كلما قرأت للطاهر مكي؛ أدركت أنه باحثٌ فنانٌ؛ وفنانٌ باحثٌ من الطراز الرفيع؛ لا؛ بل من العِيار الثقيل. فقد أحال الدراسات الأدبية، والنقدية، والتاريخية، والمقارنية؛ حيث عالَم الجهامة في الطرح، والانغلاق في الأسلوب، والبعد عن الجماليات في الأداء؛ بحجة اتباع المنهج العلمي.. أحال كل ذلك إلى وجهةٍ أخرى؛ فأتى الطاهر مكي؛ لينسف كل هذا الكلام من الأساس؛ وليهدم كل هذا اللغو من العمق؛ فأبحاثه، ودراساته في الذروة العليا من الموضوعية، والحيدة، والنزاهة، والمصداقية، والجِدَّة، والابتكار، والخيال الخصيب، والصياغة المحكمة القشيبة التي تخلب الألباب. ومن المعروف أن الطاهر مكي؛ هضم التراث العربي الإسلامي؛ وهو في مرحلة الطلب الأولى في الأزهر الشريف؛ فقرأ الأشعار العربية كلها، واطلع على النثر العربي، والنقد في العصور القديمة، وعرف مدارس الفلسفة وتياراتها، وعلم الكلام، والفِرَق، وساح في التاريخ الإسلامي والحضارة؛ يعبُّ منه ما وسعه ذلك.
فلا جرم؛ أن الطاهر مكي؛ زاول الأدب منذ قرأ للأعلام الكبار في العصر الحديث؛ وهو في مقتبل حياته، أمثال: أحمد حسن الزيات، وعباس العقاد، وطه حسين، والمازني، وأحمد أمين، وجبران، ومي زيادة، وحسين هيكل، والرافعي، وكرد علي، وشكيب أرسلان، واليازجيين، والبستانيين، والبارودي، وإسماعيل صبري، وشوقي، وحافظ، ومحرم، والزهاوي، وغيرهم من مشاهير العرب؛ ثم انفتحت ذائقته على كتابات: دانتي، وثرفانتيس، وشكسبير،، ومدام دي ستال، ومدام سفينيه، ومدام لافييت، وديكارت، وشوبنهور، وشيللر، وشيلي، ووردزورث، وجوته، وديكنز، وسنت بيف، وكروتشه، وشاتوبريان، وكوليردج، وكيتس، ولافونتين، وبوشكين، وتولستوي، وتشيخوف، وديستوفسكي، وماركس، ولينين، وتروتسكي، وفولتير، ولامرتين وموباسان، وكافكا، وإليوت، وسارتر، وراسل، وبلزاك، وروسو، وبرنارد شو، وجوركي، وبابلو نيرودا، وإميل زولا، وأناتول فرانس، وفان تيجيم، وجوتييه، وفاليري، ودي لاجرانخا؛ ثم تعمقت منهجيته وآراؤه بالعكوف على مدارسة ومقاربة المستشرقين بمدارسهم المختلفة؛ ومنهم الإسبان كـ: آسين بلاثيوس، وإميليو غرسيه غومث، وخوليان ريبيرا، وبالنثيا، وسانتشت البرنس، وأورتيجا دي جاسيت، والمستشرقة الإسبانية سوليداد خيبرت، وميننديث بيدال، والمستشرق الأميركي إرفنج وشنجتن، والمستشرق الروسي كراتشكوفسكي، والمستشرق الألماني فون شوك، والمستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال، والمستشرق الفرنسي هنري بيريس، وغيرهم.
ذات يومٍ؛ تشجَّعتُ، وفاتحتُ أستاذي الطاهر مكي عن سر نصاعة أسلوبه، وروعة عباراته، ودقته المنهجية، ومدى التزامه بقواعد البحث في كل دراساته وبحوثه وترجماته وتحقيقاته؛ فضحك؛ ثم قال بكل تواضعٍ وأمانة: "الكتابة عملية صعبة جداً يا بُنَيَّ؛ فالمقال الواحد؛ أكتبه ثلاث مرات؛ وفي كل مرَّةٍ؛ أُعيدُ صياغته من جديد؛ بالتقديم والتأخير، والحذف والإضافة؛ حتى يستوي على سوقه؛ ويصبح كالعروس في جلوتها"! فتذكرت ما نقرأه اليوم؛ وتساءلت بعجب وأسىً: إذا كان حال الطاهر مكي مع المقال هكذا؛ فكيف تكون أحواله وطرائقه مع البحوث العويصة، والدراسات العميقة؟
أخذ الطاهر مكي من التراث العربي؛ القدرة على التحليق بجناح الفن والبلاغة؛ وهو ما نلمسه في مؤلفاته. وأخذ من الغرب؛ الإعجاب بالمعاني والمضامين؛ والغوص وراء الفحوى؛ والجديد في الطرح؛ فلا يكون اللفظ أكبر من المعنى، ولا العكس؛ وإنما العبقرية في الموازاة بين الاثنين؛ بقلم البحاثة الأديب؛ وهو ما أتقنه الطاهر مكي باقتدار يحسد عليه كثيراً. إذاً؛ فالطاهر مكي؛ لا يستسهل في عمله؛ ولا ينشغل إلا بالتحبير؛ فقد مزج بين المنهجية الصارمة، وبين الفن في أعلى درجاته؛ ولنقرأ له مفتتح كتابه الشهير "الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه" ففيه يقول بأسلوبه الساحر: "هذا كتاب أتعبني كثيراً، ومؤكد أن قارئه سوف يتعب معي؛ إذ كان عليّ أن أطوف بكل أركان الدنيا؛ بحثاً وراء الأدباء من كل الطبقات؛ عظاماً ومتوسطين، ولا شيء، والرّحالة، والمؤلفين، والأنواع الأدبية، والمذاهب النقدية، في لغات عديدة، وأسماء لا تنتهي.. ومع ذلك أحسست، وأنا أعاني كتابته بلذة لا تعدلها لذة، ومتاع لا يعدله متاع، وأثق أن متعة القارئ لن تقل عن متعتي بحال". وكتب الطاهر مكي في إهدائه كتابه "دراسة في مصادر الأدب" قائلاً؛ بأسلوبه المدهش الخلاب: "إلى راهبة... إلى قلب كبير، وعقل ذكي، وسعني ذات يوم؛ حين ضاقت بي الدنيا"؛ وكأنها قصة قصيرة جداً؛ أو ما يطلق عليه بالومضة اليوم؛ فقد حملت من المسكوت عنه ما جعل القارئ يفطن إليه، ويسرح خلفه؛ بروعة الكتابة؛ وتكثيفها؛ والثناء الحار على الحب القديم الذي حالت الظروف بينه وبين الظفر به وهو ما فطن إليه تلميذه الناقد الدكتور محمد عبد المطلب عندما كتب قبل عامين عن الطاهر مكي قائلاً: "أما قمة الإنسانية والوفاء لمسيرته الحياتية والعاطفية؛ فيمكن أن نطل عليها في إهدائه الناعم الذي قدم به كتابه "دراسة في مصادر الأدب، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1968م". وهو ما لاحظه تلميذه الدكتور يوسف نوفل؛ فقال عنه: "لا ينفصل عطاء الدكتور الطاهر مكي عن عوامل تكوينه، ومناخ نشأته وميلاد مواهبه، وروافد تغذيته وتثقيفه؛ وهو ما يمكن الوقوف على تفاصيله لمن يلم بتفاصيل سيرته، وخطوات مسيرته، وتقلب وجهه في آفاق المعرفة والعلوم، والتجارب والمواقف، وحله وترحاله، وبعثاته وأسفاره، ولغته المحلية، وبين ما اكتسب من لغات، وأطل من نوافذ، ونظر من كُوَى، وارتقى من منارات".
وأما الدكتور أحمد درويش؛ فقال عن أستاذه الطاهر مكي: "ويبقى من نقاط الصورة العامة التي رسمتها شخصية الدكتور الطاهر مكي خلال مسيرته العلمية التي تجاوزت نصف قرن... تبقى مسألة التقابل بين منهجين؛ هما: منهجية توسيع المجال، ومنهج تعميق الدائرة؛ وهما منهجان لكل منهما مزاياه ونقاطه التي تحسب له أو عليه"؛ أي الجمع بين رحابة الفنان الأديب؛ وصرامة الباحث ودقته.
وقال عنه الدكتور الراحل مجاهد الجندي أستاذ التاريخ والحضارة بجامعة الأزهر: "لقد أفاد أستاذي الطاهر مكي من اشتغاله بالصحافة الأدبية كثيراً؛ إذ وسَّعت من خياله، ومن تجويده الفني والأسلوبي؛ فكان عمدة الأدباء في بحوثه ومؤلفاته؛ وكان شيخ العلماء في منهجيته وصرامته. وقد أفادته سياحته الفكرية مع المستشرقين؛ فاقترب من العقلية الغربية في التأليف؛ ولم ينس شرقيته وعروبته أيضاً".
المصدر http://www.alhayat.com/article/4629055/ثقافة-و-مجتمع/تراث/أسلوب-الطاهر-مكي-بين-صرامة-الباحث-ورهافة-الفنان