الذي درس في السوربون. ونجح مصطفى عبد الرازق في إحداث نقلة موضوعية في هذا القسم، في المناهج، وطريقة التدريس، والمزاوجة بين الفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والفلسفة الإسلامية، والفلسفة الإغريقية، والفلسفة الحديثة، حتى شهد له بالريادة تلامذته الأعلام، ومنهم إبراهيم بيومي مدكور، وتوفيق الطويل، ويحيى هويدي، وأبو الوفا التفتازاني، وعبد الرحمن بدوي، والأب جورج قنواتي. وكان طموح سهير القلماوي هو دخول كلية الطب، لكنَّ العقبة الوحيدة التي منعتها من ذلك، هي كونها أنثى، فلم تكن تلك الكلية تسمح وقتها بالتحاق الإناث بها، فذهبت هي ووالدها إلى طه حسين، ليتشفع لها عند عميد كلية الطب، إلا أنَّ اللقاء خبَّأ لسهير ما لم تكن تعرفه، إذ أُعْجِبَ بفكرها وطموحها طه حسين، فاقترح عليها أنْ تلتحق بكلية الآداب، وهو ما تحقق. ولم يكتفِ بذلك، بل ساعدها في السفر إلى إنكلترا لتنال الدكتوراه في «ألف ليلة وليلة»، ثم أصبحت ملء السمع والبصر بفضل تبني طه حسين لها.
أما ضحايا طه حسين، فهم الذين اكتووا بنيرانه، فقد عاداهم، ووقف في وجوههم، بنفوذه، وجاهه، ومناصبه، ومنعهم من نيل حقوقهم الأدبية والمادية والاجتماعية والأكاديمية، ومن هؤلاء، الدكتور أحمد ضيف. وقصة هذا العالِم الجليل، هي أسوأ حكايات طه حسين مع خصومه، ويحكي العلاّمة الدكتور الطاهر أحمد مكي في كتابه النفيس «الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه»، كيف أزاح صاحبُ كتاب «الفتنة الكبرى»، أحمد ضيف من الجامعة القديمة، ليتسنى له تدريس الأدب بدلاً منه. يقول مكي: «في ما يتصل بالدكتور أحمد ضيف، يمكن القول إنه قضى أعوامه بعد أن أُبْعِدَ من الجامعة زاهداً، فقد أُرْسِلَ ليدرس الأدب في باريس، وتخصَّص فيه، ونال أرقى شهاداته، وقدَّم لنا أول مؤلَّفٍ عن الأدب الأندلسي بعنوان «بلاغة العرب في الأندلس» ثُمَّ وجد نفسه ضحية مؤامرةٍ دُبِّرَتْ بليلٍ، ساهمت فيها عناصر عديدة، بعضهم أجانب ليسوا فوق مستوى الشبهات، أخرجته من منصبه، وأحلَّتْ الدكتور طه حسين مكانه، ولم يكن قبلها قد درَّسَ الأدب، ولا تخصَّص فيه، وإنما كانت محاضراته عن التاريخ اليوناني والشرق الأوسط في العصر الوسيط». والدكتور زكي مبارك، هو أكثر ضحايا طه حسين وجعاً وألماً، فقد حرَمه من العمل في الجامعة القديمة، بعدما رفض التجديد له، فانتقل إلى وزارة المعارف مفتشاً للغة العربية، وهو الرجل الذي يحمل ثلاث درجات دكتوراه ويُعِدُّ الرابعة. لم يملك زكي مبارك نفسه من الغيظ تجاه طه حسين، لا بل قال عنه في مقال، أعاد نشره في مقدمة ديوانه «ألحان الخلود»: «لو جاع أطفالي، لَشويتُ طه حسين، وأطعمتهم من لحمه، إنْ جاز أنْ أُقَدِّمَ إلى أطفالي لحوم...»، وقال عنه أيضاً: «إنه لا يقرأ ولا يكتب».
أما أنور الجندي، فهو كان لحقبة طويلة مِن أنصار طه حسين ومريديه، وكتب عنه صفحاتٍ مشرقةً في كثيرٍ من كتبه. ففي موضع الثناء والإعجاب، يقول في كتابه «صفحات مجهولة من الأدب العربي المعاصر»: «أمَّا طه حسين، فإن أسلوبه هو الرجل بحق، فيه كل ما يوحي بأنه لطه حسين، ولو لم يُوَقِّع باسمه الصريح، ذلك الطابع الأزهري في الأداء، وذلك الطابع الفرنسي في المضمون، يُذَكِّر بالالتقاء والازدواج الواضح بين ثقافتيه. أما هذا التكرار المتصل، فهو يُوحِي بأن صاحبه يُملي ولا يكتب، وهناك من العبارات الكثيرة، ما توحي بشخصية الكاتب، مثال ذلك قوله: هات يدك أنا أضعها على هذا النص أو ذاك، وتلك العبارات الحائرة: لعلي، وأظن، وليتني أدري، وربما، ثم هذه الأناقة والموسيقى، والكلمات التي توحي بأن السمع يعطي الكاتب أكثر مما يعطيه البصر».
المصدر:http://www.alhayat.com/Articles
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك