الاثنين، 2 يونيو 2014

التوحيدي يُبعَث في القاهرة.



         عرفت مصر منذ باكر نهضتها الحديثة أهمية التراث ودوره في التذكير بالماضي، وبناء الوجدان القومي، وتقديم المثل والقدوة للناشئة، والخروج بالمواطن من دائرة العدم والتفاهة اللذين سقطت فيهما اللغة والأدب، حين فقدا التواصل مع المنير من التراث، وغرقا في هموم الواقع المثقل بالظلم والجهالة والتخلف على امتداد العصر العثماني.
كان الاهتمام بالتراث يتحرك على محاور عدة : نشره ذخائر ومصادر، فطبعت مطبعة بولاق في أول نشأتها، وتلتها دور نشر أهلية : كتاب الأغاني، ولسان العرب، ونفح الطيب، وكتب الجاحظ، والعقد الفريد لابن عبد ربه، ومن بعدها وقفت دار الكتب جهدها على تحقيق بعض ما صدر تجارياً وزادت عليه تحقيقاً علمياً، شاع وراج في شتى أنحاء الوطن، وأصبح قدوة ونموذجاً ويضرب به المثل، وما زال حتى يومنا تصوره دور الطباعة في العواصم العربية، دون أن تشير إلى المكان الذي حقق فيه في كثير من الأحيان، وفي مقدمة هذه الكتب : الأغاني، وصبح الأعشى، ونهاية الأرب، وإنباه النحاة، وديوان مهيار الديلمي، وتفسير القرطبي، وغير ذلك كثير.
وكان المحور الثاني، العودة إلى تدريس هذا التراث، في أفضل نماذجه، في المؤسسة التعليمية الوحيدة التي كانت قائمة في مصر في ذلك الوقت، وأعني بها الأزهر الشريف، فكان سيد المرصفي يدرس كتاب الكامل للمبرد في الأزهر لطلابه، وشرَحَه، وعلق عليه، شرح ما غمض من ألفاظ شعره، وفصل القول في ما أجمل مؤلفه، وأكمل ما اجتزأ من قصائده، ونشر ذلك كله في كتاب أعطاه عنواناً : "رغبة الآمل من كتاب الكامل"، ونشر في ثمانية مجلدات عام 1346هـ ـ 1927م، وهي طبعة جيدة، ولكنها لما تتكرر رغم نفادها من السوق كُليةً من زمن بعيد.
وكان الإمام محمد عبده يدرس لطلابه في الأزهر الشريف، الذين يتحلقون حوله راغبين في الرواق العباسي، كتابي (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) لعبدالقاهر الجرجاني. ولا تقتصر على الطلاب، وإنما يحضرها صفوة المثقفين إذ ذاك، أذكياء الطلاب والعلماء والمدرسين في الأزهر والمدارس، بدل الكتب التي ألفت في عصر التخلف وامتزجت بالمنطق، وتحجرت أمثلتها، وأصبح فهمها عبئاً على الدارس. فضلاً عن أنها لا تربي ذوقاً، ولا تقوّم أسلوباً، وقد قام الإمام محمد عبده بتصحيح الكتاب، وأشرك معه في ضبط لغويات (دلائل الإعجاز) ونصه، محمد محمود التركزي الشنقيطي، وهو عالم موريتاني اتخذ من مصر مقاماً، وشُغل فيها بالمخطوطات، نسخها وتصحيحها واقتنائها ثم أهداها من بعد لدار الكتب المصرية، وصدرت الطبعة الأولى من الكتابين عام 1321هـ ـ 1901م، وهي طبعة لا تزال رائجة؛ لأن عليها اسم الإمام، وإن كان العالم المحقق الأستاذ محمود محمد شاكر، حقق دلائل الإعجاز في عمل علمي لا يعلى عليه، ولا تحل أية طبعة أخرى مكانه.
وكان المحور الثالث من هذا الاهتمام الاحتفال برجالات الأدب والثقافة واللغة في القديم والحديث، فاحتفلت في أواخر العقد الثالث احتفالاً مهيباً على مستوى قومي، وافاه كل العرب بمبايعة شوقي بإمارة الشعر. وأقامت مؤتمراً حاشداً على مستوى قومي وعالمي لدراسة الموسيقى العربية في بداية العقد الرابع، وهو مؤتمر لم يتكرر مرة أخرى، ولا تزال أبحاثه جديدة لم تفقد شيئاً من جدتها حتى يومنا هذا. ولا نكاد نقترب من نهاية هذا العقد، حتى تحتفل بمرور ألف عام على وفاة المتنبـي احتفالاً غير مسبوق، شغل الصحف والمجلات والمفكرين والأدباء طوال عام كامل.
وفي منتصف العقد الخامس كان الاحتفال بفيلسوف المعرة، ندوات ومحاضرات ودراسات، ونشرت تراثه محققاً، ويسرته لجمهور القارئين بأسعار زهيدة على امتداد الوطن العربي كله، وما بين يدي القراء الآن في كل مكان، هو حصيلة تلك الأعوام تحقيقاً وطبعاً. وبعد المعري جاء الدور على الصوفي الأندلسي ابن عربي، في آخر العقد السادس، إبان الوحدة المجيدة مع سوريا، وإيثاراً لها، ولأن ابن عربي لقي الله على أرضها، واحتوى ترابها جثمانه، تم الاحتفال في دمشق، وشارك فيه باحثون عرباً ومستشرقين.

الاحتفاء بالتراث :

سلسلة متواصلة ومتماسكة من الاحتفاء بالتراث، كان ضرورياً ومن المفيد ألاّ تتوقف، ولكن محنة الانفصال، وضراوة الهزيمة بعده، وحرب التحرير، ومقاومة الحصار الاقتصادي المفروض على مصر، ومواجهة الأعداء، شغلنا عما كان يجب ألاّ نُشغل عنه، عن الثقافة ومتطلباتها. كما أن حركة التخريب القومي التي تولاها أعداؤنا، بإشاعة روح الفرقة والبغضاء بين الحكومات العربية، ودور القوى الأجنبية في ربط الثقافة - وهي مستقرة وثابتة - بالسياسة - وهي متغيرة ومتقلبة - وعملها بكل ما أوتيت من قوة، وبمساعدة بعض الحكام العرب أحياناً، على إضعاف دور مصر ومكانتها الثقافية، أدى إلى نتائج مروعة في هذا فانكمشت مصر على نفسها زمناً، وعجز الآخرون عن ملء مكانتها والقيام بدورها، وتحولت الثقافة من عمل قومي مشترك بين العرب جميعاً، إلى عمل محلي، يأخذ طابعاً إعلامياً محلياً وقتياً هزيلاً؛ لأن العامل الإيجابي في ندوة أو مؤتمر دراسي أن تتوافر له حرية الفكر والبحث والقول بلا حدود، وهو أمر لا يتوافر في غير مصر (باستثناء سنوات الحرب بالطبع).

بداية صحوة ثقافية :

كان اختيار أبي حيان التوحيدي لهذه الندوة الدراسية بداية موفقة لصحوة ثقافية نأمل أن تتواصل وأن تمتد إلى بقية جوانب الحياة عندنا، فلا نترك العبء على المجلس الأعلى للثقافة وحده، وإنما يجب أن تسهم فيه الصحافة والإذاعة مسموعة ومرئية. وقبل ذلك كله وزارة التربية والتعليم، وهي في حاجة إلى هزة عنيفة، تحرك جامدها، وتدفع بدماء جديدة في بدنها المترهّل، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الأقسام والكليات التي تعنى بالأدب واللغة في جامعاتنا المختلفة؛ لأن البداية تكون من هناك، من المدرسة الابتدائية، وفي القرية المصرية بالذات.
لم يجئ اختيار التوحيدي لهذا الحفل اعتباطاً، فقد كان الرجل صاحب مدرسة في الأسلوب، ومذهب في القول، ومنهج في التفكير، وأول ما نلاحظه أنه كان عالماً بدقائق الأسلوب الرائع، وقادراً عليه، غير أننا نكاد لا نلاحظ في أسلوبه ذلك التكلف الذي نجده عند غيره من الأدباء.
ولم يكتب في النثر العربي بعد أبي حيان ما هو أبسط وأقوى وأشد تعبيراً عن مزاج صاحبه مما كتب أبو حيان، ولكن الجمهور كان يميل إلى طريقة الآخرين في البديع، فيجري عليها ويعظّم أصحابها. ولقد كان أبو حيان فناناً غريباً بين أهل عصره، وكان يعاني وحشة من يرتفع عن أهل زمانه، ويتقدم عليهم وهو يقول : "فقدتُ كل مؤنس وصاحب، ومرفق ومشفق. والله لربما صليت في المسجد، فلا أرى جنبـي من يصلي معي، فإن اتفق فبقّال، أو عصار، أو ندّاف، أو قصاب. ومن إذا وقف إلى جانبـي أسدرني بصنانه، وأسركني بنتنه. فقد أمسيت غريب الحال، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، ومحتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى، متوقعاً ما لا بدّ من حلوله، فشمس العمر على شفا ، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول".
تدور مؤلفات التوحيدي حول قضايا عديدة شغلت المفكرين على أيامه، أبرزها الفلسفة في معناها العام، فهو يشغل بالجمال، والانفعال بالفن، والإدراك الجمالي، واستوعب ما عرف من الفلسفة اليونانية والمنطق على أيامه. وكان وثيق الصلة بمؤلفاتها، ينقل عنها كثيراً، ويذكر أسماء الفلاسفة والكتب، ويدافع عنها، ويرى الفقه والدين في حاجة إليها.

ذوق عالٍ في فهم الفن :

وهو متمكن من اللغة، وتمتلئ كتبه بمسائلها نحواً ومشتقات ولغة، دون أن يكون صاحب مذهب متميز يرتفع به إلى مستوى الأعلام في هذا الباب، ولم يكن شاعراً، ولكن الأشعار التي زحم بها كتبه، ولا سيما في (الصداقة والصديق) تدل على ذوق عالٍ في فهم الشعر وتقييمه، وكان معجباً بابن المعتز فنقل عنه كثيراً وأثنى عليه.
في الجانب الديني، نعرف أنه درس المذهب الشافعي، لكن معرفتنا بشخصه، ومن خلال تراثه، تجعلنا نحكم بأنه كان يرى نفسه أكبر من أن يقلد مذهباً بعينه، ولذلك لم يتخذ أي مذهب من المذاهب التي كانت سائدة في عصره هادياً يهتدي به، وهو على أية حال لم يتصدر للفتوى، ولم يشغل نفسه بالمسائل الدينية في أيامه الأولى، شاباً ورجلاً ناضجاً، ومع أنه كان معتزلي المذهب، وأحسب أن لقبه التوحيدي جاءه من هنا، فقد كان المعتزلة يُسمَّوْن أهل العدل والتوحيد، لم يكن له رأي مستقل في هذا المجال ينسب إليه، ويعيب على المتكلمين منهجهم، وينتقص طريقتهم في البحث والاستدلال، ويفضل الفلسفة عليها، ويحمل على علم الكلام، يعقب على عجب أحد المعتزلة من أن أهل الجنة لا يملون الأكل والشرب والنكاح فيقول : "والكلام كله جدل ودفاع، وحيلة وإبهام، وتشبيه وتمويه، ومخاتلة وتورية، وقشر بلا لب، وأرض بلا ريع، وطريق بلا منار، وورق بلا ثمر.. المبتدئ فيه سفيه، والمتوسط شاكّ، والحاذق متهم، وفي الجملة آفة عظيمة، وفائدته قليلة".
وكان إلى جانب ذلك جميل الخط، فلم يجد - وقد جاء إلى الحياة في أسرة مغمورة مجردة من كل مقومات الحياة - طريقاً يكسب منه لقمة العيش إلاّ أن يعمل ورّاقاً ينسخ كتب الآخرين , قد كرهها، ورآها شؤماً، وحاول أن يتخلص منها، وأن يسلك طرائق رجال العلم والأدب العظام حوله، فيعفيه من هذه المهنة المتواضعة، وييسر له طيباً من العيش، ولكنه لم يوفق أبداً، وفشل في أن يجد له مكاناً لدى الوزراء الثلاثة الذين شهروا برعاية الأدباء في عصره وهم : أبو الفتح بن العميد، والصاحب بن عباد، وابن سعدان؛ لأن اعتزازه بعمله كان كبيراً، أورثه كبرياء عالية، حالت دون أن يحني رأسه أو يرضى الدنية لشخصه.
في أواخر حياته، وقد أجهدته رحلة الحياة البائسة، وأنهكه الاصطدام بالمجتمع حوله، أفراداً وعادات وسلوكاً، سلك الطريق الذي سلكته ملايين البشر قبله، حيث يجدون الراحة في الرضا والأمن في القناعة، والسعادة في الزهد عما في الدنيا من متع وطيبات : تصوف، خالط الصوفية في شيراز، وأخذ بحياتهم واستقر بينهم إلى أن لقي الله.

حرق الكتب :

وقبل أن يرحل عن دنيانا هذه أحرق كتبه، فلما عذل في ذلك قال : "إني فقدتُ ولداً نجيباً، وصديقاً حبيباً، وصاحباً قريباً، وتابعاً أديباً، ورئيساً منيباً، فشق عليّ أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها.. وكيف أتركها لأناس جاورتُهم عشرين سنة، فما صح لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ. ولقد اضطررت بينهم، بعد الشهرة والمعرفة، في أوقات كثيرة - إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة".
عاش أبو حيان حياته بائساً خشن المضجع، نزر المال. كلما غالب الأيام غلبتْه، وكلما اتصل بحامي أدب من الوزراء عن قرب تنكر له، وقد أكسبه الفقر أخلاقاً سيئة، فكان عيّاباً، سليط اللسان، قليل الرضا، طمّاعاً، شديد الرغبة في عطاء العظماء، يشتكي صرف زمانه، ويبكي قسوة حرمانه، ذم أهل زمانه، وعابهم بنقص الدين والبخل وضعف المروءة، إذا غضب نسي المودة، وسلط على مواجهه لسانه مرةً، وقلمه أخرى، هجاءً وثلباً.
كان عظيم الثقة في علمه، وأكسبه تأمل واقعه المرير حقداً أسود على الناس والدنيا، فإذا يئس من عطائها استشعر الغنى عما في أيدي الناس، ودعا الله أن يصون وجهه عن الحاجة إليهم، والطلب منهم، ولكي يعزي نفسه ذكر في كتابه المحاضرات ألواناً من بؤس الأدباء وشكاياتهم.
وكان وراء التفكير في الاحتفال بأبي حيان أنه مفكر فذّ، وكاتب مقتدر، الكثير من أفكاره لما يفقد بريقه، لا سيما ما اتصل منها بتحليله الدقيق لطبيعة الإنسان، أو نقده لسلوك الأفراد في عصره، وتقييمه لحركة المجتمع في أيامه، وهي بأيامنا أشبه، وخروجه عن المألوف من الكتابة في زمنه، حين حاول أن يربط بين فكره والحياة، وأن يعلي من شأن الفكرة، وأن يجعل الجملة وعاءً لها، من المهم أن تكون جميلة، ولكن اصطناع الزخرفة، والإغراق فيها تكلف يذهب بجمال التعبير. وهو صورة حية للعالم المستنير المجدد، الذي يعيش زمنه، ولا يدير ظهره لما استجد فيه، نقدمه لشبابنا نموذجاً لما كان عليه عالم عربي منذ ألف عام من الزمان.

بحوث جيدة :

جاء الاحتفال بمستوى المحتفى، وبمستوى مكانة مصر الثقافية. وتوافد عليه علماء من كل أطراف الدنيا، من أستراليا حتى الولايات المتحدة، مروراً بأوروبا والعالمين العربي والإسلامي. وغطت الأبحاث معظم جوانب فكر التوحيدي وحركة حياته، وجاءت في جملتها جيدة، وتميز بعضها، لكن جانبين لم يعرض لهما أحد من الدارسين :
أولهما : نفسية التوحيدي في ضوء الجانب السيئ من أخلاقه، ووضاعة أصله، وسوء عيشه، ودور هذا في تذبذب سلوكه بين الضعة والتعالي، والنهم إلى الغنى والترف، والانصراف عنهما - بعد يأس - إلى الزهد والتصوف.
وثانيهما : هذا الضرب من المجون الصراح، الذي كان يختم به بعض أسماره مع الوزير ابن سعدان، والنكات الجنسية التي يوردها عارية دون أن يكني أو يداري، فلا أظنه يأتي بها فكاهة أو تسلية، ولا يكثر منها تظرفاً، وإنما يحاول معها - فيما أرى - أن يصدع الجدية المصطنعة، وأن يمزق أستار الوقار المزيف، الذي ترتديه شخصيات، هي في واقعها ليست كذلك، وأن يهزأ بـ(تابو) الجنس، وأن يجعل منه موضوعاً عادياً، يحتمل الحوار، ويدور حوله الحديث، علانيةً وبصوت مرتفع، حتى في المجالس الأدبية العالية. وهو في هذا الجانب لا يصطنع وقاراً، ولا يتحفظ إزاء أمر يراه من سنن الكون الطبيعية. ومن هنا كان تقييده لها في مؤلفاته، ولو كانت لمجرد التسلية الوقتية، والإضحاك العابر، لاكتفى بها قولاً، ولما قيدها كتابةً.
تخلل إلقاء الأبحاث - وكانت تشغل الصباح والمساء في مكتبة القاهرة الكبرى - أسئلة وتعليقات، من جمهور المستمعين، وكان كبيراً.
أما الأسئلة، وجاءت من عامة المستمعين، فلم تكن ذا شأن في جملتها، وهو أمر طبيعي؛ لأن التوحيدي قبل أن يبعثه هذا الحفل كان منسياً، رغم أن مصر اهتمت بتراثه وبدأت تنشره منذ مطلع هذا القرن، ولكن هذه المؤلفات المنشورة ولاسيما المحقَّق منها، وكانت أسعارها زهيدة، نفدت من زمن طويل، والموجود منها طبعات لبنانية، ليست موضع ثقة علمياً، وغالية الثمن، فهي فوق طاقة المشتري العادي، وإنه لشيء محزن أنك لا تجد في المكتبات شيئاً من مؤلفات أبي حيان التي حققها مصريون ولا شيئاً مما كتبوه عنه، لا كتاب د. زكريا إبراهيم، ونشر في أعلام العرب، ولم يكن ثمنه يتجاوز خمسة قروش، ولم يطبع غير طبعته الأولى عام 1965. ولا كتاب د. أحمد الحوفي، وكانت طبعته الثانية والأخيرة عام 1964، وهو كتاب أثنى عليه الدكتور طه حسين ثناءً مستطاباً في مقالة شهيرة نشرها في صحيفة أخبار اليوم (28/11/1964)، وأعاد نشرها في كتابه (خواطر)، والأسئلة المرتجلة في القضايا العلمية التي لا تصدر عن معرفة تجيء هذراً في الأعم الأغلب.
وكانت التعليقات أقل وأعمق. ولا يستطيع المرء أن يمر بتعليقين مر الكرام : أولهما كان من أ. د. فاطمة موسى أستاذة الأدب الإنجليزي في كلية الآداب في جامعة القاهرة، وجاء احتجاجاً قوياً على ربط بعض الباحثين العرب بين التوحيدي وعدد من المفكرين الأوروبيين أمثال : هيجل، وكافكا، وكيجارد وآخرين، دون مناسبة أو علاقة حقيقية، ودون مبرر في كثير من الحالات. وحتى دون نطق أسماء هؤلاء الأوربيين نطقاً صحيحاً، مما يعني أن المتكلمين لا يجيدون هذه اللغات، وإنما ينقلون عن باحثين آخرين دون تمكن. وكان معها الحق فيما قالت.

إحسان عباس الشيخ المحنك :

وجاء التعليق الجيد الثاني من أ.د. إحسان عباس، حين رأى جنوح بعض آراء الباحثين إلى المغالاة في الاستنتاج، أو اعتماداً على نظرة مجتزأة، تعتمد على بعض تراث التوحيدي دون أن تأخذ في الحسبان نتاجه كله، فحث - وهو الشيخ المحنك - جمهرة الباحثين على اتباع المنهجية في أبحاثهم، وهي تقتضي ألاّ ننسب إلى التوحيدي رأياً أو فكرة في ضوء مؤلَّف واحد من مؤلفاته، دون أن ننظر إليه في ضوء بقية مؤلفاته الأخرى؛ لأن بعضها يكمل بعضاً.
وحذر من الاعتماد على الكتب التي نُشِرت ناقصة من مؤلفات التوحيدي. وفي إشارة بعيدة، ولكنها واضحة، أسقط أهمية كتابين حُقِّقا في مصر، أولهما كتاب (الإشارات الإلهية)، للتوحيدي وحققه أ.د. عبدالرحمن بدوي، وصدرت طبعته الأولى في القاهرة عام 1950، والثانية في الكويت عام 1981؛ لأن الطبعة التي حققتها الدكتور وداد القاضي وصدرت عن دار الثقافة في بيروت عام 1973 بها زيادات هامة لا توجد في النسخة التي حققها الدكتور عبدالرحمن بدوي.
كما أن النسخة التي حققها الأستاذان أحمد أمين وأحمد الزين لكتاب (الامتناع والمؤانسة) وصدرت في القاهرة في ثلاثة أجزاء أعوام 1939، 1942، 1944 ناقصة لأن مخطوطة مكتبة الأمبروزيانا في ميلانو تضم زيادات هامة، ويشير الدكتور إحسان عباس إلى أنه قد اطّلع عليها، تاركاً السامع يفهم أن ذلك كان في ميلانو، مع أن مصورة لهذه المخطوطة موجودة في معهد المخطوطات في القاهرة، وأعتقد أنها التي اطلع عليها الباحث الكبير، والحق أن الدكتور إحسان عباس نخل مخطوطات المعهد في دقة وعلى مهل، وأفاد منها بلا حدود.
أقول ذلك، وأتوجه إلى المجلس الأعلى للثقافة بأن يحيي موات تحقيق التراث، لنعيد لبلدنا دوره الرائد في هذا الجانب الهام من الحياة الثقافية بعد أن قبرته الهيئة العامة للكتاب ومعهدها، لا عن طريق الجوائز والمسابقات التي يقدمها كل عام، وإنما عن طريق خطة طموح يتبناها، تكون معادلاً لخطته الطموح في مشروع الترجمة، وألاّ يقف الجهد عند تحقيق المزيد من التراث فحسب، وإنما أن يعيد النظر أيضاً في إعادة تحقيق ما حقق في النصف الأول من هذا القرن في ضوء المخطوطات الجديدة التي ظهرت، والتي تظهر كل يوم، واكتشاف الجديد فيها لا يتوقف، ومع تقدم تقنية التصوير فإن الحصول على أي مخطوط ولا سيما عن طريق رسمي لم يعد عسيراً ولا مكلِّفاً.
إلى جانب ذلك كله، كان التخطيط للاحتفال محكماً، والتنفيذ رائعاً، وتجلى ذلك واضحاً في استقبال الضيوف وإنزالهم، وفي انتظام الندوات في مواعيدها، وإخال الذين شاركوا ودّعونا راضين ومغتبطين، وبرهن الاحتفال من أوله إلى آخره على أننا قادرون على أن نصنع شيئاً عظيماً حين نضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
ويبقى سؤال أخير.. أين كان التليفزيون المصري من كل ما حدث ؟ كان غائباً تماماً، لسبب لا يدريه أحد غير رجال التليفزيون.
المصدر: مجلة الهلال11 /1995م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك