حوار : تهـاني صـلاح - هاشم أبو العمايم.
مِن علمه الغزير صارتْ له مدرسةٌ يؤمها مريدوه من المحيط إلى الخليج !..ومن أخلاقه العالية صار إمام الزاهدين المتواضعين؛ بل أقرب ما يكون إلى أهل الورع..ومن إنسانياته ومواقفه النبيلة .. بات أباً للكبار والصغار على حدٍّ سواء .. فأينما حلَّ امتلأ المكان بعبق السلف الصالح؛ حتى خِلتَ أنك سترى الجنيد، والحلاج، والسهروردي، وابن عربي في شخصه. ولم يكتفِ بذلك؛ بل جمع إلى عالمه الفني والأدبي والأكاديمي شخوص العباقرة: بابلو نيرودا، وغرسيه غومث، وخوليان ريبيرا، ودومينجو باديا، ودانتي، وابن حزم، وهنري بيرس، وفون شوك، وليفي بروفنسال، والمبشر بن فاتك، وابن عربي، وغيرهم من عباقرة الشرق والغرب.
إنه الدكتور العلامة الطاهر أحمد مكي حجة الأدب، وإمام الدراسات الأندلسية، وعميد الأدب المقارن عربياً، والمحقق الشهير، وأستاذ الأجيال بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وعضو مجمع الخالدين ، وعضو المجالس القومية المتخصصة، ورئيس لجنة الدراسات الأدبية الأسبق بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضو مجلس إدارة دار الكتب والوثائق المصرية، ورئيس جمعية دار العلوم، ورئيس تحرير مجلة»أدب ونقد» سابقاً.
وبمناسبة بلوغه التسعين أصدرت صحيفة دار العلوم الفصلية المُحكَّمة القاهرية عدداً خاصاً عنه شمل دراسات، وشهادات، وأشعاراً عنه، وبحوثاً عن مؤلفاته، وتحقيقاته، وترجماته، وآرائه في الأدب، والنقد، واللغة، والشعر، والتاريخ، والأدب المقارن الذي صار له شيخاً وإماماً.
من أجل ذلك، كان هذا الحوار الذى أفاض فيه العلامة الطاهر مكى عن البدايات .
..........................................................
> نبدأ بالمحطة الأولى من صعيد مصر»قنا»مسقط رأسك .. فما مدى تأثيرها فى حياتك الإبداعية؟.
أول وأهم محطة فى حياتى هو»كُتاب القرية» وكان الشيخ الذى يحفظنا القرآن كفيفاً، وحفظت القرآن كاملا ًفى هذه السن المبكرة من الذاكرة، وبرغم أنه لم يعلمنا الكتابة إلا أن كُل جيلى من الكُتاب تميز بالخط الجميل،ولا نعلم من أين جاء هذا الخط الحسن... والمحطة الثانية كانت فى معهد قنا الأزهري، حيث رفضت الالتحاق بمدرسة المعلمين الأولية، وكانت مقصورة على تخريج مدرس إلزامى، وكان أقرب معهد دينى فى أسيوط التى تبعد عن قريتى سبع ساعات بالقطار، ولكن لحسن الحظ فى السنة التى تقدمت فيها للمعهد صدر قرار بإنشاء معهد أزهرى فى قنا، وفى المعهد التقيت بشيخ كان يعمل بالصحافة اسمه محمد كامل عجلان، وأعجبت بأسلوبه، وكان يكتب فى جريدة الدستور مقالات بعنوان»ليالي العنجريب»وكان الناس فى الصعيد فى ذلك الوقت ينامون على أسِرَّة من جريد.
وكنت أقرأ جريدة الأهرام يومياً لى ولغيرى،وكانت تصل القرية نسخة واحدة يشترك فى ثمنها ثلاثة أشخاص، خالى وهو الوحيد الذى كان يعرف القراءة فى القرية، ورئيس النقطة برتبة شاويش، والعمدة. وكانت قيمة الاشتراك 120 قرشاً فى السنة يدفع كل منهم 40 قرشاً، وكان خالى يشترى مجلة بخمسة مليمات وكانت رائجة رواجا لا حد له اسمها»الإسلام»لأمين عبد الرحمن خاصة بالشئون الدينية، تحتوى على خطبة الجمعة وشرح حديث وتفسير آية ومقال دينى، وكان جارنا رجلاً أزهرياً فى كلية أصول الدين، عندما يأتى فى الإجازة الصيفية يشترك فى مجلة الرسالة، وكنت أقرأ كل هذه المجلات والجرائد وكل ما يقع بين يدي، وأعجبت بأسلوب الزيات وحفظت مقالاته، كل هذه القراءات أثرت فى ملكاتى الإبداعية.
وعندما ذهبت إلى المعهد بدأت أكتب بأسلوب جيد، وأراسل المجلات والصحف، وأنا فى الصف الثانى الابتدائي، ونشرت لى مجلة الرسالة فى البريد الأدبى، ومجلة رابطة الشباب.
> وكيف ذهبت إلى القاهرة؟.
وأنا فى الصف الرابع الابتدائى لفتُّ نظر أستاذي الشيخ عجلان؛ لأنني كان لى أسلوب، وكنتُ مهتماً بالقضايا العامة، برغم أنى قليل الحضور فى المعهد؛ لأن طريقة التدريس فى ذلك الوقت كانت مُمِلةً ولم أفهم منهم شيئاً، وسألنى الشيخ كامل عجلان ذات مرة: لماذا لم تذهب إلى القاهرة؟ فقلت له:إن الشيخ سليمان نوار شيخ المعهد بالقاهرة طرد الصعايدة كلهم إلى الوجه القبلى؛ فكيف يقبلنى.
ورجعت إلى القرية وفكَّرتُ فيما قاله الشيخ عجلان، وبرغم أن أبى كانت له عيوب كثيرة، إلا أنه كانت له فضيلة كبرى لا أنساها؛ فلم يكن يتدخل فى شئونى التعليمية، وقلت له: أريد أن أسافر إلى مصر؛ فسألنى:»هى مصاريفها كتير»؟ قلت له: أنت تُعطينى125 قرشاً ستزيد إلى 150 قرشاً؛ فوافق، وقررتُ السفر مع مجموعة من زملائي، وأثناء عبورنا نهر النيل لركوب القطار، وجدتُ والدى مُهرولاً نحونا وقال لى : إن الوزارة سقطت؛ والقاهرة مليئة بالمظاهرات؛ فإذا قُبِضَ عليك فلن أستطيع السفر إلى مصر، فضع ذلك فى ذهنك! وذهبنا للقاهرة بعد 15 ساعة سفرا، وتوجهنا مباشرة إلى المعهد، ووجدنا أن الشيخ نوار شيخ المعهد؛ قد صدر قرار بجلوسه فى بيته؛ على أن يتولى الوكيل الشيخ عبد الآخر أبو زيد مكانه، وكان صعيدياً، ودخلتُ عليه، وطلبتُ منه التحويل إلى المعهد؛ فوافق وكتب»يُقبَل ويُكتَب فى الفصول، ويُرسَل إلى المعهد؛ لحين إرسال ملفه». وذلك على عكس ما يتم؛ فعادةً لا يُقبَل الطالب إلا بعد وصول ملفه، وكانت المظاهرات فى ذلك الوقت لا تتوقف، ومع الأسف أخذتنى المظاهرات بقوة، ولم أذهب إلى المعهد، وفى ذلك الوقت كانت الأوقاف توزع إيراداتها على طلاب الأزهر كلّ حسب مذهبه، وكان نصيبى 27٫5قرشاً كل شهر.
> عملت بالصحافة وأنت ما زلت طالباً بالمعهد ..فكيف التحقت بها؟.
عندما جاءت الإجازة الصيفية قررت عدم الذهاب إلى القرية، وقرأت إعلاناً فى إحدى الجرائد يقول»من آداب السلوك إن كان لديك مدعوين، كيف لك أن ترتبهم على السفرة ..بمن تبدأ، وفى آخر الإعلان يقول: لا تنسى أن تسقيهم شاى البحار»وهذا التاجر الذى كان يروج لبضاعته»الشاى»قرَّر أن يُصدِر جريدة، وطلب محررين؛ فذهبتُ لنائب قريتنا، واتصل به والتقيته؛ فوجدته تاجراً لا مثيل له، لديه مكتبة أكبر من مكتبتى هذه، ويشترى كل الصحف والمجلات والكتب الجديدة؛ فعملتُ معه، هو يكتب الأخبار، وأنا أُحرِّر بقية الأبواب. وعنده قرأتُ كل الكتب والجرائد والمجلات، واستفدت منه استفادة بالغة، وكنت أحصل على جنيه كل شهر، وعندما طلبتُ منه زيادة المبلغ، قال لى:إنَّ المجلة نصف شهرية ولا تهدف للربح، وعرض عليَّ أن أُصحِّح مجلة»الغرفة التجارية»وكان عضواً بها، وبدأتُ أصححها مقابل خمسة جنيهات، كان ذلك عام 1948.وفى ذلك الوقت تعرَّفتُ على الأستاذ محمد مصطفى حمام وكان صحفياً، وألمعياً فى الشعر، وكان يكتب الخطب المسجوعة للنحاس باشا وفؤاد سراج الدين، وفى إحدى المرات قال لى:إنَّ أنيس سراج الدين سيصدر مجلة «النداء» الأسبوعية، وطلب منى العمل مُصححاً فيها؛ فوافقت ..واستقر بي الحال فى القاهرة، ثم بدأتُ أكتب فى جريدة «الكتلة» لمكرم عبيد باشا، ثم «الزمان».
> ومتى بدأت تكتب فى جريدة الأهرام؟.
بدأت أكتب فى جريدة الأهرام، وأنا طالب للدكتوراة فى الأندلس، كتبتُ مقالاً أرسلته إلى الأهرام الاقتصادي بعنوان:»التجسس الصهيونى كما تُصوِّره رواية إسبانية»وفوجئت بنشره على صفحة كاملة فى ملحق عدد الجمعة الذى كان يشرف عليه لويس عوض، فى ذلك الوقت كانت جريدة «الأهرام» توزع مليون نسخة، ، فقمت بترجمة العديد من القصص الإسبانية، ونشرتْ جميعها فى العدد الأسبوعي للأهرام .
وبهذه المناسبة أريد أن أقول:إذا كان هناك من يفخر بأم كلثوم، وعبد الوهاب، ونجيب محفوظ، فلابد أن نفخر أيضاً بمحمد حسنين هيكل؛ لأنه استطاع أن يجعل من جريدة الأهرام صحيفةً صنعها مصريون، وكان يُعاب عليها أنها صحيفة الشوام ..فهو رجلٌ ألمعيٌ جعل من الأهرام صحيفة على أعلى مستوى.
> كتبت عن أعلام عصرك من الشعراء والأدباء ..فهل هذا يعد تأريخاً لتلك الفترة.. أم أنه حب لهؤلاء الأشخاص؟.
الحقيقة أننى أستاذ فى الكلية التى تُوجِّهنى، والطلبة يحتاجون إلى كتاب، وكنت قائماً على مبدأ؛ أننى لا أعطى للطلاب تحليلاً، ولكن أُعطيهم قصصاً، وأُعلِّمهم كيف نُحلِّلها، وأحياناً نختار أفضل القصص كنماذج عليا، ولا أُعطِي قصصاً مصرية فقط، بل قصصاً عربية؛ من تونس والمغرب والجزائر،واكتشفتُ أن القصة التونسية متقدمة عن المصرية فى التقنيات، هم يُخطِئون فى اللغة العربية، ولكن تقنيات القصة هم أسبق منا، وذلك نتيجة صلتهم بالأدب الأجنبى الراقي، وقليل جداً من قصاصينا من يقرأ فى اللغة الأجنبية، وهذا عيبٌ لابد من الالتفات إليه؛ لذلك أقول بصراحة: الأستاذ الذى لا يعرف لغتين يقرأ بهما؛ لا يصلح أن يكون أستاذاً! فهؤلاء الأعلام كتبتُ عنهم لتدريس أعمالهم للطلاب.
> قلت فى إحدى دراساتك عن إحسان عبد القدوس:إنه مدرسة قائمة بذاتها، وأنك لم تجد كاتباً تصدق عليه مقولة»الفن صورة عصره»مثل إحسان ...لماذا؟.
كُتاب الرواية والقصة اتجاهات ..فنجد نجيب محفوظ منذ البداية اتجه إلى القاعدة الشعبية وتمكن منها، وهو لم يستخدم اللغة العامية إطلاقاً، ولا يحبها، أما إحسان؛فعاش فى وسط صحفي، والده ممثل، وأمه صحفية قديرة، ومَن لم يرها، لا يُدرِك حزم النساء؛ فكانت قاسية وشديدة؛ لدرجة أنه عمل بصحيفة أخرى.
ويقول إحسان:إنه عرف الطبقة الوسطى – البرجوازية- ولم يكتب عنها أحد، ومعظم أبطاله من هذه الطبقة، وكان صاحب أسلوب، ويعرض للمسائل الشائكة؛ بأسلوب متفرد ومقبول. بدأ حياته باللغة العامية، لكنه رجع إلى القصص والروايات التى كتبها بالعامية، وعرَّبها باللغة العربية، ولما سُئل قال :جاءتني مجموعة قصص عراقية باللغة العامية، ولم أفهم منها شيئاً؛ فأدركت فى الحال: أن الآخرين أيضاً؛ إذا كتبنا لهم بالعامية المصرية لا يفهموننا؛ فقررت تعريب كل ما كتبته بالعامية إلى اللغة العربية.
> اهتماماتك واسعة فى التأليف، والتحقيق، والترجمة، والقصة، والنقد الأدبي، والتدريس وغيرها ..فأين يجد الطاهر مكى نفسه بين هذه الاتجاهات؟.
أجد نفسى فى العمل أياً كان ..كانت هناك امرأة عربية لديها 13 ولداً، وسئلت أيُّ بنيك أفضل؟ قالت: فلان ..لا بل فلان ..حتى أتت عليهم جميعاً، ثم قالت:ثكلتهم جميعاً؛ إن كنت أعلم أيهم أفضل؛ فهم كالحلقة المفرغة لا ندري أين طرفاها؟!.
وأنا عندما أعمل عملاً أضع جهدى وذوقى كله فيه، وبعد الانتهاء منه، أعود قارئاً عادياً له، وكثيراً جداً أعجب من نفسي، كيف كتبتُ هذا الكلام، وإن أردت أن أكتبه من جديد؛ لم أستطع! وهذا حال كل مبدعٍ؛ عندما يكتب يكون فى حالة نفسية أعلى وأعمق من الحالة العادية، وبعد الانتهاء يعود لطبيعته الأولى! فليس لديَّ كتابة أفضل من أخرى، ولكن لديَّ كتب حظها كان أفضل وراجت رواجاً لم أتوقعه، وبعض الكتب التى أعتز بها وبذلت فيها مجهوداً كبيراً؛ لم تلق حظها.
> أنت شاهد على عصرٍ بأكمله ..فكيف ترى واقع الثقافة فى مصر ؟.
أنا أخذت على نفسى عهداً ألا أكذب وطني، ولا مواطنى، الثقافة عندنا تدهورت، واللغة العربية منهارة فى المدارس، وهى أساس التعليم، وليس إصلاح التعليم معناه اضطهاد المدرسين، لابد أن نعيد للمُدرِّس احترامه، وجدية الامتحانات، وإذا كنا جادين؛فلا بد أن نعود إلى ما كان عليه التعليم، والعناية باللغة العربية، والكتاتيب التى تحفظ القرآن الكريم، وهى ما زالت موجودة فى القرى، والقرآن لغة قبل أن يكون عقيدة.
وأن نعاود النظر فى مناهج كلية دار العلوم مرة أخرى؛ فهي كل يوم فى تراجع وانهيار، وعندما أنظر إلى ما يحدث فى دار العلوم أبكي عليه! أيامنا فى دار العلوم؛ كان لا يتولى كرسى الأستاذية؛ إلا من ذهب بعثةً، وتعلم مناهج البحث، والخلق الجامعي، والجدية فى التعامل!
وبمناسبة بلوغه التسعين أصدرت صحيفة دار العلوم الفصلية المُحكَّمة القاهرية عدداً خاصاً عنه شمل دراسات، وشهادات، وأشعاراً عنه، وبحوثاً عن مؤلفاته، وتحقيقاته، وترجماته، وآرائه في الأدب، والنقد، واللغة، والشعر، والتاريخ، والأدب المقارن الذي صار له شيخاً وإماماً.
من أجل ذلك، كان هذا الحوار الذى أفاض فيه العلامة الطاهر مكى عن البدايات .
..........................................................
> نبدأ بالمحطة الأولى من صعيد مصر»قنا»مسقط رأسك .. فما مدى تأثيرها فى حياتك الإبداعية؟.
أول وأهم محطة فى حياتى هو»كُتاب القرية» وكان الشيخ الذى يحفظنا القرآن كفيفاً، وحفظت القرآن كاملا ًفى هذه السن المبكرة من الذاكرة، وبرغم أنه لم يعلمنا الكتابة إلا أن كُل جيلى من الكُتاب تميز بالخط الجميل،ولا نعلم من أين جاء هذا الخط الحسن... والمحطة الثانية كانت فى معهد قنا الأزهري، حيث رفضت الالتحاق بمدرسة المعلمين الأولية، وكانت مقصورة على تخريج مدرس إلزامى، وكان أقرب معهد دينى فى أسيوط التى تبعد عن قريتى سبع ساعات بالقطار، ولكن لحسن الحظ فى السنة التى تقدمت فيها للمعهد صدر قرار بإنشاء معهد أزهرى فى قنا، وفى المعهد التقيت بشيخ كان يعمل بالصحافة اسمه محمد كامل عجلان، وأعجبت بأسلوبه، وكان يكتب فى جريدة الدستور مقالات بعنوان»ليالي العنجريب»وكان الناس فى الصعيد فى ذلك الوقت ينامون على أسِرَّة من جريد.
وكنت أقرأ جريدة الأهرام يومياً لى ولغيرى،وكانت تصل القرية نسخة واحدة يشترك فى ثمنها ثلاثة أشخاص، خالى وهو الوحيد الذى كان يعرف القراءة فى القرية، ورئيس النقطة برتبة شاويش، والعمدة. وكانت قيمة الاشتراك 120 قرشاً فى السنة يدفع كل منهم 40 قرشاً، وكان خالى يشترى مجلة بخمسة مليمات وكانت رائجة رواجا لا حد له اسمها»الإسلام»لأمين عبد الرحمن خاصة بالشئون الدينية، تحتوى على خطبة الجمعة وشرح حديث وتفسير آية ومقال دينى، وكان جارنا رجلاً أزهرياً فى كلية أصول الدين، عندما يأتى فى الإجازة الصيفية يشترك فى مجلة الرسالة، وكنت أقرأ كل هذه المجلات والجرائد وكل ما يقع بين يدي، وأعجبت بأسلوب الزيات وحفظت مقالاته، كل هذه القراءات أثرت فى ملكاتى الإبداعية.
وعندما ذهبت إلى المعهد بدأت أكتب بأسلوب جيد، وأراسل المجلات والصحف، وأنا فى الصف الثانى الابتدائي، ونشرت لى مجلة الرسالة فى البريد الأدبى، ومجلة رابطة الشباب.
> وكيف ذهبت إلى القاهرة؟.
وأنا فى الصف الرابع الابتدائى لفتُّ نظر أستاذي الشيخ عجلان؛ لأنني كان لى أسلوب، وكنتُ مهتماً بالقضايا العامة، برغم أنى قليل الحضور فى المعهد؛ لأن طريقة التدريس فى ذلك الوقت كانت مُمِلةً ولم أفهم منهم شيئاً، وسألنى الشيخ كامل عجلان ذات مرة: لماذا لم تذهب إلى القاهرة؟ فقلت له:إن الشيخ سليمان نوار شيخ المعهد بالقاهرة طرد الصعايدة كلهم إلى الوجه القبلى؛ فكيف يقبلنى.
ورجعت إلى القرية وفكَّرتُ فيما قاله الشيخ عجلان، وبرغم أن أبى كانت له عيوب كثيرة، إلا أنه كانت له فضيلة كبرى لا أنساها؛ فلم يكن يتدخل فى شئونى التعليمية، وقلت له: أريد أن أسافر إلى مصر؛ فسألنى:»هى مصاريفها كتير»؟ قلت له: أنت تُعطينى125 قرشاً ستزيد إلى 150 قرشاً؛ فوافق، وقررتُ السفر مع مجموعة من زملائي، وأثناء عبورنا نهر النيل لركوب القطار، وجدتُ والدى مُهرولاً نحونا وقال لى : إن الوزارة سقطت؛ والقاهرة مليئة بالمظاهرات؛ فإذا قُبِضَ عليك فلن أستطيع السفر إلى مصر، فضع ذلك فى ذهنك! وذهبنا للقاهرة بعد 15 ساعة سفرا، وتوجهنا مباشرة إلى المعهد، ووجدنا أن الشيخ نوار شيخ المعهد؛ قد صدر قرار بجلوسه فى بيته؛ على أن يتولى الوكيل الشيخ عبد الآخر أبو زيد مكانه، وكان صعيدياً، ودخلتُ عليه، وطلبتُ منه التحويل إلى المعهد؛ فوافق وكتب»يُقبَل ويُكتَب فى الفصول، ويُرسَل إلى المعهد؛ لحين إرسال ملفه». وذلك على عكس ما يتم؛ فعادةً لا يُقبَل الطالب إلا بعد وصول ملفه، وكانت المظاهرات فى ذلك الوقت لا تتوقف، ومع الأسف أخذتنى المظاهرات بقوة، ولم أذهب إلى المعهد، وفى ذلك الوقت كانت الأوقاف توزع إيراداتها على طلاب الأزهر كلّ حسب مذهبه، وكان نصيبى 27٫5قرشاً كل شهر.
> عملت بالصحافة وأنت ما زلت طالباً بالمعهد ..فكيف التحقت بها؟.
عندما جاءت الإجازة الصيفية قررت عدم الذهاب إلى القرية، وقرأت إعلاناً فى إحدى الجرائد يقول»من آداب السلوك إن كان لديك مدعوين، كيف لك أن ترتبهم على السفرة ..بمن تبدأ، وفى آخر الإعلان يقول: لا تنسى أن تسقيهم شاى البحار»وهذا التاجر الذى كان يروج لبضاعته»الشاى»قرَّر أن يُصدِر جريدة، وطلب محررين؛ فذهبتُ لنائب قريتنا، واتصل به والتقيته؛ فوجدته تاجراً لا مثيل له، لديه مكتبة أكبر من مكتبتى هذه، ويشترى كل الصحف والمجلات والكتب الجديدة؛ فعملتُ معه، هو يكتب الأخبار، وأنا أُحرِّر بقية الأبواب. وعنده قرأتُ كل الكتب والجرائد والمجلات، واستفدت منه استفادة بالغة، وكنت أحصل على جنيه كل شهر، وعندما طلبتُ منه زيادة المبلغ، قال لى:إنَّ المجلة نصف شهرية ولا تهدف للربح، وعرض عليَّ أن أُصحِّح مجلة»الغرفة التجارية»وكان عضواً بها، وبدأتُ أصححها مقابل خمسة جنيهات، كان ذلك عام 1948.وفى ذلك الوقت تعرَّفتُ على الأستاذ محمد مصطفى حمام وكان صحفياً، وألمعياً فى الشعر، وكان يكتب الخطب المسجوعة للنحاس باشا وفؤاد سراج الدين، وفى إحدى المرات قال لى:إنَّ أنيس سراج الدين سيصدر مجلة «النداء» الأسبوعية، وطلب منى العمل مُصححاً فيها؛ فوافقت ..واستقر بي الحال فى القاهرة، ثم بدأتُ أكتب فى جريدة «الكتلة» لمكرم عبيد باشا، ثم «الزمان».
> ومتى بدأت تكتب فى جريدة الأهرام؟.
بدأت أكتب فى جريدة الأهرام، وأنا طالب للدكتوراة فى الأندلس، كتبتُ مقالاً أرسلته إلى الأهرام الاقتصادي بعنوان:»التجسس الصهيونى كما تُصوِّره رواية إسبانية»وفوجئت بنشره على صفحة كاملة فى ملحق عدد الجمعة الذى كان يشرف عليه لويس عوض، فى ذلك الوقت كانت جريدة «الأهرام» توزع مليون نسخة، ، فقمت بترجمة العديد من القصص الإسبانية، ونشرتْ جميعها فى العدد الأسبوعي للأهرام .
وبهذه المناسبة أريد أن أقول:إذا كان هناك من يفخر بأم كلثوم، وعبد الوهاب، ونجيب محفوظ، فلابد أن نفخر أيضاً بمحمد حسنين هيكل؛ لأنه استطاع أن يجعل من جريدة الأهرام صحيفةً صنعها مصريون، وكان يُعاب عليها أنها صحيفة الشوام ..فهو رجلٌ ألمعيٌ جعل من الأهرام صحيفة على أعلى مستوى.
> كتبت عن أعلام عصرك من الشعراء والأدباء ..فهل هذا يعد تأريخاً لتلك الفترة.. أم أنه حب لهؤلاء الأشخاص؟.
الحقيقة أننى أستاذ فى الكلية التى تُوجِّهنى، والطلبة يحتاجون إلى كتاب، وكنت قائماً على مبدأ؛ أننى لا أعطى للطلاب تحليلاً، ولكن أُعطيهم قصصاً، وأُعلِّمهم كيف نُحلِّلها، وأحياناً نختار أفضل القصص كنماذج عليا، ولا أُعطِي قصصاً مصرية فقط، بل قصصاً عربية؛ من تونس والمغرب والجزائر،واكتشفتُ أن القصة التونسية متقدمة عن المصرية فى التقنيات، هم يُخطِئون فى اللغة العربية، ولكن تقنيات القصة هم أسبق منا، وذلك نتيجة صلتهم بالأدب الأجنبى الراقي، وقليل جداً من قصاصينا من يقرأ فى اللغة الأجنبية، وهذا عيبٌ لابد من الالتفات إليه؛ لذلك أقول بصراحة: الأستاذ الذى لا يعرف لغتين يقرأ بهما؛ لا يصلح أن يكون أستاذاً! فهؤلاء الأعلام كتبتُ عنهم لتدريس أعمالهم للطلاب.
> قلت فى إحدى دراساتك عن إحسان عبد القدوس:إنه مدرسة قائمة بذاتها، وأنك لم تجد كاتباً تصدق عليه مقولة»الفن صورة عصره»مثل إحسان ...لماذا؟.
كُتاب الرواية والقصة اتجاهات ..فنجد نجيب محفوظ منذ البداية اتجه إلى القاعدة الشعبية وتمكن منها، وهو لم يستخدم اللغة العامية إطلاقاً، ولا يحبها، أما إحسان؛فعاش فى وسط صحفي، والده ممثل، وأمه صحفية قديرة، ومَن لم يرها، لا يُدرِك حزم النساء؛ فكانت قاسية وشديدة؛ لدرجة أنه عمل بصحيفة أخرى.
ويقول إحسان:إنه عرف الطبقة الوسطى – البرجوازية- ولم يكتب عنها أحد، ومعظم أبطاله من هذه الطبقة، وكان صاحب أسلوب، ويعرض للمسائل الشائكة؛ بأسلوب متفرد ومقبول. بدأ حياته باللغة العامية، لكنه رجع إلى القصص والروايات التى كتبها بالعامية، وعرَّبها باللغة العربية، ولما سُئل قال :جاءتني مجموعة قصص عراقية باللغة العامية، ولم أفهم منها شيئاً؛ فأدركت فى الحال: أن الآخرين أيضاً؛ إذا كتبنا لهم بالعامية المصرية لا يفهموننا؛ فقررت تعريب كل ما كتبته بالعامية إلى اللغة العربية.
> اهتماماتك واسعة فى التأليف، والتحقيق، والترجمة، والقصة، والنقد الأدبي، والتدريس وغيرها ..فأين يجد الطاهر مكى نفسه بين هذه الاتجاهات؟.
أجد نفسى فى العمل أياً كان ..كانت هناك امرأة عربية لديها 13 ولداً، وسئلت أيُّ بنيك أفضل؟ قالت: فلان ..لا بل فلان ..حتى أتت عليهم جميعاً، ثم قالت:ثكلتهم جميعاً؛ إن كنت أعلم أيهم أفضل؛ فهم كالحلقة المفرغة لا ندري أين طرفاها؟!.
وأنا عندما أعمل عملاً أضع جهدى وذوقى كله فيه، وبعد الانتهاء منه، أعود قارئاً عادياً له، وكثيراً جداً أعجب من نفسي، كيف كتبتُ هذا الكلام، وإن أردت أن أكتبه من جديد؛ لم أستطع! وهذا حال كل مبدعٍ؛ عندما يكتب يكون فى حالة نفسية أعلى وأعمق من الحالة العادية، وبعد الانتهاء يعود لطبيعته الأولى! فليس لديَّ كتابة أفضل من أخرى، ولكن لديَّ كتب حظها كان أفضل وراجت رواجاً لم أتوقعه، وبعض الكتب التى أعتز بها وبذلت فيها مجهوداً كبيراً؛ لم تلق حظها.
> أنت شاهد على عصرٍ بأكمله ..فكيف ترى واقع الثقافة فى مصر ؟.
أنا أخذت على نفسى عهداً ألا أكذب وطني، ولا مواطنى، الثقافة عندنا تدهورت، واللغة العربية منهارة فى المدارس، وهى أساس التعليم، وليس إصلاح التعليم معناه اضطهاد المدرسين، لابد أن نعيد للمُدرِّس احترامه، وجدية الامتحانات، وإذا كنا جادين؛فلا بد أن نعود إلى ما كان عليه التعليم، والعناية باللغة العربية، والكتاتيب التى تحفظ القرآن الكريم، وهى ما زالت موجودة فى القرى، والقرآن لغة قبل أن يكون عقيدة.
وأن نعاود النظر فى مناهج كلية دار العلوم مرة أخرى؛ فهي كل يوم فى تراجع وانهيار، وعندما أنظر إلى ما يحدث فى دار العلوم أبكي عليه! أيامنا فى دار العلوم؛ كان لا يتولى كرسى الأستاذية؛ إلا من ذهب بعثةً، وتعلم مناهج البحث، والخلق الجامعي، والجدية فى التعامل!
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/578209.aspx