اللّغة، أيّ لغة، دون نزاع، أوضحُ خصائص الجنس البشريّ، فهي مرآة العقل، وأداة الفكر، ووعاء المعرفة، وتاريخ أيّ لغةٍ هو تاريخ شعوبها، وازدهار أيّ حضارة مرتبط بازدهار لغتها، تسمو بسموّ المتكلّمين فيها، وتنحدر بانحدارهم.
ولغتنا العربيّة أعرق اللّغات السّامية، وأغناها أصواتاً وصرفاً ومعجماً، وهي أجمل اللّغات إيقاعاً، وأيسرها تركيباً واشتقاقاً، والحفاظ عليها مسؤوليّة الجميع، المجتمع ومؤسّسات التّعليم والتّربية والإعلام، مقروءاً ومسموعاً ومرئيّاً، والمنظّمات الثّقافية بكلّ مستوياتها.
مع التّقدم الهائل في تكنولوجيا المعلومات، وتفجّر المعرفة على كلّ المستويات، احتلّت اللّغة مركز الصّدارة، وتجاوز تأثيرها مجالات التّربية والثّقافة إلى المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والتّقنيّة، وإذا كانت اللّغة قد ارتبطت بالسّياسة في عصور سلفت عن طريق الخطابة، وأداتها اللّغة، وإجادتها شرط في نجاح الحاكم وشعبيّته، فهي الآن أساس الخطاب الإعلاميّ ومادّته اللّغة، والإعلام يلعب أهمّ دور في الحياة السياسيّة، وطنيّة أو قوميّة أو عالميّة.
وأدى ذلك إلى العناية باللغات القوميّة التي اندثرت، أو كانت في طريقها إلى الاندثار، في عدد من البلاد الأوروبية وغيرها، ونجح بعضها نجاحاً كاملا كما هو الحال في اللغة العبرية في فلسطين المحتلة، واللغة القطلونيّة في شمال شرقي إسبانيا، والجليقية في شمال غربيها، ولغة ويلز في بريطانيا، وأخذت هذه الظاهرة بعداً سياسياً خاصة بشعار أوروبا الموحدة، واختلف حولها المثقفون هناك، رآها بعضهم عقبة كأداء في طريق أوروبا الموحدة، ورآها آخرون مصدر طاقة ثقافية كامنة، يمكن أن تثري الحضارة الأوروبية في مختلف بلدانها.
وتجلى التأثير الاقتصادي واضحاً فيما تتمتع به الولايات المتحدة من ميزات في تنافسها الشديد مع اليابان في سوق البرمجيات، لشيوع اللغة الإنجليزية وبساطتها، وانغلاق اللغة اليابانية وصعوبتها، ومن هنا جاء اهتمام البلدين الشديد بنشر لغتيهما، والإنفاق على تعليمها في البلاد التي لا تتكلمها، فاليابان مثلا تموّل تعليم اللغة اليابانية في الجامعات المصرية وتدعمه، وتمد هذه الكليات بالمعامل اللغوية والكتب والأساتذة.
وتزداد العناية باللغة –أي لغة– أهمية حين ترتبط بتقنية الطباعة والاتصالات والبرمجيات، والدور الخطير الذي تلعبه في تطوير معمارية الحاسب على نحو ثوري حتى أنه ليعد الآن حاسباً لغويّاً، غايته كسر الحواجز التي تعاني منها بعض اللغات، كالصينية واليابانية، أملا في السيطرة على سوق المعلومات العالمي، والذي يعدّ فيه تعامل تقنية المعلومات مع لغات العالم المتعددة عاملا حاسماً في تحقيق السيطرة.
لقد فجرت تقنية المعلومات مشكلات اللغة على نحو لم يحدث من قبل، وتظهر المواجهة الشديدة بينهما الحاجة الماسة إلى التوفيق بين اللغة والحاسب حتى يتهيّأ للأولى أن تفيد من الثاني، ومن الثاني أن يستخدم الأولى في كفاءة ومن غير مشكلات في الاستخدام والتوصيل، ولن يتمّ ذلك في كفاءة إلا بجهد بالغ من الجانبين، علماء اللغة من جانب، وعلماء الحواسيب من الجانب الآخر، ولن يستطيع أيٌّ منهما أن يصل وحده إلى حلّ مشكلات هذه القضية، وهي بالغة التشابك والتعقيد.
لقد وجد علماء اللغة وعلماء الحواسب أنفسهم أمام تحدٍّ حقيقي؛ لأن ما هو متاح الآن لا يكفي لمواجهة مشكلات اللغة – الحاسب ولا بديل عن استخدام مناهج مبتكرة، وشق دروب علمية جديدة، في جوانب لم يتطرق إليها البحث العلمي من قبل، وهو ما تقوم به مراكز علمية جديدة متخصصة في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وألمانيا واليابان ومناطق أخرى من العالم.
وتصنع الأمم الحريصة على السبق والتقدم المستحيل لكي تحقق غاياتها، ولو أحنت رأسها أمام من تراهم خصومها وأعداءها، وتزهو عليهم وتتكبر بتقدمها وعلمها، وأخرى تتراجع أمام ما كانت تراه تهويمات إبداع، تستمع إليه وتدرسه، فقد تخرج من ورائه بجديد نافع.
إسرائيل تدعو أحمد زويل ليحاضرَها عن ثمرة خياله العلميّ، وقد حوّله هذا العالم المصريّ الفذّ إلى واقع علميّ بعد أن نجح في سحق الزّمن إلى وحدة (الفمتو ثانية) واحد على ألف تريليون من الثانية، التي تتعامل معها آلة تصويره الفائقة السّرعة.
ويرى الكونجرس الأمريكيّ أنّ أيّ خيال علميّ الآن يمكن أن يصبح في الغد واقعاً، وهكذا دعا كاتباً متخصّصاً في الخيال العلمي ليحاضره في مستقبل صناعة المعلومات، وهو يضع سياسة جديدة لنظم الاتّصالات في الولايات المتّحدة.
هذه العمليّة الجادّة والمتحرّرة في الوقت نفسه لم تستطع وهي تدرس قضايا اللغة لكي تجعل منها وسيلة ناجحة وميسرة يستخدمها الحاسب الآلي، أن تتخلص من الأسئلة القديمة ذات الطابع الفلسفي، والتي عادت تطرح نفسها من جديد: هل اللغة ظاهرة عشوائية اعتباطية أو وراء ظاهرها نظام متسق تحكمه قواعد ومبادئ؟
هل ندرس سلوكها الظاهر المحسوس أو نحاول استجلاء المعرفة اللاواعية التي تحكم آليات النطق والفهم؟ هل اللغة سلسلة من الرموز الخطيّة أو شبكة من العلاقات المتداخلة، أو أبنية من مستويات متوازية متتالية؟
ما الوحدة اللغويّة التي يرتكز إليها الدرس اللغوي: أهي اللفظ أو الجملة أو السياق؟ وهل المدخل لدراسة بنيتها الداخلية: مباني تراكيبها، وأنماط نظمها أو دلالة معانيها؟ استعاراتها بخاصّة، وما تبطنه كناياتها؟
وهل تدرس اللغة المنطوقة أو آثارها المكتوبة؟ وهل تعني باللغة كما يجب أن تكون أو كما تمارس في واقع الحياة اليومية، أو نجمع بينهما؟
ومن هنا يرى بعض العلماء أن إخضاع اللغات لضوابط العلم وهمٌ خادع؛ لأن الرياضيات والمنطق والإحصاء لا تستطيع أن تحيط بهذا الكمّ الهائل من ظواهر اللغة المعقّدة، ومن الصعب- إن لم يكن مستحيلاً- على هذه الآلة الصماء (الحاسب) أن تحاكي ملكة اللغة في مرونتها، ومترادفاتها، والانفعالات الكامنة وراء تعابيرها.
لكنّ آخرين من العلماء أيضاً يرفضون هذا الرأي تماماً، ويرون أن كلّ ذلك ممكن تحقيقه إذا توافرت لدينا وسائل علمية جديدة ورياضية حديثة، وإحصاء متقدّم، ومنطق يغاير منطق أرسطو، ومعالجة آلية تختلف عن أساليب البرمجة الحالية التقليدية، وهكذا ظهر ما يسمّى علم (اللّسانيات الحاسبة) (computional linguistics) وأدى ذلك إلى ثورة علميّة في معظم فروع علم اللغة، لما يزل صداها قوياً الآن – طبعاً في غير العالم العربيّ – ولفترة قادمة قد تطول.
إنّ دخول دراسة اللغة في مصاف العلوم المضبوطة فيما يرى عدد من العلماء شرطٌ جوهريّ لكي تتبعها علوم الاجتماع والأدب والنقد، وعلم (استرجاع المعلومات) وهو ما يزال قيد البرمجيات الهندسيّة العمليّة.
لقد أصبح التعامل مع اللغة الآن آليّاً بواسطة الحاسب، وهو محور تقنية المعلومات، وأصبح التواصل عن بعدٍ عبر الوسيط الالكتروني أوسع نطاقاً، وأكثر تنوّعاً، مما قلب مفهوم التواصل اللغويّ التقليدي الذي اعتمدنا عليه قروناً رأساً على عقب فيما يتصل بالعلاقة بين المرسل والمتلقي، أو تنوع أشكال التواصل واتساع نطاقه، ومع ذلك يرى المختصون أن التواصل الحاليّ عبر الشبكة العنكبوتيّة ويرتكز الآن على الكتابة هو مرحلة بدائيّة تمهّد لتواصل أوسع نطاقاً، وسوف تنتهي بنا إلى تواصل أوسع دائرة يمتزج فيه المكتوب بالمسموع، إضافة إلى المرئي من الصور الثابتة والمتحركة.إنها ثورة في أسلوب التواصل ذات نتائج خطيرة، بعيدة المدى فوق ما نتصوّر.
اللّغة العربيّة، والتّطورات التّقنيّة المعاصرة:
قبل أن نعرض لموقف أهل اللّغة العربيّة من التّطورات الخطيرة التي تجري حولنا ونتحدّث عن السّلبيّات الهائلة التي تحول بيننا وبين مكاننا الذي نستحقّه بين الدّول الكبرى المتنافسة من الضروري أن نذكر بميزاتها التي يجهلها الكثيرون من أبنائها الأجيال الشابة بخاصة، واليساريون المراهقون، والمولعون بالغرب حضارة وثقافة على نحوٍ أخص حتى نأتي على الصعاب الكبرى التي تقف في طريقنا، وتحول دون الوصول إلى غايتنا هذه، وهو طريق لا مفر لنا من اجتيازه إذا أردنا الحياة فلا نهضة بدون الوصول إلى هذه الغاية العظمى.
العربية أعرق اللغات السامية، وأغناها أصواتاً وصرفاً، وأثراها معجماً، وهي تتسم بالتوسط اللغوي، ويتجلى ذلك في معظم خصائصها اللغوية مما يجعلها وسطاً بين أطراف كثيرة من المحاور التي تحدد مجالات التنوع اللغوي، فهي تؤثر الشائع وتكرر الشاذ، وتجمع بين كثير من الخصائص اللغوية المشتركة مع لغات أخرى. فإذا اتخذنا من الإعراب مثلاً وجدناها تتخذ موضعاً وسطاً، فهي لا تخلو منه تماماً كما هو الحال في اللغة الإنجليزية، ولا يكثر فيها نسبياً كما هو الحال في اللغة الروسيّة (حالات الإعراب في العربية ثلاث، وفي الروسية ست).
وتضمّ اللغة العربية في صيغ الأفعال المزيدة خمس عشرة صيغة،فتجئ وسطاً بين اللّغات ذات صيغ الأفعال المحددة كاللغة الإنجليزية، والأخرى ذات المزيد منها كالإسبانيّة حيث يتجاوز عدد صيغ أفعالها ثلاثين صيغة.
وتتسم اللغات السامية عامة بخاصية الاشتقاق الصرفيّ المبني على أنماط الصيغ، والعربية في هذا نسيج وحدها لا تباريها في ذلك لغة سامية أخرى أو غير سامية، وتتميز في ذلك بالاطراد الصرفي شبه المنتظم كظاهرة صيغ الجمع مثلاً، ويزيد النّظام الصّرفيّ العربيّ في اطّراده من قابليّته للمعالجة الآليّة، وميكنة المعجم العربيّ، وتطوير نظم آليّة للإعراب الآليّ، والتّشكيل التّلقائيّ، فنظام الصّرف في اللّغة العربيّة يتمتّع بثراء اشتقاقيّ لا تدانيه لغة أخرى في العالم، ذلك وغيره كثير يجعلنا نعتزّ بلغتنا العربية، ونزهو بها، ولسنا وحدنا في هذا الاتجاه، فقد سبقنا الإغريق قديما في هذا، وكانوا يرون أنّ لغات غيرهم بالنسبة للإغريقية نباح كلابٍ، أو نقيق ضفادع، ويقدّس اليهود لغتهم العبرية فيحرمون الكذب بها، ويستحلونه بغيرها، وفي العصر الحديث لا يصدق الفرنسيون أن هناك في العالم من لا يعرف لغتهم، وإن كان فلا بدّ أن يكون جاهلاً متخلفاً لا يستحق الاحترام. وحين تولى الجنرال فرانكو حُكمَ إسبانيا عام 1939م، ولحظ أنّ مواطنيه يحسّون بمركب نقص تجاه تقدم أوروبا وتخلفهم، جعل وسائل العلاج إشاعة الاعتزاز، والزّهو بينهم بلغتهم القوميّة، وأنهم ليسوا في حاجة لمعرفة أية لغة أجنبية غيرها، وقصر التعليم على اللغة الإسبانية وحدها.
اللغة والحاسب:
عندما ظهر الحاسب آلة في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين تحدث العلماء عن استخدامه المحتمل في مجالات التحليل اللغويّ والتّرجمة الآليّة، وقد باءت المحاولات الأولى بالفشل الذريع، وبدا أن ذلك مستحيل، ما لم تخضع اللغات قبل ذلك للتجريد الرياضي، والتنظير الدقيق، وهما الوسيلتان لدخول اللغة عالم المعالجة الآلية بواسطة الحاسب. وهكذا وضع (برتراند راسل) الأسس الرياضية لنظرية صوريّة للغات الرمزية، ثم جاء (نعوم تشومسكي) في نهاية الخمسينيات من القرن نفسه فوضع النموذج الرياضي للغات الإنسانيّة حين أدخل مصطلح النحو التوليديّ في علم اللّغة، وتطور على يده ورفاقه ليصبح نظرية ذات تأثير عظيم لا في علم اللغة فحسب، وإنما في الفلسفة وعلم النفس والفروع العلمية الأخرى المعنيّة باللغة.
كان تشومسكي يرى أنّ الملكة اللغوية فطريّة في الإنسان، ومظهر خاصّ بالجنس البشري تميزه عن الآلية وعن غيره من سائر الحيوان، وأن الإبداع اللغوي خاصية مميزة للبشر لكنّه إبداع يحكمه قانونٌ، وهو ما يبحثه النحو التوليدي.
تقوم النظرية التوليدية على دعائم أهمها:
أن الغاية من الدرس اللغوي ليست تحليل عينات الأمثلة، أو توصيف حالات الاطراد والشذوذ، أو وضع قائمة بمعايير الحكم على صحة الجمل، بل بوضع نحو توليدي رياضي للغة، يمكنه توليد جميع الجمل المسموح بها من قبل هذه اللغة بمجموعة من القواعد الرياضيّة.
وبينما شغل اللسانيون أنفسهم في الماضي بالبحث عن التباين اللغوي ركّز تشومسكي في أبحاثه على العموم اللغوي، وعلى القاسم المشترك بين اللغات للوصول إلى نحوٍ عام يفسر ظواهر التشابه والتباين بينهما، وبقدر ما حظيت نظريات تشومسكي من تأييد وترحيب على امتداد القرن العشرين واجهت في الوقت نفسه نقدا شديداً من فلاسفة اللغة وعلماء النفس إذ رموها بعدم الواقعيّة؛ لأنها أهملت وظيفة اللغة الاتصالية، وأبعادها الاجتماعية، وركزت على اللغة في صورتها المفترضة لا على تلك التي تمارس في الحياة العملية، ورأى علماء الحواسب أنها تسرف في تجريداتها وعمومياتها على نحو يجعل من الصعب استخدامها عمليّاً أساساً لتطوير نظم واقعية لمعالجة اللغة آلياً.
لقد خضعت اللغة للصياغة الإحصائية والرياضية، وجزئيّاً للتحليل المنطقي، وأصبح الطريق ممهداً لتدخل مرحلة المعالجة الآلية لتأكيد وصولها إلى مرحلة النضج العلمي.
العلاقة بين الحاسب واللغة بعامّة:
منذ ظهرت الحواسب في أواخر الأربعينيات توثقت صلتها باللغة وتأصلت في كلا الاتجاهين؛ لأن اللغة تجسّد –ببساطة– ما هو جوهري في الإنسان، وهو نشاطه الذهني بكلّ تجلياته. وفي الوقت نفسه اتجه الحاسب نحو محاكاة وظائف الإنسان وقدراته الذهنية، لقد صحبت ثورة التنظير اللغويّ تقنية في الحواسب لا تقل ثورية في تطبيق أساليب الذكاء الاصطناعيّ، وعلوم المعرفة وتقنيات الأعصاب على معالجة اللّغات الإنسانيّة بواسطة الحاسب بهدف إكساب هذه الآلة المهارات اللّغويّة من اشتقاق وتصريف وإعراب، واختصار وفهرسة، وتدرج هذا الالتقاء حتى بلغ درجة عالية من التّفاعل العلميّ والتقني على نحوٍ غير مسبوق حتى أنه أمل في أن يقوم الحاسب بكتابة نصّ أدبي يوماً ما.
مع التقدّم الواضح في علوم اللغة، والتقدم المذهل في مجال الحواسب بعامة وفيما يتصل باللغات خاصة تطلب تفجر المعرفة واتساعها استخدام وسائل آلية ذات كفاءة عالية لتنظيم هذا الفيض المتدفق من المعلومات وتنظيمها وتخزينها واسترجاعها وتوظيفها وزيادة كفاءتها.
إن تطور الحواسب لم يعد يقف عند حدّ، وبحسب المرء أن يتابع أبسطها (الهاتف المحمول مثلاً) فسيجدها تتقدم تقنية واستخداماً وحجماً وتكلفة وتخصصاً من شهر لآخر، فأصبح منها ما هو خاص بتشخيص الأمراض، وتقديم الاستشارات القانونية والفنية وكلها تتطلب القدرة على الحوار مع المستخدم (بكسر الدال) البشري بلغة سهلة تقترب من لغته الطبيعيّة، ولا يزال التقدم متواصلاً ويصعب تخيل إلى أين سوف ينتهي بنا!
وماذا عن اللغة العربية؟
بدءاً علينا أن نعترف أن تقنيات الحاسب الآلي اللغوية قامت لتلبي أصلاً المطالب الخاصة باللغة الإنجليزية من أجل الولايات المتحدة لا من أجل عيون بريطانيا، فمعظم لغات البرمجة مصمّمة بالإنجليزية، والشفرات المستخدمة لتبادل المعلومات صممت أصلاً للتعامل مع الأبجدية الإنجليزية، وهي محدودة في حروفها وفي أشكال هذه الحروف، وبهذه اللغة نفسها تم تخزين المعلومات واسترجاعها، والقسم الأكبر من مكتبة البرامج الجاهزة باللغة الإنجليزية، ومثلها معظم المصادر والمراجع والدوريات والبحوث على حين أنّ 90% من سكّان العالم الإنجليزية ليست لغتهم القوميّة. ولم يحدث ما يزحزح الإنجليزية من مكانتها هذه إلا عندما ظهرت اليابان قوى عالميّة، ولها لغتها الخاصّة وهي تعتزّ بها، وتحاول كسر سيطرة الإنجليزية على تكنولوجيا المعلومات بعامّة، والشبكة العنكبوتية بخاصّة، وفي سبيل ذلك تتزعّم الدول غير الناطقة باللغة الإنجليزية لتكوين حلفٍ قويّ يدافع عن مصير اللغات القوميّة في مواجهة الخصم اللغوي الأمريكيّ، وتعدّ التعامل تكنولوجياً مع لغات العالم المتعددة عاملا مهمّاً في كسر هذه السيطرة، ولكن علينا أيضاً أن نعترفَ بأن لغتنا القومية لا تحظى بالاهتمام الجديرة به، وأنها في ظل العولمة، وثورة المعلومات تتعرض لحركة تهميش نشطة بفعل الضغوط الهائلة الناجمة عن طغيان اللّغات الأجنبية وعلى رأسها الإنجليزيّة، وتشاركها في هذا لغات أخرى، وكلها تشنّ حرباً ضارية ضدّ العروبة والإسلام لشدّة الارتباط بينهما.
كما أنّ تعليمنا في كل مستوياته لا يعكس مدى أهمية اللغة العربية، لا في مناهجه ولا في سلوك أساتذته، ولا في أداء تلاميذه، وخلال عصر مبارك المخلوع فرضت قوى أجنبية- يعرفها كل الذين يعملون في وزارة التربية- رأيها لغايات في نفسها، حتى أنهم وضعوا على رأس اللجنة المكلفة بتطوير مناهج اللغة العربية مدرسة (هوايات وأشغال) توجهها لحساب الذين أتوا بها، وكانت صاحبة كلمة نافذة فوق الجميع، والنتيجة الحتمية أن التلاميذ لم يعودوا يقبلون على اللغة العربية حبّاً فيها، وإنما رغبة في اجتياز الامتحان آخر العام فحسب.
وتمادينا في التراجع والتبعية حتى بلغ الأمر أن جامعاتنا وهي القمة والأمل أنشأت في كليات الحقوق والتجارة والإعلام وغيرها أقساما كاملة تدرس فيها كل المواد، بإحدى اللغتين المذكورتين: الإنجليزية أو الفرنسية، مقابل نفقات عالية لا يستطيعها إلا أبناء الأغنياء، وأصبح لدينا تعليمان جامعيان: واحد للفقراء وآخر للأغنياء.
والتردي لا نهاية له، والسقوط ألوان، فلم نقنع بما حدث في جامعاتنا بل تركنا وجدان جانب كبير من شبابنا تحت سيطرة جامعات أجنبية كاملة متعددة تصوغه كيف تشاء: أمريكية وكندية وفرنسية وإنجليزية وألمانية، وكلها مستقلة لا تعرف الدولة ما الذي تدرسه لطلابها بلغاتها القومية، وهي تقدّم دراسات إنسانية فحسب: اقتصاد، وإعلام، وفلسفة، وسياسة، وما يتصل بهذا، ولكنها لا تدرس علوماً بحتة من طبّ وهندسة وصيدلة، والسبب واضح لأنها في المجالات الأولى تكوّن الطالب إنسانياً، وتصوغه كيف تشاء، ويجئ ولاؤه للمبادئ التي تعلمها، أمّا العلوم البحتة فمحايدة، وهي في نهاية المطاف تقدم للوطن إضافات جديدة نحن في أشدّ الحاجة إليها.
نحن نشكو من أزمة لغوية حادّة على جميع الأصعدة تنظيراً وتعليماً نحواً ومعجماً، إبداعاً ونقداً، ونعاني حالة مزمنة تتمثل في غياب إرادة الاهتمام باللغة، وعجز الحكومة عن حمايتها وتنفيذ ما صدر من تشريعات خاصّة باستخدام اللغات الأجنبية في لافتات المحلات العامة، والإعلانات ومخاطبات المصارف، ويتجلّى عدم الجديّة واضحاً حين تقارن بين توصيات مجامع اللغات العربية في دوراتها المتعددة بالقاهرة ما يتخذ منها نظريا وما يطبّق واقعاً فسوف تجد: لا شيء مما قيل أخذ طريقه إلى التنفيذ.ثم جاءت تكنولوجيا المعلومات لتضيف إلى هذه الأزمة بعداً فنياً متعلقاً بمعالجة اللغة العربية آليّاً بواسطة الحاسب.
نتيجة أزمتنا اللغوية وقلة المعرفة بالتطورات الحديثة في مجالات اللغة في العالم المتقدم فيما يتصل بالرياضيات الحديثة والمنطق الحديث والحواسب اللغوية وجدنا أنفسنا ونحن نواجه هذه الآلية الجديدة البالغة الدقة والتعقيد والنفع ومع عجز العقل العربي عن الابتكار والاختراع أننا – حين نواجه أنفسنا بصراحة وبدون لفّ أو دوران نقف على حافّة المعرفة بهذه التقنية دون أن نغوص إلى أعماق أبعادها، ورغم كل الجهود التي بذلت ولا تقوم على أسس علمية جادة فإن ما توصلنا إليه حتى الآن لتعريب الحاسب الآلي لا يخرج في مجمله عن طباعة النصوص بالعربية، وإظهارها على الشاشة.
إنّ استيعاب العربية في نطاق تقنيات صمّمت أصلاً لتخدم اللغة الإنجليزية عملية خاطئة من أساسها؛ لأن العربية وهي أعقد اللغات السّامية، والإنجليزية وهي أبسط اللغات (الهندوأوروبية) طرفاً نقيض في معالجة اللغة آلياً، ومع ذلك تمّ هذا العمل لدوافع اقتصاديّة، وكان وراءه لهفة موردي المعدات والبرمجيات على الربح، وفي سبيل ذلك خضعت العربية للطرق التعسفية حتى تستجيب للقيود التي فرضها النموذج الإنجليزي إما بالتحايل حول هذه القيود على حساب المستخدم، أو التّرخص في بعض خصائص اللّغة العربيّة، كتقليل أعداد أشكال الحروف، إغفال الشّكل في الكتابة العربيّة، وتجّنب قواعد الإعلال والإبدال، وجوانب أخرى متعدّدة.
إنّنا الآن على الرّغم من كل النوايا الطيبة، وكثرة المؤتمرات والندوات واللجان والتوصيات لا تزال جهودنا قاصرة عن الإفادة من منجزات التقدم العلمي في مجال الحاسبات، ولا يزال البعض من علمائنا المهندسين كسلانا يفكر في تطويع اللغة العربية لتستجيب لمتطلبات الآلة التي صنعت في الولايات المتحدة لخدمة اللغة الإنجليزية حتى لو أساء ذلك إلى قواعد العربية، قواعد وبناء بدل أن يفكر في ابتداع آلة تستجيب لمطالب لغتنا متجاهلاً ما صنعته اليابان وكوريا والصّين، وحتى إسرائيل. ولا يزال مختصون من علماء اللغة العربية وعلماء الهندسة في جملتهم بمعزل عن تطورات الحاسب الآلي والشبكة العنكبوتية وهي تتطور على نحوٍ فائق السرعة، وتنجز كل يوم جديداً حتى يمكن القول: إن ثمة قطيعة بين معظم علماء العرب وعلم الحاسبات، ويكفي أن أشير أن مجمع اللغة العربية الموقّر في القاهرة لا يضمّ بين أعضائه متخصصاً واحداً في هذا العلم على المستوى اللغوي أو التقني، وليس بين لجانه المتخصصة لجنة واحدة تختصّ بهذا الأمر، بداهة لا أعني تعريب المصطلحات الخاصة به؛ فالمجمع يقوم في هذا بجهد مشكور، ولكنّي أعني دراسة كيفية الإفادة منه، وقد فشلت جهود الطيبين على امتداد سنوات مضت في سدّ هذا النقص.
إن مهمّة المثقف الوطني الحق المؤمن بوطنه ورسالته بالغة الصعوبة في هذه الأيام؛ لأن عليه أن يتصدى للسلبية واللامبالاة وأن يواجه تشتت الرأي، وفقدان الثقة، وأن يتصدى لأزمة اللغة العربية تنظيراً وتعليماً واستخداماً، وأن يتبنّى في قوّة سياسيّة لغويّة قوميّة تنهض بالعربيّة وتعيدها إلى سابق أمجادها، وتلحقها بتطورات العصر، فاللّغة الوطنيّة المحترمة في بلدها وبين قومها المتقدّمة والمتطورة في المدخل الطبيعيّ، والطّريق الأقصر إلى نهضة ثقافية شاملة، وهي الوسيلة إلى الإفادة العالية من تكنولوجيا المعلومات، وثقافة العصر، وأن يدرك ما تعنيه هذه بالنسبة له ولعصره، وأن يتقن استخدامها وإلا بقي في نهاية الصفّ متخلفاً يعاني فراغاً ثقافياً لا حدّ له.
لقد أنهت ثورة 25 يناير دور مثقف السّلطة (وهم يمثلون الأغلبية) البارع في تشويه الواقع، وتلميع الحاكم، ووأد الأصيل، والبديع والمخالف المتمرس في مقايضة نتاج الأقلام، وزرع الأوهام باحتلال المناصب، الآكل على كل الموائد، الراقص على كل الأنغام، محتكر المنابر، المستأثر بسلطة المعرفة، ومنافس الحكام في تكوين الثروات وبناء العمارات، وهم الآن معروفون بتاريخهم الملوث، وجرائمهم الفاضحة وإن كانوا لا يخجلون كما فعلوا، ولديهم من البجاحة مما يجعلهم يواصلون اللعبة نفسها، فهم لا يزالون يكتبون في الصحف، ويطلّون علينا من قنوات التليفزيون ذاتها كأنهم لم يرتكبوا من قبل أيّ جرم!
العربيّة الآن في حاجة إلى علماء جدد لعصر جديد، ومطلوب من جامعاتنا ومراكز البحوث عندنا ألا تتجاهل ثورة علوم اللّسانيات التي تحرّك العالم، وتتقدّم في سرعة، والعالم يلهث وراءها منذ منتصف القرن الماضي.
وأتجه بفكري إلى جامعة القاهرة متطلعاً إلى كليتين عريقتين لهما تاريخ مجيد: دار العلوم والهندسة في عمل مشترك يخطط أوّلا لهذا الأمر: الحاسب واللغة العربية على أن تدعم الدولة والجامعة هذا الأمر مادياً ومعنوياً، توفر لهما البعثات اللازمة، والاتصال الشخصي بالمراكز المتقدمة، وترعى من يضطلعون بهذا الأمر، ومثل هذا العمل أليقُ بدار العلوم، وهي به أجدر من قيام بعض مدرسي اللّغة فيها بنشاط يتّصل بإعداد طلابهم للأعمال الصحفيّة التي لا تتصل باللّغة، وفي مواجهة مبنى دار العلوم مبنى آخر اسمُه كليّة الإعلام هذه وظيفته!
أتمنّى وفي هذه المرحلة من العمر لا أملك لقومي ووطني ومعهدي غير التمني !
(الهلال، مايو، 2012م)