اخلع نعليك وأنت تحاول الدخول إلى محراب هذا القديس
والعلامة القدير الشهير في الأوساط الأدبية والعلمية وعوالم الترجمة وساحات دراسات
الأدب الأندلسي والنقد الأدبي باسم الدكتور الطاهر احمد مكي؛ فلقد ولد الطاهر أحمد
مكي في عائلة تنتمي إلى قبائل المطاعنة في قرية كيمان المطاعنة التابعة لمركز إسنا
بمحافظة الأقصر (كانت تابعة لمحافظة قنا آنذاك) في 7 إبريل عام 1924م([1]).
التحق بالتعليم الأزهري، فحصل على الابتدائية من المعهد
الديني بقنا، ثم انتقل في المرحلة الثانوية إلى القاهرة. تخرج في كلية دار العلوم
بالقاهرة عام 1952م، وفي عام 1961م حصل على دكتوراه الدولة في الأدب والفلسفة
بتقدير ممتاز من كلية الآداب بالجامعة المركزية بالعاصمة الإسبانية مدريد.... وكل
هذا وأكثر معروف لدي محبيه وعارفيه ولكن وجبت الإشارة إليه كتوطئة ومدخل ضروري
للحديث عن شيخنا العالم الفذ.
ولا خاب من أسماه (الطاهر) وكأنه يعلم مسبقًا منذ خروجه
إلى عالمنا في عام 1924 أنه سيكون على رأس قائمة علماء عصره، وصاحب المواقف
الصريحة إبداعيًا وعلميًا وسياسيًا، ولم يلجأ على الإطلاق إلى الوقوف في المناطق
الرمادية التي يلوذ بها الكثيرون ممن يفضلون السلامة والمواربة على إعلان مواقفهم
من السلطة الحاكمة.... ولكنه يتمتع دائمًا بالحصافة في إبداء الرأي والإشارة من
طرف خفي إلى الأدب الفاعل من وجدان الشعوب التي تسعي إلى الحصول على الحرية،
ويستشهد في جزالة لفظ بالقصائد التي فجّرت الثورة في دولة الأندلس، ويترك للمتلقي
حرية الفهم للمعادلات الموضوعية والإسقاطات التي يحتوي عليها (النص الأدبي أو
القصيدة) دون إلحاح على المضامين التي يعلم جيدًا أنها وصلت إلى الوجدان والروح
داخل مستمعيه وجلسائه ومريديه- وأنا منهم- الذين يهرعون إلى أي محاضرة يكون على
رأسها هذا العملاق، ليجلسوا في مقاعد الدرس والتحصيل لينهلوا من علمه الموسوعة
وبئر معرفته الذي لا ينضب وكأنه السيل المدرار في عالم الأدب والأدباء.
لم يقتصر العلامة- دون هذا- على الولوج إلى عالم الأدب
والأدباء فحسب. وإنما كان له الرأي البارز في تذكيره المتواصل للمجتمع المصري
والغربي بأن الاستعانة بالأجنبي البعيد عن ثقافتنا لن يفيدنا في شيء، ولا طائل من
السعي خلف كل ما هو آت من الغرب، لأنهم يقيسون التقارب والمعرفة بمقياس المصالح
والأهواء التي لا تخدم مستقبل هذه الأمة العربية العظيمة، بل يسعي الأجنبي دائمًا
إلى تفكيك أواصر المجتمعات العربية ليصير له النفوذ والاستحواذ على كل مقدراتنا
ليطمس هويتنا وشخصيتنا التي علمت العالم كيف يكون الإنسان.
فلنقترب أكثر وأكثر بخطى حثيثة للولوج إلى أركان محراب
هذا العالم القدير.. لنطالع كيف قام الباحثون من تلامذته النجباء بتحليل كتبه في
مجالات البحث في الأدب المقارن، والذي كان من بين جهوده العلمية أيضًا ما قدمه
للدراسات الأندلسية حيث كان الأدب الأندلسي إحدى البصمات المميزة في أعماله مثل:
كتاب (دراسات عن ابن حزم الأندلسي)، وكتاب (طوق الحمامة) الذي استند فيهما على
المخطوطة الأساسية وهي كتاب (طوق الحمامة في الألفة والآلاف/ لابن حزم الأندلسي
القرطبي)... وهو بهذا يثبت أنه يقف على قدميه راسخًا جنبًا إلى جنب مع علماء
التراث الإنساني وسيؤرخ لوجوده بينهم كأحد نجباء العصر الحديث مع علماء التراث
الإنساني المتعطش إلى العلم والمعرفة والتعريف بكل إنجاز العنصر البشري على مر
العصور والأزمان، فهو بحق (عاشق الأندلس) والابن البار لها.
أما عن إسهاماته في حقل المقال فهي كثيرة ومتعددة، تنوعت
كتاباته للمقالات بين: الأدبي واللغوي، والمقال السياسي، وعهد إليه الإشراف على
عدد كبير من الرسائل العلمية ومناقشتها، إلى جانب ذلك كله اختير عضوا في مجمع
الخالدين ومازال عطاؤه فيه مستمرًا حتى الآن.
وقام شيخنا العلامة الكبير بالتقديم لكثير من الكتب في
مجالات مختلفة، كان من بينها تقديمه (بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال)... أي أنه
لم يتوقف عند حدود الدراسات الأدبية واللغوية، بل دخل إلى عالم الشعر والشعراء
ناقدًا واعيًا لما يكتبه الشعراء- خاصة الثوار منهم- الذين يضعون على أكتافهم
إبداعاتهم الممزوجة بهموم وقضايا أوطانهم، مؤكدًا عن طريق أبحاثه ودراساته التي لا
تتوقف ولم تقتصر على الدراسات والإبداعات التقليدية بل اهتم أيضًا بالإبداعات
الحديثة لكونه يعشق الإبداع الذي يحمل بين جنباته قضايا الحق والخير والجمال....
والحرية!
ولكن: هل تختلف شخصية المبدع الذي يقبع خلف كتبه وأوراقه
وأضابيره راهبًا في محراب الفكر والفلسفة ليعطينا كل هذا الإبداع عن الإنسان الذي
بداخله؟! وإن أردت التحدث عن الشخصية الإنسانية فحدث ولا حرج، ولك أن تفتح كل
قواميس السماحة والكرم والحب اللانهائي لكل من يقابله من العارفين وغير العارفين
به، ليفتح ذراعيه مرحبًا بمقولته الشهيرة الحنونة الأبوية: يا ولدي... يا ابنتي،
وكأنه يحتوي الكون كله بين ذراعيه وهذا- والله- من شيم العلماء العارفين بأقدارهم
والذين وهبوا حياتهم للمعايشة بين صفحات التاريخ الإنساني يتصفحونه بالعقول
الواعية... ليزيدوا عليه من نور عيونهم وخلجاتهم الروحية ما سيكون تراثًا للأجيال
القادمة... ليذكروهم بكل الخير والتقدير والإعزاز.... وليقولوا عنهم: كانوا هنا!
مشاعره القلبية:
وليس من قبيل التلصص أو التدخل في شأن المشاعرالقلبية
لهذا الإنسان النبيل الذي عشق الشعر وسبح بمهارة في عوالمه متذوقًا وشارحًا
ومحللاً وناقدًا، والشعر هو المشاعر التي تنبع من صميم الروح.... هل لم يؤثر
(الشعر) في مشاعر هذا الإنسان، والشعر وليد كل خلجات الإحساس الإنساني؟ بالتأكيد،
فإن هذا الفارس في شبابه الغض كانت له صولات وجولات مع الجمال الأنثوي الأندلسي
الرائع والمعجون بالجينات الوراثية من القبائل العربية، نتيجة المصاهرة والالتحام
بالمجتمعات الأندلسية.... فيقول عن تلك المشاعر أنه: مثل كل كائن طبيعي التقي بمن
اهتزت له الجوانح والمشاعر، ولكن يبدو أن "كل قصة حب حقيقة تنتهي بمواقف
درامية أشبه بقصص وحكايات السينما، كما تواترت إلينا قصص الحب بين عنتر وعبلة وقيس
ولبني، وقيس وليلي وصولاً إلى حسن ونعيمة... فانتهت قصة حب هذا الرجل بدخول
الحبيبة إلى (الدير) بعد رفض عائلتها تزويجها إياه... ويدخل هو راهبًا في محراب
العلم والإبداع، ويمنح البشرية أبناء من (كتب) ستظل على مدى العصور نبراسًا لكل
طالبي العلم والعلوم، ولتلعب الأقدار لعبتها الأبدية ربما ليظل اسمه الذي
اختاره" (الطاهر) اسمًا على مسمى ورمزًا صادقًا في الإبداع، وصدقًا فيما
صنعته المقادير حين منح اسمه المجرد والمطبوع في شهادة ميلاده (طاهر) منذ الصغر
(ألف ولام) التعريف... ليصبح اسمه (الطاهر) الذي أصر على كتابته بتلك الصيغة منذ
شبابه كأنه كان يستشرف ما ستؤول إليه حياته فريدًا وحيدًا دون النيل بالحظوة في
اقتسام الحياة مع من اختارها قلبه في مطلع الشباب.... ويقول شيخنا عن هذه التجربة:
"التقيت هذه الفتاة المسيحية أثناء دراستي في
إسبانيا ورفضت عائلتها أن تتزوجني، فاتجهت فتاتي إلى الدير لتصبح راهبة ولم أتزوج
أنا منذ ذلك الحين، وقد حاولت الارتباط بغيرها وفشلت، وبعد ذلك تركت السفينة تسير،
ولكنها لم ترسو بعد، وأنا عادة أتقبل الأمور كما هي.
الزواج رغم متاعبه إلا أنه يقضي على الشعور بالوحدة التي
أحاول أن أتغلب عليها من خلال ما أعطيه من حنان يقابله عرفان لطلابي ولأقربائي،
وكما يقول الشاعر العربي القديم:
وما أدرى إذا يممت أرضًا أريد الخير
أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه
ولكننا لا نستطيع الفصل بين الشخصية الإنسانية وشخصيته
عالمًا كبيرًا عملاقًا لكونهما توأم الروح والجسد لديه... فنحار بينهما. وتأتي
دراستي عن هذا العملاق ضفيرة بين الشخصيتين تغلب إحداهما على الأخرى في سطوري...
فلا غرو في هذا... فالرجل مزيج من كل هذا الجمال الإنساني والأدبي.
عاشق الأندلس:
ولعل من الصواب أن أتوقف قليلاً عند شغفه باللغة
الإسبانية وحضارة الأندلس- وهو المتبحّر في علومها وأسرارها، فلم يبعده هذا الشغف
عن الانتصار الدائم للغة العربية الم، وانشغل بما تركه التأثير العربي في تلك
الحضارة الأندلسية، وكيف لعبت اللغة العربية دورًا في التأثير على اللغة
الإسبانية، فيقول عن ذلك: إن الكلمة الوحيدة التي دخلت الإسبانية واستدعت اهتمامي
هي كلمة (هدية) حيث كانت الهدايا شائعة في العصور الوسطى في الأندلس بين حكام
الدول وسفرائهم ووزرائهم، وليس الأفراد. وانتقلت الكلمة إلى اللغة الإسبانية ولكن
مع تعديل بسيط في ذلك الوقت، حيث كان حرف الهاء يكتب فاء، فكانت تنطبق (فدية) وفي
إحدى المرات رجعت إلى المعجم، أراجع ما معنى كلمة فدية، فوجدت في المعجم أنها كلمة
من أصل عربي، ومعناها (سبورنو) أي (رشوة) ([3]).
إذن هناك ألفاظ ة جدًا تمثل حضارة، وألفاظ تمثل لونًا من
العلاقات الاجتماعية وللتدليل على شغفه باللغة الإسبانية وحضارة الأندلس... أنه-
وللغرابة- قام بما اعتبره أنا- من وجهة نظري- منازلة أدبية لأدباء الأندلس عن أول
ملحمة كتبت في اللغة الإسبانية تحت اسم (القنبيطور) التي تعني (المحارب) أو
(السيد/ الذئب)؛ وهذه الملحمة لعبت دورًا مهمًا في الأحداث السياسية في بلاد
الأندلس، وكان الأسبان يعتبرون هذه الملحمة عن تلك الشخصية من الأساطير وقصص
التراث الشعبي التي تملأ تاريخ معظم الحضارات التي نشأت في تلك البقعة من العالم،
ولكن يعكف الدكتور الطاهر مكي على البحث والتنقيب والتحليل مستعينًا بكل ما كتب في
التراث، ليقيم الدليل على وجود تلك الشخصية فعلاً في الحياة، ويوضح بعد الدراسة
والتمحيص أنه شخصية حقيقة، وأوضح أنه كان مغامرًا لا ينتسب إلى الإسلام أو
المسيحية، ولا ينتمي إلى العرب أو الأسبان، ودرس زيف إدعاء الأسبان أنه كان بطلاً
أسبانيًا قوميًا... ثم قام بترجمة نص الملحمة التي كُتبت عنه وبيّن التأثيرات العربية
والإسلامية فيها، وليترك للمكتبة العربية أعظم الإنجازات في تاريخ الأدب العربي عن
حضارة الأندلس وتأثير الآداب العربية بوضوح عليها وعلى كل ما أنتجته قرائح الأدباء
في الغرب عامة!
ولكن القضية الأخطر التي يدافع عنها بثبات وثقة العالم
الجليل المتمكن من دراساته ومصادره وفكره في التصدي لأكاذيب المستشرقين الذين
يحاولن الإيحاء بأن دخول العرب إلى بلاد الأندلس كان احتلالاً. فيعتبر أستاذنا
الجليل أن هذا محض ادعاء كاذب وللأسف يساند هذا الرأي بعض العرب جهلاً وانسياقًا
خلف ما يبثه هؤلاء المستشرقون من فتن في هذا الصدد، ويدلل على هذا بأنه عند دخول
العرب إلى بلاد الأندلس لم يكن بها حكومة وطنية... بل حكومة من (القوط) الغربيين
الذين جاءوا من (ألمانيا)، وتبعية الأندلس للخلافة في دمشق دامت خمسين عامًا فقط،
بعدها استقل الأندلس عن العالم العربي تمامًا!
وقام الدكتور الطاهر مكي بالرد على من يقولون إن الخليفة
كان عربيًا بأن ملك أسبانيا من أصول فرنسية/ تمامًا كما كان (محمد علي) منشئ مصر
الحديثة ألبانيًا، فخليفة الأندلس رغم أنه كان عربيًا؛ لكن الدولة كانت مستقلة
وعلى خلاف مع العباسيين، وبالتالي لم تكن الأندلس مستعمرة عربية على الإطلاق، وهو
الخطأ الشائع الذي يقع فيه كل من يتصدى للكتابة عن الأندلس تحت وهم ما يسمي
بالاحتلال العربي. الله عليك أستاذنا الرائع... وهل أبلغ من ذلك للتدليل على عظمتك
وعلو قدرك بيننا!
علاقته بالتراث:
من الأهمية بمكان أن نستطلع رأي شيخنا الجليل في العمل
التراثي وما يعتريه من أزمات.... ونرى شيخنا حريصُا أشد الحرص على التوثيق
بالمستندات لحفظ هذا التراث الرائع لأنه عقل الإنسانية ومرجعها الأبدي فيقول
بلسانه في مقال عن أزمة العمل التراثي/ الملامح والأبعاد والمسئولية... ولعلي هنا
أستدعي ما قاله شيخنا (بحذافيره) لأنها مسئولية تاريخية تستوجب الأمانة في النقل
والتعريف بها:
"يضم التراث القومي العربي عنصرين أساسين متكاملين
لا يغني أحدهما عن الآخر: التراث المادي ممثلاً في المساجد والقلاع والحصون
والمدارس والمشافي والأسبلة، وغيرها من المقتنيات الفنية ويبقى شاهدًا ملموسًا على
منجزات الحضارة العربية، وما أسهمت به في مختلف العصور الإسلامية في تقدم الحضارة
الإنسانية.
ويتمثل العنصر الثاني في التراث الثقافي الذي أبدعه
أسلافنا، درسًا ملموسًا أو تأليفًا، في مجالات الفكر والعلم والأدب، وتحمله آلاف
المخطوطات العربية القابعة في المكتبات، على امتداد العالم؛ طبعت أو لم تزل
مخطوطة، في مكتبات عامة، معروفة ومفهرسة، أو في مكتبات خاصة؛ يعرف الكثير منها،
ولكننا نجهل الكثير أيضًا. وهذا التراث المادي، وربما كانت حاجته إلى هذه أكثر،
لأنه أكثر تعرضًا للتلف والهلاك والضياع.
في التراث العربي المكتوب تتجلى حضارتنا واضحة، هذه التي
تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، كانت في البدء حضارات شتى، ثم انصهرت جميعها عبر
القرون، في الحضارة الإسلامية، التي جمعت شمل هذه الأمة وجنبتها الفرقة والضياع في
هذا التراث تلتقي القضية المثارة الآن: الأصالة والمعاصرة بشقيها.
فالوجه الأول: وهو الأصالة، يتمثل جليًّا واضحًا في
تراثنا المكتوب، ونملك منه قدرًا هائلاً استقر في عشرات الآلاف من المخطوطات،
موزعة في حواضر المدن الإسلامية كلها، لا نستثنى منها مدينة كبيرة، رغم ما اندثر
من هذه المخطوطات نتيجة الفتن والاضطرابات والحروب، خلال الغزوين المغولي
والصليبي، وما أحدثاه من تدمير في مكتبات العراق والشام، وما سببته الفتن خلال عصر
الطوائف في الأندلس، أو ما أحرقه الأسبان غداة انتصارهم النهائي في نهاية القرن
الخامس عشر الميلادي إلى جانب ما سرق أو نهب من أعداد ضخمة، وانتهى به المطاف في
المكتبات والمتاحف الأوروبية بخاصة.
وأما المعاصرة: وهي الوجه
الثاني، فتتمثل في إننا يجب أن نصل إلى هذا التراث الضخم بكل ما استجد في عصرنا
الحديث من أجهزة ومناهج، تصويرًا وبحثًا وتحقيقًا ونشرًا، حتى نزيل عنها غبار
النسيان، ونردها إلى صورتها الأصلية، ونجعل منها موضعًا للدراسة الجادة، فتصبح
جسرًا إلى الحاضر، وتربط بين ماض مجيد، ومستقبل نأمل أن يكون زاهرًا، وتصبح سجلاً
للتطور الفكري والثقافي وحصاد مئات السنين من المعرفة الجيدة المتعمقة،وأن نبعث
الحياة في القوة الكامنة فيها، لتكون لنا مرشدًا وهاديًا.
أول ما يجب أن يسترعي اهتمامنا في المخطوطات التي
نملكها- عامة وخاصة- أنها في حاجة قصوى إلى مزيد من الصيانة والحفظ السليم، وأن
يرمم علميًا ما وهن منها، لأن المخطوطات حساسة بطبيعتها، ويؤثر عليها مرور الأيام
تأثيرًا سيئًا فيعرضها للتلف، ولعوامل ضارة متعددة، تعمل منفردة أو مجتمعة، وتربط
بالتفاعلات التي تحدث بين مادة المخطوطات والبيئة المحيطة بها، ويبدو ذلك واضحًا
حين تكون ظروف تخزينها أو غير ملائمة لطبيعتها، كعدم توفر درجة الحرارة الصالحة
للحفظ، وعدم التحكم في الرطوبة والإضاءة غير المناسبة، وعدم تجديد الهواءـ وتحليل
الغازات، وكلها تترك آثرها في مادة المخطوط نفسه فتظهر فيه البقع، وتتحلل الأحبار.
وقد يتعرض المخطوط لعوامل حيوية شديدة الخطر، تنجم عن
تأثير الجراثيم والفطريات والحشرات. وكل هذه العوامل أوجد لها العلم الحديث
علاجًا، ووسائل مقاومة، علينا أن نتابعها في مصادرها، وأن نأخذ بها.
وهناك عوامل وليدة الإهمال والتقصير في التناول والعرض،
والتعامل مع المخطوطات، يمكن القضاء عليها أو التخفيف منها، بتنمية الوعي بأهمية
المخطوط وضرورة المحافظة عليه".
وقد يغضب رأيه هذا الكثيرون من أجيال المبدعين
المحدثين.... هذا بالإضافة إلى أنه يري أن حركة الإبداع لابد أن تواكبها حركة
نقدية موازية ومواكبة لها، وبغير هذا لن يكون للإبداعات تأثيرها المرجو منها في
سبيل إثراء العقل والوجدان العربي، ولكنه يلتمس الأعذار للجيل الجديد لأنه يكتب
قبل أن يقرأ ويستوعب ولا يعيش التجربة كاملة حتى تنضج، ولا يبرئ النقاد من مشهد
هذه الأزمة التي يراها في مجال الإبداع بكل صنوفه وطرائقه، ورغم ذلك فهو يجنح إلى
التعاطف مع الشعراء الثوار الذين يضعون هموم أوطانهم على أكتاف شعرهم، فنراه في
هذا الصدد قد عكف على إصدار عدة كتب منها:
(امرؤ القيس حياته وشعره)، ودراسة في مصادر الأدب و
(بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال).... ويقدم للمكتبة العربية تحقيقًا شاملاً لكتاب
ابن حزم (طوق الحمامة)... وهو لا يريد من كل هذا جزاء ولا شكورًا.
ومن فرط عشقه للغة العربية نجده يغير عليها غيرة المحب
العاشق على الشعر الذي يكتب بالعربية لأنه في رأيه لا شعر خارج القصيدة
العمودية... وأن الشعر الجيد هو الشعر العمودي، وما هو خارج هذا النمط ليس شعرًا،
وأعظم قاعدة للحكم على صلاحية النص من عدمه، هو عدم تركه إلا بعد الانتهاء من
قراءته واستيعابه استيعابًا جيدًا ويترك أثره الفاعل في الوجدان، وتلك هي غاية
الأدب والمراد من وجوده بيننا في الحياة، لذا نجد أستاذنا الدكتور الطاهر مكي يحفظ
القصيدة الجميلة من القراءة الأولى وهذه ملكة يفتقدها الكثيرون من المبدعين
المحدثين، وما عدا ذلك يعتبره كلامًا يفتقد الإيقاع والموسيقا التي تفرض نفسها على
الإيقاعات الشعرية.
آراؤه السياسية:
ولعل من الإنصاف للرجل أن نقترب منه أكثر نتلامس مع وتر من
أوتار معزوفة سيمفونية حياته المديدة بإذن الله، وباعتباره فردًا من المواطنين
المصريين الذين يعيشون ويتعايشون مع موار الأحداث المجتمعية والسياسية في الشارع
السياسي المصري في مطلع شبابه..... حين اقترب ممن توسم فيهم أنهم من الداعين إلى
الإصلاح السياسي والمجتمعي؛ فكتب عنهم ببعض الإسهاب وعن مواقفهم- آنذاك- تجاه
الحراك السياسي، قبل أن يكتشف بالسليقة والمعايشة أنهم على غير ما كانت تعكسه
الظنون، فقام بكل شجاعة العالم الأثير والكبير مقامًا وعلمًا بالتنويه عن هذا دون
تجريح أو تشف لمعتقداته القديمة في وقت من الأوقات ومن حسن الطالع أن تكون له نظرة
إستشرافية للمستقبل السياسي لهؤلاء، ورأينا على الساحة الوجه الآخر- وربما القبيح-
من ممارسات أولئك الدعاة المدعين الذين جردتهم التجربة العملية في المعترك العملي
من ثوب البراءة ومسوح دعاة الإصلاح والتجديد وتعالوا بنا لنعرج قليلاً في محاولة
لإلقاء الضوء على ما يسمى في الأوساط الأدبية بـ (المسكوت عنه) سياسيًا في بعض
آراء شيخنا العالم الجليل في تركيبة الخريطة العربية، والطريق الأمثل للخروج من
هذا النفق المظلم الذي يحيط بها، فنراه يميل إلى تحميل جوقة النخبة والصفوة من
مثقفي عصره عواقب ما نحن فيه وضرورة الاضطلاع بدورهم الفاعل والحقيقي في الدفاع عن
القيم والمثل العليا، وذلك بالضغط على الحكومات وليس بالضرورة بإجبارهم على إعلان
الحرب المسلحة؛ وضرورة إيضاح دورهم في (مقاطعة التطبيع) الثقافي والاقتصادي مع
الكيان الصهيوني، بل ويعلن رأيه الصريح في أن الدفاع عن فلسطين هو دفاع عن مستقبل
مصر وأمنها وأمانها وأن الشرق الأوسط لا يتسع لنا ولإسرائيل، ويؤكد على إيمانه
العميق أن الكيان الصهيوني حتمًا إلى زوال طال الأمد أو قصُر.... ولكن على
المثقفين العبء الأكبر للقيام بدورهم الفاعل وليكونوا هم مصدر التنوير المستمر
لنخرج من هذا النفق الذي وضعنا أنفسنا فيه بتواكلنا، لتعود لمصر الريادة والقيادة
كما كانت على مرّ الزمانـ وهذا لا يتأتى إلا إذا لم ينسق (المثقف) الذي خرج إلى
الحياة العملية وهو يحمل كل الآمال في تغيير المجتمع إلى الأفضل... فيتلقفه من
يريدون إطفاء جذوة حماسه من المنتفعين داخليًا وخارجيًا، ويسعون إلى أن (يقتلوه
شبعًا) وإغرائه بالمناصب ليحيد عن الطريق السليم والأمثل الذي يجب أن يكون عليه
لاستفادة المجتمع بعلمه وثقافته وتطلعاته نحو تحقيق المجتمع الأفضل.
يا الله... على هذه التعبيرات التي لا تأتي إلا ممن
عركوا الحياة ونبذوا عيشة الترف ومضوا في طريقهم غير عابئين بمن يريدون أن (يقتلوه
شبعًا)، والبون شاسع بين من يؤمن عن عقيدة راسخة بالمبادئ السامية..... وبين من
يلعبون على كل التيارات بهدف الاستفادة اللحظية.... ثم الموت الإكلينيكي لكل
طموحاتهم التي بدءوا بها حياتهم.
وأنا أسوق هذا الجانب من جوانب حياته للتدليل على ضرورة
مراجعة النفس وبشجاعة في بعض الآراء التي قد تتغير بتغير الطقس والمناخ في
المجتمع؛ وبكل الجرأة ودون مهابة أو خوف من انتقاد لاذع من هنا أو هناك، والعجيب
أن تأتي رؤيته بكل المصداقية وكأنه كان يطل على المستقبل بالعين الواعية الثاقبة،
وليظل عملاقًا وسط العمالقة في زمن يتعطش إلى وجود أمثاله من الشرفاء ونعتبرهم
قاطرة الوطن إلى المستقبل الباهر والمشرف ليتبوأ مكانه الأمجد كما عهدناه في كل
العصور.
رأيه في الجوائز:
ورغم رحلة شيخنا الجليل الطويلة في عالم الأدب والأدباء،
وما أنتجته قريحته مما نعتبره من أمهات الكتب التي حققت الثراء في المكتبة
العربية؛ فإنه لم يسع لحصد الجوائز أو يتهافت للحصول عليها كما يفعل أرباع وأنصاف
مدعي الإبداع، بل إنه كان دائمًا على يقين أن الجوائز ستشق طريقها إليه رغم أية
عقبات أو عراقيل يضعها بعض الحاقدين في طريقه، ولكن ورغم كل المعوقات التي اعترضت
سبيله سعت إليه جائزة الدولة التقديرية في العام 1992 وجائزة التميز في العام 2009،
وكان رأيه دائمًا أن جوائز الشعر العربية قد انحرفت عن غايتها وتكالب على الإشراف
على لجانها المغرضون والفاشلون الذين أفسدوا الجوائز ففقدت رونقها وجمالها
وقيمتها، ولكنه يشير إلى بعض الجوائز كجائزة (اليماني) التي لا تزال تحتفظ بقيمتها
الأدبية لجدية القائمين عليها واختيار محكميها بشكل يليق بمن يرشح لنيلها... ومعظم
الجوائز تفشل وتفقدها قيمتها وجمالها لأن من يقوم بدور (المحكِّم) أقل ثقافة من
(المحكَّم له)، فكيف يحكم على القصيدة من لا يحسن قراءتها وكيف يبدي رأيه في ديوان
ولم يدرس علم العروض العربي؟!
وختامًا:
تُرى إلى أي مدى أنصفت هذا الرجل... وأنا من تقترتب من
محرابه في حذر كاقتراب الذّرة من المجرَّة التي تحتوي تلك العوالم من النجوم
والشموس والقمار التي تزين وتميز مشوار حياته الحافل بكل صنوف الإبداع الصادق
المائز، الذي يأتي من نهر كالسلسبيل العذب في مجراه.... يحنو على كل من يتناول
الإبداع في شتى الفنون والآداب من عارفيه وغير عارفيه.... وأغبط كل من التقى الرجل
وسعد بترحابه والمثول في رحابه، وعلى الجيل الحالي أن يترنم بأنه عاش في زمن
الطاهر مكي... رسول الإبداع الذي يأتي كأنه آتٍ من أنهار جنات الفراديس العليا.
****
الهوامش: