كتب: ماجده فهمى
الدكتور الطاهر مكى أستاذ الأدب بكلية دار العلوم جامعة القاهرة عاشق الأدب الأندلسى, باع طويل فى النقد الأدبى وباحث له 12 كتابا مترجما عن الفرنسية والأإسبانية, نال وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى عام 1991, وله العديد من الأبحاث العلمية المنشورة بالمجلات المتخصصة مصر وخارجها فى مجال الدراسات الأدبية. مر بالعديد من التجارب وله آراؤه فى تحولات المثقفين وقضايا الوطن..
قلت أن النقاد لعبوا دورا كبيرا فى تمييع الحياة الأدبية فماذا كنت تقصد؟
أقصد أن الحياة الأدبية كانت تحكمها مجموعة من الشلل فى العهد السابق كما جعل من وسائل الثقافة صديقة لرشوة المثقفين الكبار لكى يحولوا الثقافة من وسيلة تنبيه وإيقاظ الروح إلى تسلية, والتسلية سم الثقافة وكان الإنسان إما أن يمدح من يريدون أو يصمت, ولم تكن المجلات والصحف مفتوحة لكل كاتب جيد أو ناقد محترم, وإنما كانت مفتوحة وتدفع بسخاء لمن يكتب كلاما لا معنى له إطلاقا, ولذلك على امتداد ثلاثين عاما لا تجدين بين هؤلاء النقاد الكبار والكتاب العظام من كتب حرفا واحدا ينتقد فيه قوانين الطوارئ حتى آخر لحظة.. كان مجلس الشعب وكانت الصحف والمجلات والإعلام صامتة عن هذه السُبة, رغم أن الحكومة كانت تقول كل مرة إنها تمدها مؤقتا, ولكن هذا التوقيت المؤقت استمر عشر سنوات فى المرة الأخيرة.
وبعض هؤلاء كانوا يحرمون العاملين معهم فى الصحف من الرواتب المناسبة والمكافآت, فى الوقت الذى يقدمون فيه الهدايا بالملايين لأصحاب النفوذ, وكما تعلمين فإن هؤلاء ردوا تحت ضغط الرأى العام هدايا الأهرام والأخبار والجمهورية أخيرا, لكن أيضا هناك الذين قبضوا الآلاف لكى يصمتوا من غير هؤلاء السياسيين والكبار لم يسألهم أحد, بعضهم جاء حافيا من قريته وهو يمتلك الآن العقارات والملايين ولا أحد يسأله من أين لك هذا. والغريب أنهم لا يزالون يرفعون أصواتهم بالمعارضة ويرفعون راية الشرف والوطنية ويقفون منا موقف المعلم, وأنا أتمنى أن تقوم الحكومة الآن بكشف الرواتب والمكافآت التى كات يتقاضاها هؤلاء الناس, وما زال بعضهم يتلقاها, بعضهم الآن يشغل أكثر من وظيفة بحجة أنهم مستشارون ويتلقون عن هذه وحدها مكافآت قدرها خمسة وعشرون ألف جنيه فى الشهر, فالحكومة مطالبة بأن توضح للرأى العام هذه الأشياء, والنتيجة الحتمية لكلك هؤلاء أن العدد القليل من النقاد الشرفاء ترك الساحة وابتعد وخلا الجو لهؤلاء, وأدى ذلك بداهة إلى تدهور الثقافة وتراجع الإبداع, رغم الدعاوى العريضة لأننا فى مقدمة الدول العربية فى مجال الشعر والقصة والرواية والتأليف, وليس ذلك صحيحا على الإطلاق.
لماذا نجح الأقدمون فى صناعة مجالات ثقافية ناجحة ولم ينجح اللاحقون رغم أن إمكانياتهم أفضل؟
أولا: يجب أن نبحث ماذا كان يقرأ الشعب المصرى فى الثلاثينات والأربعينيات والخمسينيات, ما الذى كان يقرأه التلاميذ فى المدارس, وماذا يقرأون الآن, ماذا كانوا يحفظون من شعر وماذا يحفظون الآن, كانت وزارة المعارف تصرف لتلاميذ المدارس الابتدائية مجموعة من قصائد شوقى أمير الشعراء مكتوبا عليها (الشوقيات للمدارس الثانوية), أما الآن فنجد إنسانا يتشدق بأنه شاعر ولا يحفظ بيتا من الشعر لشاعر كبير, ولا يستطيع أن يقرأ قصيدة قراءة صحيحة, ربما سمع بشوقى أو بحافظ إبراهيم ولكن لا يعرف أن هناك شعراء آخرين عظاما كالبارودى وعلى الجارم, ومحمد عبدالمطلب وآخرين كثيرين, كانوا ملأون ساحة الشعر قبل قيام ثورة 23 يوليو.
ولذلك نفتقد الآن شاعرا واحدا سجل لنا ثورة 25 يناير أوما تلاها من أحداث أو يقول لنا ما قاله شوقى عن الخلافات السياسية:
إلاما الخلف بينكم إلاما.. علاما الضجة الكبرى علاما
وفيما يكيد بعضكم لبعض وتبدون العداوة والخصاما.
ويغنيها عبدالوهاب.
ويضيف الطاهر مكى أن هناك قلة قليلة تؤدى دورها والحق يقال إن فاروق جويدة حاول أن يكون مخلصا وصادقا فى إبداعه, وهو يصور الأزمات السياسية التى مررنا بها دون أن ينافق أو يكذب على مواطنيه أو يكذب على نفسه.
هل أنت مع الرأى القائل إن الناقد متطفل على الأديب ؟
ليس صحيحا وإنما الصحيح أن الأديب العظيم يخلق ناقدا عظيما وأن الأدب المهلهل المتخلف يوجد نقدا مهلهلا متخلفا.
ماذا تبقى من طه حسين, العقاد, توفيق الحكيم, يوسف السباعى, إحسان عبدالقدوس, يوسف إدريس؟
هم ليسوا سواء.. بعضهم لأسباب سياسية نال من الشهرة أكثر مما يستحق فلن يبقى له من الذكر مع الزمن إلا القليل وسوف ينسى مثل يوسف السباعى, بعضهم أيضا لم يكن يعنى بلغة ما يكتب مثل يوسف إداريس والذى يبقى الأدب خالدا هو اللغة العظيمة ولذلك لن يبقى من روايات وقصص يوسف إدريس شىء كثير, أما المسرح فهو بطبيعته آنى لأنه يقدم مشاكل الأمة الاجتماعية الحاضرة وهى تتغير ليست هناك مشكلة تدوم أكثر من نصف قرن من الزمان, ولذلك ما كان عظيما فى مسرح العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات لا يذكره أحد اليوم, فقد حلت مكانه المسلسلات, إحسان عبدالقدوس سوف يبقى أدبه طويلا, طه حسين مشكلة, أولا بعض القضايا الأدبية التى عرض لها تجاوزها الزمن, ولم تعد تقرأ ولا تعنى أحدا ولولا أن بعض كتبه تقررها خطأ وزارة التربية والتعليم على المدارس ولولا أن هناك بعض المنتفعين بالحديث عنهه من حين إلى آخر لنسيه الناس, من من المصريين الآن يقرأ أو يعرف أن لطه حسين كتبا تحمل اسم " صوت باريس", "لحظات" , "قادة الفكر اليونانى", "صوت أبى العلاء", و"الفتنة الكبرى", " على هامش السيرة", كل هذا كلام انتهى أمره, يبقى العقاد الذى كان أذكى هؤلاء جميعا لأنه تناول قضايا فكرية قومية لا تتغير بتغير الأحوال, رغم أنه يجد إهمالا مقصودا من وزارة الثقافة, ربما لأنه منحاز إلى الفكر الإسلامى المستنير, فلا نشر له أى كتاب مرة أخرى فى الوقت الذى تملأ الأرصفة بكتب غثة لا يقرأها أحد.
زواج المثقف بالسلطة.. كيف ترى هذا الامر؟
المثقف الحقيقى يتخذ من السلطة موقفا معارضا لا لذات المعارضة, وإنما لأن المثقف الحقيقى يفكر دائما فى الأفضل والأحسن ويطمح فيما هو أجمل من الواقع بكثير والسلطة دائما ملتصقة بالواقع, فلا يكون بينهما وئام أبدا, لا عندنا ولا عند غيرنا, أما المثقف المتفهم مع السلطة والذى يسير وراءها ويبرر أعمالها, ويقول ليس فى الإمكان أبدع مما كان, فهو ليس مثقفا وإنما هو " تاجر كلام" بصناعته الدجل والكذب والنفاق.
ألا تعتبر قصيدة النثر تطورا طبيعيا للشعر الحر الذى كان تطورا للشعر العمودى؟
القواعد ليس فيها تطور فالشعر العمودى له موسيقى وله قواعد استقرت على امتداد ألف ونصف الألف من الأعوام . والتطوير والتجديد يكون فى نطاق هذه القواعد, وفى كل أنواع الفنون فالذين يصنعون التطور هم العباقرة وليسوا الناس العاديين, والعباقرة يأتون على قلة, وألف باء التجديد أن تحسن القديم وتبلغ فيه القمة , لكن الذى حدث أن أدعياء التجديد لا يملك الواحد منهم القدرة على أن يقرأ بيتا منالشعر القديم قراءة صحيحة, فضلا عن أن يبدع بيت شعرا من الأصل , فكيف يجدد ثم هناك خلط فى الأوراق, نحن لسنا ضد التجديد دائما وإنما ضد ميوعة المصطلحات, فإذا أحدثنا شيئا جديدا, علينا أن نوجد له اسما يميزه, وكذلك صنع علماؤنا فى الماضى, عندما ضاق الأندلسيون بالشعر القديم, ووجدوا أنه لا يلبى حاجات الموسيقى عندهم, ابتدعوا ما نسميه مؤقتا شعرا جديدا متعدد القوافى, وإن جاء فى العروض العربى, أسموه "موشحات", وعندنا عجزت الموشحات عن أن تصل إلى المستمع العادى الذى لا يستوعب اللغة الفصحى . كتبوها باللغة العامية وسموها "الأزجال", فنحن لدينا شعر وموشحات وزجل وكل نوع من هذه الأنواع له قواعده ومتطلباته ومجاله , أما أن نسمى الزجل شعرا أو نسمى الموشحة شعرا, فهذا "خلط" كما لو أطلقنا على الطائرة اسم السيارة الهوائية, أو اسمينا السيارة الطائرة الأرضية, هذه هى المشكلة لكن كل إنسان حر فى أن يعبر بالطريقة التى يستطيعها وهو متمكن منها, و على النقاد الذين يؤمنون بهذا أن يحددوا لهذا المولود الجديد اسما, وأن يضعوا له قواعد نحتكم إليها, عند تقييمهم, ونلاحظ أن الشعر الحر ولد واحتضر, وهو يموت الآن دون أن يضع له أحد قواعد نحتكم إليها فى تقييم أدعيائه ولا كتابا واحدا, أما قصيدة النثر فهى فزورة لأن لفظ قصيدة ضد لفظ نثر, ولا نستطيع أن نقول عن شىء إنه أبيض أسود, أو حلو مر, إلا على طريق المجاز, والمجاز لا يصلح للتسمية إلا من قبيل السخرية, فهذا كله كلام إلى زوال, ويضيف د. الطاهر مكى: ليتقدم شاعر عملاق عظيم يقدم النموذج والمثل و"يفرجنى" على أنغامه وأشعاره على الساحة, على نحو ما فعل البارودى قبل قرن ونصف القرن من الزمان, أو فعل أمير الشعراء شوقى بعده وبقية الشعراء العظام, أما التمسك بالخرافات والادعاءات لن يعيد مصر إلى مكانتها السابقة.
ماذا تقصد بعصر الإمعات؟
عصر الإمعات هو العصر الذى يقابل عصر العمالقة , فنعنى بالإمعات, الأقزام الذين لا دور لهم ولامكانة وإنما يفتعلون أشياء وقضايا يشغلون بها الناس . لكن لحسن الحظ لم يعد أحد يهتم بهم.
من هو الروائى الذى يعبر عن الواقع الآن؟
سوف نحتاج إلى بعض الوقت ليتمثل الروائيون الكبار ما يجرى حولنا لأننا الآن فى مرحلة ما عادت حاسمة , نحن فى منتصف الطريق ولذلك أنا حاولت جاهدا أن أبحث عن قصيدة جيدة تعبر عن الواقع الآن فلم أجد, لكننا ننتظر إذا تحسنت الأمور وعدنا إلى الجدية , فقد يولد الأديب الذى يتمثل ما كان قبل الثورة. ويعيش ما يحدث الآن وما سوف تبدعه الثورة فيما بعد ويكتب لنا كلاما خالدا.
من هو الشاعر الذى تراه معبرا عن الشعر العربى اليوم؟
الآن لا أعرف شاعرا , ولكنى معجب بما ينشره الأستاذ فاروق جويدة فى "الأهرام" سواء كان وليد اللحظة أو من مختاراته السابقة, أراه شاعرا يعبر عن هذه الفترة.
قيل كثيرا بعد الثورة إن شعراء وروائيون مهدوا للثورة بكتاباتهم .. فهل هذا صحيح؟
لا .. ولكن الذى مهد للثورة هو " النت" الشبكة العنكبوتية أما الروائيون والمثقفون والشعراء طوال عصر مبارك فكانوا حملة قماقم للسلطان, ويستحقون المحاكمة, لأن جميعهم ارتشوا وزوروا, وكذبوا ونافقوا, ومدحوا مبارك فى قصائدهم.. قلة منهم صمتت لكنها لم تعارض طوال عصر مبارك.
كان عندنا فؤاد حداد وبيرم التونسى وصلاح جاهين, والدكتور سعيد عبده الذى كان طبيبا وزجالا عظيما, فماذا لدينا الآن بعد هؤلاء؟
لا أحد فى الساحة الآن يرتقى إلى مستوى هؤلاء فى فنه.
دكتوراه من إسبانيا وسبع سنوات إقامة متصلة.. هل رأيت أن أسبانيا استطاعت محو كل أثر لحضارة الأندلس؟
إسبانيا فى تأثرها بالأندلس ليست بمستوى واحد, فقد أقام المسلمون فى الجنوب قرونا أطول من الشمال, فتركوا آثارا معنوية لا تزال باقية فى أخلاق الناس وعاداتهم وكلامهم, لكن الآثار المادية لم يبق منها إلا القليل, جامع قرطبة ومنارة جامع أشبيلية . ثم قصور الحمراء فى غرناطة.
كيف ترى المشهد الثقافى فى مصر بعد عامين من الثورة؟
المشهد الثقافى عندنا الآن ملىء بالادعاءات, لأن الثقافة ثمرة عمل, والأعمال التى تنبض بالثقافة ليست متوافرة, التعليم متخلف, الحركة النقدية منعدمة العملة الرديئة طردت من السوق العملة الجيدة, فلا يوجد إلا أدعياء لا يملكون الموهبة ولا القدرة على الإبداع , فلابد أن نعترف أن وسائل الإعلام ووزارة الثقافة تلعب دورا كبيرا فى تدمير قوة مصر الناعمة, لا أعرف بلدا فى العالم يشجع على الأدب الأدبى إلا فى مصر, نحن فى مصر نعطى جوائز لأدب اللغة العامية, ومهما يقال عن أدبها فهو أدنى من الأدب الفصيح, لا يصح أن نشجع عليه بأى حال من الأحوال, أما أجهزة الإعلام (الإذاعة والتليفزيون) فقد بدأت تستخدم فى التعريف ببرامجها إما كلمات عامية أو أجنبية, أتمنى التقليل من هذه المهزلة, أما الإعلانات فى الشوارع, وأسماء الأمكنة فيخيل لمن يتابعها أن القاهرة ليست بلدا عربيا فضلا عن أنها أم العالم العربى.
هل انعكست آثار الثورة بعد على المشهد الآن؟
الذين صنعوا الثورة ضاعوا فى الزحام والذين يسيطرون على أمكنتها الآن هم فلول النظام السابق والمأجورون , ومن يقفزون ليفسدوا ويدمروا كل شىء جميل فى هذا البلد , أما الثوار الحقيقيون, فلم يعد لهم حول ولا طول.
ماذا تقول لمصر؟
تمنياتى أن من يحبون هذا البلد ويخلصون له يطالبون بإخلاء الشوارع فورا من البطلجية واللصوص ويستنكرون كل أعمالهم, ويقفون إلى جانب الدولة للنهوض بهذه الأمة ولا يكتمون آراءهم ولا يقفون فى منتصف الطريق . لأن مصر الدولة ستنتصر فى النهاية رغم كل المعوقات.